الأحد ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم صلاح محاميد

ميراس، ذاكرة وصينية بطاطا!

كان منتصف يوم الجمعة الحزينة، حينما ترجّل الأكاديمي ميراس من القطار في محطة البلدة الوضيعة، سان نازاريو، في شمال إيطاليا، حيث أسكن . كنت سألته هاتفياً ساعةً قبل ان يُصوب نحوي: " يا ميراس ماذا تفضل ان يكون غداؤك؟" اجابني بلكنتِهِ الدرزية: " مش جاي أجرْبك . ابغي ان اوصل الأمانة لك !" فاردفتُ " هل تفضل ان نتناول الغداء في ريستورانت او ان نتناول البيتسه او السمك او صينية بطاطا؟" . لم يتلكا ميراس " إذا كانت هيك المسأله خليها صينية!".
التفتَ في المحيط بعد نزوله من القطار، شوحت له فعرفني. قال:

  " الدكتور صلاح ، الشاعر المغترب ، قرأت عنك الكثير!"
أشعرني بأهميتي وأكمل:
 " كيف وصلت إلى هنا! لهذه القرية الخلابّه، لماذا تفضل الحياة هنا غريباً؟".
 " ما غريب الاّ الشيطان يا ميراس ! أصلي من اللجون، تلك السهول الممتدة على اقدام الناصرة. هذه بلدتي ، بناها قديس وُلد في روما وقد جاب رحاب الأرض وسافر إلى الناصرة قبل اكثر من الف سنة لإستلهام علومه ونشرِها لأبناء قبيلته ، وتُسمى حتى اليوم على إسمه: القديس النصراوي . لا أشعر بالغربة فتعاليم ابائنا راسخة في ذهن البشر!"
لم يوفر ميراس المجاملة بتذوقه صينية بطاطا اصليه ولم يأل جهداً في التدقيق في معالم حياة "بلدياته" المغترب ،إسداء النصيحه العلمية مظهراً توثبه لإكمال مسيرة النضال ، وحرصه على تسليمي الأمانة : "ذاكرة" للكاتب ، أبيه، سلمان ناطور.

كان ذيل عصر يوم الجمعة الحزينة حينما ودعت ميراس في طريقه الى مدينته العلمية بادوفا وكنت انوي السفر لقضاء عطلة الفصح خارج إيطاليا وتأجيل تناول الأمانة.
أثار ميراس ذاكرتي: هناك على سفوح الكرمل ، حيث قضيت مع زملائي الأرثوذوكس والدروز وآخرين، خلال دراستي في الكلية، قضينا اوقاتاً ما زالت نكهتها تحفز ذهني فأحجمت عن السفر وتوغلت في ألأمانة: "ذاكرة" سلمان ناطور.

يختزل الكاتب إستجواباته مع معمري بلادنا في طولها وعرضها على لسان " الشيخ ابو محمد" والذي جاوز العقد الثامن ونوى الرجوع ، على ظهر حمار ، من مخيم جنين الى مسقط رأسه ،خربة " أبو حرب " الواقعة بين عين حوض وعين غزال في قضاء حيفا ،لأنه ينوي ان يموت هناك .

يستدرج سلمان ناطور شيوخ فلسطين للبوح، فيستفيض لسان أبي محمد في الحديث عن حيثيات النكبة. يوثق أسماء قرى فلسطين المنسيه، شوارعها ، أحياءها، حاراتها، عاداتها ، تقاليدها. يشرح تفاصيل المعارك في جوانب فلسطين ، يذكر أسماء القادة، أسباب الهزيمة ، المآثر البطولية ، اسماء الشهداء في كل معركة بما جادت به ذاكرة شيوخ فلسطين . يشرح العلاقة بين عرب فلسطين ويهودها والآساليب البريطانية لتأجيج حرب أهلية بينهم والتي ما زلنا نكتوي بمخططاتها.
وهناك في " الذاكرة" إلقاء أضواء ساطعة على وهننا وتسليطها على ملابسات مؤامرة شارك فيها بنو جلدتنا وتأثير هذا لاحقاً في إستنهاض العالم العربي.

يسترسل الشيخ " أبو محمد" بعفويه في تعيين جماليات ونهفات الروح الفلسطينية مستسخفاً، دون علم منه وغير آبهٍ بذلك، قرارات عصبة ألأمم المتحدة. تلك العصابة والتي في ردح من التاريخ، بعد حربهم الوحشية الثانية(الحرب العالمية الثانية ) تقرر تمزيق شعب ، كياناً ، رمزاً وحضوراً.

في كتاب " ذاكرة" هناك أطلس ليس فقط لقرى فلسطين المهجورة عنوةً ، بل لنسيج إنساني لشعب قدم للإنسانية تعاليم أخلاق وأسباب إستمراريته في الوجود . هناك جمال فلسطين المتواضع والطيب. المباشر والصريح والذي لا يتحمل التنظيرات والتعقيدات الأيديولوجية. هناك طيبة النساء وترابط الإنسان مع محيطه ، تلك الجمالية التي وثّقت الفلسطيني مع أشجاره ، دابته ، وعبق الريحان والزعتر والنرجس وفوق كل شئ يعري ، سلمان ناطور، بذاكرة الشيخ ابي محمد، زيف وهرطقات من يريد ان يكون رائداً في التاريخ من أمثال جورج دابل بوش وحليفه؛ "الأدون ايهود اولمرت".
يجتمع ويقرر ممثلو عصابات الأمم لطمس معالم شعب وما زال سلمان ناطور يستنطق الضمير الذي لا يستغني عنه أي شعب .

اليوم ، يوم القيام، الصعود ، في هذا الفصح، ومع سلمان ناطور نرتل" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" . أجراس كنيسة بلدة "القديس النصراوي" ، حيث أسكن، تُذكر بتعاليم بانيها.
وهناك على سفوح الكرمل، في دالية الكرمل ، من ينتظرني ، وفي مدينة بادوفا القريبه وعدني ميراس بأكلة فلسطينية اصيله " تبولة كرملية".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى