الثلاثاء ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٣
بقلم محمد جمال صقر

مِنْ تَغْريدَات الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ جمعها وحققها

1

قُلْتُ: مَا الْوَرَعُ؟

قَالَ: مُجَانَبَةُ مَا كَرِهَ اللَّهُ، جَلَّ، وَعَزَّ! وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ!-: "وَرِّعُوا اللِّصَّ، وَلَا تُرَاعُوْهُ"، يَقُولُ: اطْرُدُوهُ، وَجَنِّبُوهُ رِحَالَكُمْ، وَلَا تَرْصُدُوهُ حَتَّى يَقَعَ!

2

إِذَا عَرَضَ لِلْعَبْدِ أَمْرَانِ وَاجِبَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَدَأَ بِأَوْجَبِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْوُجُوبِ- أَوْ عَرَضَ لَهُ وَاجِبَانِ لِأَحَدِهِمَا وَقْتٌ يَفُوتُ وَالْآخَرُ لَا يَفُوتُ وَقْتُهُ، بَدَأَ بِمَا يَفُوتُ وَقْتُهُ قَبْلَ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ فِي فَرْضٍ فَعَرَضَ لَهُ فَرْضٌ دُونَهُ، لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ حَتَّى يُتِمَّهُ- فَإِنْ كَانَ فِي فَرْضٍ فَعَرَضَ لَهُ فَرْضٌ أَوْجَبُ مِنْهُ، قَطَعَ مَا هُوَ فِيهِ وَدَخَلَ فِي أَوْجَبِهِمَا. وَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ نَافِلَةٌ وَهُوَ فِي وَاجِبٍ لَمْ يَقْطَعْهُ مِنْ أَجْلِهَا. وَكَذَلِكَ الْفَضْلُ وَالتَّطَوُّعُ يَبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ كَمَا كَتَبْتُ لَهُ وَعَلَى قَدْرِ الْأَوْقَاتِ.

3

رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ: حُدِّثْنَا أَنَّ عَامَّةَ دُعَاءِ أَهْلِ النَّارِ، "يَا أُفَّ لِلتَّسْوِيفِ"!

4

قَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّم!- أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- إِذَا رَضِيَ عَنْ عَبْدٍ قَالَ:

يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ، فَائْتِنِي بِرُوحِهِ لِأُرِيحَهُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا؛ حَسْبِي مِنْ عَمَلِهِ، قَدْ بَلَوْتُهُ فَوَجَدْتُهُ حَيْثُ أُحِبُّ.

فَيَنْزِلُ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَهُ خَمْسُمِئَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُمْ قُضْبَانُ الرَّيْحَانِ وَأُصُولُ الزَّعْفَرَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُبَشِّرُ بِبِشَارَةٍ سِوَى بِشَارَةِ صَاحِبِهِ، وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفَّيْنِ لِخُرُوجِ رُوحِهِ، مَعَهُمُ الرَّيْحَانُ.
فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ صَرَخَ -قَالَ- فَتَقُولُ لَهُ جُنُودُهُ: مَا لَكَ، يَا سِيِّدَنَا!
فَيَقُولُ: أَمَا تَرَوْنَ مَا أُعْطِيَ هَذَا الْعَبْدُ مِنَ الْكَرَامَةِ! أَيْنَ كُنْتُمْ عَنْ هَذَا؟

قَالُوا: قَدْ جَهِدْنَا، فَكَانَ مَعْصُومًا!

5

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَي!
6
أَوْقَفَنِي خَوْفِي مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَوْتِ!
7
هَاجَرَ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ؛ فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ؛ إِذْ لَمْ يُهَاجِرْ إِلَّا لِتُزَوِّجَهُ نَفْسَها!

