الأربعاء ٢٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

مِسكُ الختامِ

في ثنائيّاتِ الصّراع

ممّا قدَّمتُ من فلسفةِ الصِّراعِ بينَ ثنائيَّاتِ الوجودِ المتناقضةِ، ندركُ أهمّيّةَ وجودِ هذا الصِّراعِ في حياتِنا ووجودِنا، والشَّيءُ - كما قيلَ - لا يُظهِرُه إلّا ضدُّه، كما قالَ الشَّاعرُ دوقلةُ في قصيدتِه (اليَتِيمة) الّتي قتلَتْ صاحبَها:

فَالوَجـهُ مثلَ الصُّبحِ مُبيَضٌّ
والشّــعرُّ مِثلَ اللَّــــيــلِ مُســـــــــــوَدُّ
ضِــــــدّانِ لِمّــا اسْتُجْمِـعا حَسُنا
وَالضِّدُّ يُظهِرُ حُســـــــنَهُ الضِّـــدُّ

إنّ منْ حكمةِ اللهِ عليْنا أنْ خلقَ لنا الأضْدادَ، فالشّيءُ لا يُمكنُ معرفتُه إلّا بمعرفةِ نقيضِه، فالنُّورُ لا يُعرفُ إلّا بالظَّلامِ، والوجودُ لا يُعرفُ إلّا بالعدمِ، والخيرُ لا يُعرفُ إلّا بالشَّرِّ، والصِّحَّةُ لا تُعرفُ إلّا بالمرضِ، والشّجاعةُ لا تُعرفُ إلّا بالجُبنِ، والعدلُ لا يُعرفُ إلّا بالظُّلمِ..

لا يُمكنُ للشَّمسِ أنْ تحجبَ أشعَّتَها عن الكونِ على مدارِ النَّهارِ مهْما تكاثفَتْ غيومُ الشّتاءِ.. وفي الظَّلامِ الدَّامسِ ندركُ قيمةَ النُّورِ، ولو كانَ على فتيلِ شمعةٍ أو سراجٍ يملأ الجوَّ دخاناً!

لا يُمكنُ للقمرِ أن يضِنَّ بنورِه للعاشقينَ على امتدادِ دياجيرِ اللّيلِ.. وفي اللّيالي الحالكةِ بالدَّيجورِ نُدركُ قيمةَ النُّورِ الّذي يبثُّه القمرُ ولو كانَ مَحَاقاً!

لا يُمكنُ للنَّسيمِ أن يُخفيَ همساتِه عن أجفانِ الزُّهورِ.. وفي حرِّ النَّهارِ ندركُ أهمّيّةَ النَّسيمِ على امتدادِ ساعاتِ اللّيلِ والنَّهارِ!

لا يمكنُ للقلوبِ الطّيّبةِ إلّا أنْ تفيضَ بعطرِ المحبَّةِ مهْما قسَتْ قلوبُ البشرِ.. وفي غمرةِ تصحُّرِ الأفئدةِ ندركُ عظمةَ القلوبِ الطّيّبةِ وأثرَها في نفوسِنا!

لا يمكنُ لصوتِ فيروزَ المخمليَّ السَّاحرَ في جمالِ الصَّباحِ أن يختنقَ في أعماقِ أرواحِنا، مهما تعالتْ أصواتُ ضجيجِ الخرابِ والدَّمارِ من حولِنا!

لا يمكنُ للحياةِ مهْما تصَحَّرتْ أن تُميتَ بذورَ الأملِ في نفوسِ البائسينَ!

لا يمكنُ للحياةِ مهْما قسَتْ أن تجتثَّ رقّةَ يرقاتِ الفراشاتِ في الحقولِ!

لا يمكنُ للعواصفِ مهْما زمجرَتْ أن تُسكِتَ أصواتَ البلابلِ على ضفافِ الأنهارِ والجداولِ!

لا يمكنُ للرّياحِ إلّا أنْ تُطِلَّ حاملةً غبارَ الطَّلعِ لتجديدِ الحياةِ في تُويجاتِ الزُّهورِ وبثِّ أكاسيرِ اللّقاحِ في ثنايَاها؛ كي تُثمرَ بعطائِها أشْهى سلالِ الفاكهةِ!

لا يمكنُ لملائكةِ الخيرِ في السَّماءِ إلّا أن تمدَّ أياديَها بالعطاءِ إلى البؤساءِ الّذين سطَتْ قبضةُ الجشعِ على لقمةِ عيشِهم، فحرمَتْهم من لذّةِ نعيمِ الحياةِ!

لا يمكنُ للبحارِ مهْما تمادَت بأمواجِها على اليابسةِ، ولطمَتْ خدودَها بصفعَاتِ الغضبِ والهمجيَّةِ، إلّا أنْ تتذكَّرَ أنّها بكلِّ عظمتِها وجبروتِها تستمدُّ بقاءَها ووجودَها من أحضانِ الأرضِ، كمَا أنَّ الجبابرةَ نُطَفٌ قذرةٌ ترعرعَتْ في أرحامِ أمَّهاتٍ لم تتلّوثْ أرحامُهنَّ بشهوةِ الإجرامِ، ولمّا تمادَتْ في طغيانِها، نسيَتْ من أينَ نشأَتْ وإلى أينَ تؤولُ؟!

لا يمكنُ لدياجيرِ اللّيلِ مهْما ادلهَمَّتْ أنْ تمحوَ أنوارَ الحباحبِ في أحضانِ الطَّبيعةِ الغارقةِ في أحلامِها!

لا يمكنُ لجرادِ الأرضِ مهْما غطّى سماءَ الطّبيعةِ بنهمِه وجشعِه أنْ يحصدَ جميعَ نباتاتِها بوريقاتِها الخضراءِ؛ لأنّ براعمَها تحملُ نبضَ التَّجدُّدِ والانبعاثِ والولادةِ!

لا يمكنُ لطبولِ الحربِ مهْما زمجرَتْ في الكونِ أن تُخرِسَ أنغامَ السّلامِ في أعماقِ النَّفسِ البشريّةِ!

لا يمكنُ لعصورِ الجهلِ والتَّجهيلِ مهْما سطَتْ وبغَتْ في الأرضِ أن تُطفِئَ بصيصَ أنوارِ المعرفةِ الحقيقيَّةِ المنبثقةِ من العقولِ القابعةِ في الظّلامِ!

لا يمكنُ لرمالِ الصَّحراءِ القاحلةِ مهْما ماجَتْ بكثبانِها أن تُميتَ جذورَ الحياةِ في نباتاتِها الصَّحراويّةِ على ندرتِها!

لا يمكنُ للشّقاءِ مهْما تلاطمَتْ أمواجُه العاتيةُ في بحارِ الحياةِ أن تقطعَ أنفاسَ السَّعادةِ في كيانِ مخلوقاتِها الّتي تتنافسُ من أجلِ البقاءِ!

لا يمكنُ لجلابيبِ التَّعاسةِ مهْما ادلهمَّ سوادُها أن تمحوَ أساريرَ الحُبورِ من وجوهِ البائسينَ والمعذّبينَ في الأرضِ!

لا يمكنُ للأشواكِ مهْما تطاولَتْ وتكاثفَتْ كخيوطِ العنكبوتِ أن تُخفيَ جمالَ زهرةٍ متواريةٍ بينَ شِباكِها!

لا يمكنُ للحديدِ مهْما صلُبَ وتباهَى بقوّتِه أنْ يقاومَ الصّدأَ الّذي تبتليهِ به قطراتُ النّدى النّاعمةُ كالحريرِ!

لا يمكنُ للَّونِ الرَّماديِّ مهْما ذاعَ صيتُه وبريقُه الخدّاعُ أن ينالَ من جمالِ السَّوادِ الموشَّحِ بالبياضِ!

لا يمكنُ لكلِّ مساحيقِ التَّلوينِ أوعمليّاتِ التّجميلِ مهْما بلغَتْ من الفنِّ والخِداعِ أن تُخْفيَ سنواتِ الضَّياعِ من العمرِ وآثارَ أخاديدِها الّتي حفرَتْها في الأجسادِ الأيّامُ ومشقَّاتُ السّنين!