8
مِنْهُمْ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُبَجِّلَهُ الْمُلُوكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقُرَّاءُ عَلَى الدِّينِ وَيَنْفُقَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْفِرَقِ، فَيُبَالِغُ فِي الثِّيَابِ وَالْحِمَارِ الْفَارِهِ وَالدَّابَّةِ الْفَارِهَةِ، يُرِيدُ حَمْدَهُمْ أَجْمَعِينَ؛ فَيَدْنُو مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى جِهَةِ الدِّينِ، وَيَقْضِي الْحَوَائِجَ لِأَهْلِ الدِّينِ وَيُجَالِسُهُمْ تَصَنُّعًا وَتَزَيُّنًا!

9

قُلْتُ: فَمَا عَلَامَةُ الْمُرَائِي فِي نَفْسِهِ؟

قَالَ: يُحِبُّ الْحَمْدَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَيَكْرَهُ الذَّمَّ؛ فَيَدَعُ الطَّاعَةَ مِنْ أَجْلِ الذَّمِّ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَوْ عَلِمَ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ تَقْنَعْ نَفْسُهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِعِلْمِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ الطَّلَبُ لِعِلْمِ غَيْرِهِ، يَهْتَمُّ لِذَلِكَ! فَإِنْ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ ارْتَاحَ قَلْبُهُ لِذَلِكَ، وَسُرَّ بِحَمْدِهِمْ! وَأَخَفُّ النَّاسِ عَلَيْهِ مَنْ حَمِدَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَثْقَلُهُمْ مَنْ تَرَكَ حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ! وَلَا تَسْخُو نَفْسُهُ بِإِتْيَانِ طَاعِةٍ لِلَّهِ لَا يَعْلَمُ بِهَا أَحَدٌ؛ فَإِنْ أَرَادَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ ثَقُلّ عَلَيْهَا، وَلَمْ تُطَاوِعْهُ عَلَيْهِ! وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ عَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ فِي أَيَّامِ بَابَكَ وَهُوَ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لِنَفْسِهِ: أَتُحِبِّينَ أَنْ تَقْتُلِي بَابَكَ وَلَا يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ؟ فَأَبَتْ وَقَالَتْ: مِثْلُ بَابَكَ يُقْتَلُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ!

10

قُلْتُ: وَبِمَاذَا يَكُونُ سُرُورُهُ؟

قَالَ: (...) يُسَرُّ أَيْضًا إِذَا سَتَرَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَلَيْهِ الْقَبِيحَ، وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ- رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى سَتْرِ الْآخِرَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "مَا سَتَرَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ".

11

الْإِيمَانُ قَائِدٌ، وَالْعَمَلُ سَائِقٌ، وَالنَّفْسُ حَرُونٌ؛ فَإِنْ فَتَرَ قَائِدُهَا صَدَفَتْ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ فَتَرَ سَائِقُهَا حَرِنَتْ عَلَى قَائِدِهَا، فَإِذَا اسْتَقَامَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ مَضَتِ النَّفْسُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.

12

أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَعْمَشُ أَنْ يَمُرَّا فِي طَرِيقٍ،
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَقُولُونَ أَعْمَشُ وَأَعْوَرُ!
فَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَا عَلَيْنَا أَنْ نُؤْجَرَ وَيَأْثَمُونَ!
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْلَمَ وَيَسْلَمُونَ!

13

أَمَّا الْغَزْوُ فَذَلِكَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ؛ فَالْمُسَارَعَةُ فِيهِ لِلْقُدْوَةِ بِهِ أَفْضَلُ إِذَا قَوِيَ الْعَزْمُ، أَنْ يَشُدَّ الرَّجُلُ قَبْلَ الْقَوْمِ لِيَحُضَّ عَلَى الْقِتَالِ وَيَبْعَثَ مَنْ مَعَهُ عَلَى الشَّدِّ؛ فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ سِرٍّ إِلَى عَلَانِيَةٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ عَلَانِيَةٍ إِلَى عَلَانِيَةٍ.

14

مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَهَا لَمْ تُعَنْ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ سَأَلَنَاهُ.

15

إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنِ الْحَالَةِ الْأُولَى تَصَنُّعًا لِاطِّلَاعِهِمْ، فَاسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَاحْذَرْ عَلَى ذَلِكَ مَقْتَهُ وَالْفَضِيحَةَ غَدًا أَنْ يُهْتَكَ سِتْرُكَ عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ بِكَ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ!

16

كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ!- "اللَّهُمَّ، أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَحْسُنَ فِي لَامِعَةِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتِي، وَتَقْبُحَ لِكَ فِيمَا أَخْلُو سَرِيرَتِي، وَأُحَافِظَ عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي، وَأُضَيِّعَ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي، أُبْدِي لِلنَّاسِ حُسْنَ أَثَرِي، وَأُفْضِي إِلَيْكَ بِأَسْوَأِ عَمَلِي تَقَرُّبًا إِلَى النَّاسِ بِحَسَنَاتِي، وَفِرَارًا مِنْهُمْ إِلَيْكَ بِسَيِّئَاتِي- فَيَحُلَّ بِي مَقْتُكَ، وَيَجِبَ عَلَيَّ غَضَبُكَ! أَعِذْنِي مِنْ ذَلِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"!

17

رُوِيَ أَنَّ ابْنَ السَّمَّاكِ قَالَ لِجَارِيَةٍ لَهُ: مَا لِي إِذَا أَتَيْتُ بَغْدَادَ تَفَتَّحَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ؟ قَالَتْ لَهُ جَارِيَتُهُ: يَشْحَذُ لِسَانَكَ الطَّمَعُ!

وَصَدَقَتْ؛ إِنَّ الْعَبْدَ يُكْثِرُ الْكَلَامَ بِالْخَيْرِ عِنْدَ الْغَنِيِّ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ الْفَقِيرِ، يَهِيجُهُ الطَّمَعُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَعْظِيمُهُ لِلدُّنْيَا- وَكَذَلِكَ يُظْهِرُ الْخُشُوعَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ!

18

كَذَلِكَ الْخُرُوجُ فِي الْحَوَائِجِ (...) فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةً لِلدُّنْيَا لَا غَنَاءَ بِهِ عَنْهَا مِنَ الْغِذَاءِ لَهُ أَوْ لِعِيَالِهِ، فَهُوَ يَقُومُ هَذَا الْمَقَامَ؛ إِذَا عَلِمَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَذْهَبُ لِتَكَثُّرٍ أَوْ لِرِيَاءٍ أَوْ لِافْتِخَارٍ مَا ذَهَبَ، وَلَآثَرَ التَّرْكَ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَلَوْلَا طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَالْعُذْرُ فِي عِيَالِهِ وَنَفْسِهِ، مَا ذَهَبَ مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّه، عَزَّ، وَجَلَّ! إنَّهُ لَا يَخْذُلُهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ لِلَذَّةِ نَفْسِهِ، رَجَوْتُ أَلَّا يَخْذُلَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بَلْ لَا يَخْذُلُهُ، وَيُعِينُهُ، وَيَعْصِمُهُ.

19

قُلْتُ: إِنَّهُمْ إِخْوَانٌ فِي اللَّهِ، عَزَّ، وَجَلَّ!

قَالَ: هَذَا اسْمٌ قَدْ يَسْتَعِيرُهُ الْكَاذِبُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةٍ!

إِنَّ أَدْنَى مَا يَسْتَحِقُّ الْأُخُوَّةَ فِي اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بَلِ الْمَحَبَّةَ -فَإِنَّهَا دُونَهَا- مَنْ تَسْلَمُ مَعَهُ دُونَ أَنْ تَغْتَمَّ مَعَهُ. وَمَنْ لا تَسْلَمُ مَعَهُ فَهُوَ عَدُوٌّ لَكَ فِي دِينِكَ، وَإِنْ سَمَّيْتَهُ صَدِيقًا وَصَاحِبًا وَأَخًا فِي اللَّهِ، عَزَّ، وَجَلَّ! فَكَيْفَ يَكُونُ صَاحِبًا وَأَخًا فِي اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مَنْ تَتَعَرَّضُ بِمُجَالَسَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ لِغَضَبِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- لِأَنَّكَ لَا تَسْلَمُ مَعَهُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ، عَزَّ، وَجَلَّ!

وَقَدْ سَمِعْتَ حَدِيثَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَرَى أَنَّهَا تَبْلُغُ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ"؛ فَمَنْ أَعْدَى لَكَ مِمَّنْ يُعَرِّضُكَ بِمُحَادَثَتِهِ لِأَنْ تَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ يَغْضَبُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَلَيْكَ مِنْهُ!
وَحَدِيثَ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ قَالَ: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيَضْحَكَ بِهِ الْقَوْمُ! وَيْلٌ لَهُ! وَيْلٌ لَهُ"!

وَحَدِيثَ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الرَّفَاهِيَةِ -قَالَ: يَعْنِي فِي الْمَجْلِسِ- لِيَضْحَكَ بِهِ الْقَوْمُ؛ فَتُرْدِيهِ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، أَيْ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ؛ فَمَنْ أَعْدَى لَكَ مِمَّنْ كَانَ سَبَبُ هَذَا مِنْهُ وَبِهِ!

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ لَا يَرْضَى مِنْكَ إِلَّا بِالتَّصَنُّعِ، وَلَا تَمْتَنِعُ نَفْسُكَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَرْضَى مِنْكَ إِلَّا بِتَصَنُّعٍ. وَكَذَلِكَ أَنْ تَغْضَبَ لِغَضَبِهِ وَتُصَارِمَ مَنْ صَارَمَ، جَارَ أَوْ عَدَلَ فِي صَرْمِهِ وَغَضَبِهِ. وَهذَا يَكُونُ فِي الْفَرْطِ، وَلَكِنَّ الْمُحَادَثَةَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

فَهَذَا عَدُوٌّ لَكَ لَا أَخٌ لَكَ فِي اللَّهِ، عَزَّ، وَجَلَّ!

أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَوْحَى إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ!-: يَا مُوسَى، كُنْ يَقْظَانَ مُرْتَادًا لِنَفْسِكَ أَخْدَانًا، فَكُلُّ خِدْنٍ لَا يُواتِيكَ عَلَى مَسَرَّتِي فَلَا تَصْحَبْهُ؛ فَإِنَّهُ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ يُقَسِّي عَلَيْكَ قَلْبَكَ"؛ فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَإِنْ سَمَّيْتَهُ أَخًا فِي اللَّهِ وَصَاحِبًا، فَوَضَعْتَ عَلَيْهِ اسْمًا لَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَسْتَحِقُّ ضِدَّهُ وَهِيَ الْعَدَاوَةُ!

وَكَيْفَ يَكُونُ أَخًا فِي اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَوْ صَاحِبًا فِي اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مَنْ يُعْصَى اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- به، وَمِنْ أَجْلِهِ! فَمَنْ أَشَدُّ لَكَ ضَرَرًا فِي دِينِكَ مِمَّنْ كَانَ سَبَبُ مَعْصِيَتِكَ بِهِ!

أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "مَثَلُ صَاحِبِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ -يَعْنِي الْحَدَّادَ- إِنْ لَمْ يَحْرِقْكَ بِشَرَرِهِ يَعْبَقْ بِكَ من رِيحِهِ"! وَكَذَلِكَ هُوَ كَمَا قَالَ، إِنْ لَمْ تَعْصِ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مَعَهُ، لَمْ تَعْدَمْ مَعَهُ قَسْوَةَ قَلْبِكَ وَلَهْوَهُ وَاشْتِغَالَهُ.
فَلَيْسَ مَنْ كَانَ لَكَ هَكَذَا بِأَخٍ، وَلَكِنْ هُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ أَضَرُّ عَلَيْكَ فِي دِينِكَ مِمَّنْ تُعَادِي.

20

قَالَ الشَّعْبِيُّ: نِصْفُ عَقْلِكَ مَعَ أَخِيكَ.

وَصَدَقَ -رَحِمَهُ اللَّهُ!- لِأَنَّهُ إِذَا نَبَّهَ عَقْلَكَ بِمَا كُنْتَ عَنْهُ غَافِلًا، كُنْتَ كَأَنَّ عَقْلَكَ كَانَ مَعَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْكَ، وَكَأَنَّ عَقْلَكَ كُلَّهُ كَانَ مَعَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْكَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، فَأَمَّا في جَمِيعِ أَحْوَالِكُمَا فَكَانَ نِصْفُ عَقْلِكَ مَعَهُ، لِأَنَّكَ تَفْطَنُ لِمَا يَغْفُلُ أَخُوكَ عَنْهُ فَتُنَبِّهُهُ وَتَغْفُلُ أَنْتَ عَنْهُ فَيُنَبِّهُكَ؛ فَأَنْتَ تَعْبُدُ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بِعَقْلَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا، وَتَعْرِفُ عُيُوبَ نَفْسِكَ بِعَقْلِكَ وَعَقْلِ أَخِيكَ!

21

اذْكُرْ مَا وَصَفَ رَبُّكَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِذْ قَالُوا حَيْثُ اسْتَقَرُّوا وَرَأَوْا عَاقِبَةَ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ، فَقَالُوا: "إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ"، وَوَصَفَ عَدُوَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ!-: "إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا"؛ فَكُنْ مِنْهُمْ مُشْفِقًا حَذِرًا، وَاحْذَرْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ! وَهُمْ أَصْعَبُ عَلَيْكَ فِي الْمُؤَانَسَةِ وَفِي الِانْكِسَارِ عَلَيْهِمْ؛ فَاحْذَرْهُمْ، وَأَدِّبْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- حَتَّى تَقُومَ بِأَمْرِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- فِيهِمْ؛ إِذْ أَمَرَكَ بِأَدَبِهِمْ خَاصَّةً، فَقَالَ: "قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا"!مُشْفِقًا حَذِرًا، وَاحْذَرْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ! وَهُمْ أَصْعَبُ عَلَيْكَ فِي الْمُؤَانَسَةِ وَفِي الِانْكِسَارِ عَلَيْهِمْ؛ فَاحْذَرْهُمْ، وَأَدِّبْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- حَتَّى تَقُومَ بِأَمْرِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- فِيهِمْ؛ إِذْ أَمَرَكَ بِأَدَبِهِمْ خَاصَّةً، فَقَالَ: "قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا"!

22

إِذَا رَأَى عَبْدَهُ الْمُرِيدَ مُجَاهِدًا لِنَفْسِهِ، يَزِلُّ ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَعُودَ إِلَى طَلَبِ مَرْضَاتِه، يُجَاهِدُ من نَفْسِهِ مُغْتَمًّا بزللـه -في النص بِزَوَالِهِ والصواب إن شاء الله ما أثبت- أَعْظَمَ مِنْ غَمِّ السَّاقِطِ عَلَى وَجْهِهِ- فَإِذَا رَآهُ كَذَلِكَ خَفَّفَ عَلَيْهِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِ، وَأَسْرَعَ بِهِ إِلَى مَعَالِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ مِنْهُ، جَلَّ مَنْ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ فِي جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَتَحَنُّنِهِ وَلُطْفِهِ!

23

يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا!- أَنَّهُ قِيلَ لَهَا: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُسِيئًا؟ قَالَتْ: إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ!

24

رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ أَيُّوبَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ!- قَالَ: "إِلَهِي، أَنَّى ابْتَلَيْتَنِي بِهَذَا الْبَلَاءِ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمْرٌ إِلَّا آثَرْتُ هَوَاكَ عَلَى هَوَايَ؟ وَنُودِيَ مِنْ غَمَامَةٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ صَوْتٍ: يَا أَيُّوبُ أَنَّى ذَلِكَ؟ (أَيْ مِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكَ؟) -قَالَ- فَأَخَذَ رَمَادًا، فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مِنْكَ يَا رَبِّ"!

أَفَلَا تَرَى إِلَى رُجُوعِهِ عَمَّا قَالَ نَاسِيًا أَنْ يُضِيفَ نِعْمَةَ الْعَمَلِ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ، وَعَزَّ- فَفَزِعَ إِلَى الذِّكْرِ بِالذُّلِّ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- فَقَالَ: "مِنْكَ يَا رَبِّ".

25

قُلْتُ: قَدْ أَجِدُ بَيْنَهَا (النفس) وَبَيْنَ الْأَسِيرِ فَرْقًا، لِأَنَّ الْأَسِيرَ لَا يَرَى الْخَيْرَ فِيمَا يُرَادُ بِهِ، وَهِيَ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ مَا يُرَادُ مِنْهَا خَيْرٌ لَهَا.

قَالَ: فَقَدْ سَاوَتِ الْأَسِيرَ فِي مُخَالَفَتِه، وَفَضَلَتْ عَلَيْهِ فِي الشَّرِّ! إِنَّهَا أَبَتْ وَعَصَتْ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَبَيَانٍ، وَالْأَسِيرُ أَبَى وَعَصَى عَنْ جَهَالَةٍ وَعَمًى، وَلَعَلَّهُ لَوْ عَلِمَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَدَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا مُحَارِبُونَ لِلَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَلِدِينِهِ، لَأَجَابَكَ طَائِعًا، وَأَبْغَضَ الرُّجُوعَ إِلَى بِلَادِهِ؛ فَهِيَ شَرٌّ وَأَعْجَبُ عِصْيَانًا وَإِبَاءً مِنَ الْأَسِيرِ؛ إِذْ عَصَتْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّكَ إِنَّمَا تَدْعُوهَا إِلَى نَجَاتِهَا وَتُجَانِبُ بِهَا هَلَكَتَهَا. وَقَدْ نَجِدُ بَعْضَ الْأُسَرَاءِ مُشْبِهًا لَهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَسِيرُ يَعْرِفُ الْإِيمانَ وَفَضْلَهُ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيُجَانِبُونَهُ -في الأصل "يجانبوه"، والصواب إن شاء الله ما أثبتّ- بَعْدَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"، وَوَصَفَ إِبْلِيسَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ عَانَدَ بَعْدَ عِلْمٍ، وَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ!-: "وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ".

26

قُلْتُ: فَالْعُجْبُ بِالْعَقْلِ وَالذِّهْنِ وَالْفِطْنَةِ؟

قَالَ: اسْتِحْسَانُ ذَلِكَ وَاسْتِعْظَامُهُ وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ بِالتَّفَضُّلِ بِهِ وَالِاتِّكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُدْرِكَ بِهِ مَا يُرِيدُ وَمَا يُؤَمِّلُ مِنْ عِلْمٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ أَحْكَامِ دِينِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَوْ دُنْيَا، وَتَرْكُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، حَتَّى يُخْرِجَهُ ذَلِكَ إِلَى قِلَّةِ التَّثَبُّتِ لِإِعْجَابِهِ بِعَقْلِهِ حَتَّى يُخْطِئَ فِي دِينِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَيَقُولَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَيُخْرِجَهُ أَيْضًا إِلَى تَرْكِ التَّفَهُّمِ مِمَّنْ عَلَّمَهُ أَوْ أَمَرَهُ أَوْ نَاظَرَهُ