لا يمكنُ لنهيقِ الحميرِ أو خوارِ البقرِ مهْما علاَ أن يُخفيَ جمالَ زقزقةِ العصافيرِ أو بهاءَ حفيفِ أوراقِ الشّجرِ حينًما يُلاطفُها النّسيمُ!

لا يمكنُ لذئابِ الأرضِ مهْما تعاظمَ جشعُها للافتراسِ أن تُفنيَ قطعانَ الماشيةِ الّتي دأبَتْ على الخيرِ والعطاءِ والسّلامِ!

لا يمكنُ لفراعنةِ الأرضِ مهْما استفحلَ طغيانُها وجبروتُها إلّا أن تخضعَ لقانونِ السّماءِ، فتودِّعُ الحياةَ صاغرةً لا تملكُ من قصورِها الّتي شيّدتْها إلى السّماءِ غيرَ لحْدٍ ترابيٍّ حقيرٍ!

لا يمكنُ لقبضةِ الظُّلمِ مهْما امتلكَتْ من قوّةٍ أن تُسكِتَ صرخاتِ الألمِ الّتي من رحمِها تُولّدُ سيوفُ الحقِّ والعدلِ والحرّيّةِ!

لا يمكنُ لأعاصيرِ الحقدِ والكراهيةِ مهْما اشتدَّتْ أن تخنقَ أنفاسَ المحبّةِ والتّسامحِ في أعماقِ الذّاتِ الإنسانيّةِ النَّبيلةِ!

لا يمكنُ لكلِّ قيودِ العبوديّةِ مهْما بلغَتْ من السَّطوةِ أن تكسِرَ عزيمةَ الأحرارِ، وإن كانُوا في غياهبِ زنزاناتِ الرُّعبِ والقهرِ والموتِ!

لا يمكنُ لحرائقِ الشّرِّ مهْما اشتدَّ لهيبُها أن تُحرقَ جميعَ براعمِ الخيرِ في أعماقِ الذّاتِ الآدميّةِ!

لا يمكنُ لمظاهرِ البذخِ والتّرفِ في قصورِ الأثرياءِ أن تُخفيَ معالمَ الجمالِ في بيتٍ ترابيٍّ تزقزقُ العصافيرُ فوقَ حجارةِ جدرانِه، ويترنَّمُ على الأراجيحِ بالأناشيدِ أطفالُه، وتثغُو في عرصَاتِه الخرافُ!

لا يمكنُ لحضارةٍ مادّيّةٍ مزيَّفةٍ شِيدَت على تزييفِ الفكرِ وتشويهِ صورةِ الإنسانِ وتدنيسِ نقاءِ روحِه أن تمحُوَ نقاءَ صورةِ طفلٍ فقيرٍ يخطُّ بقلمُ الرّصاصِ ما تعجزُ عن إبداعِه كلُّ تكنولوجْيا التَّطوُّرِ، ولا يمكنُ أن تطمسَ معالمَ الجمالِ لفلَّاحٍ ريفيٍّ يشقُّ الأرضَ بمحراثِه، وصوتُه يصدحُ في ربوعِ حقلِه بأجملِ أغاني السَّعادةِ والطُّمأنينةِ..

لا يمكنُ لكلِّ وسائلِ التّدْجينِ والاستثمارِ البشريِّ والحيوانيِّ أن تُخفيَ معالمَ جمالِ تلكَ المرأةِ الرّيفيَّةِ الّتي تحملُ جرَّةَ الماءِ فوقَ رأسِها، وطفلُها يُناغي على ظهرِها وقدْ حزمْتُه بثوبِها من أجلِ راحتِه وسلامتِه، وأمامَها حمارٌ يَمشي مِشيةَ الملوكِ تواضُعاً، وهو مُثقلٌ بالحِملِ من الماءِ على قِرْبةٍ من الجلدِ أو حزمةٍ من الذُّرَةِ والأعشابِ، دونَ أن تتطاولَ نفسُه للخيانةِ بالأمانةِ والمسؤوليَّةِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى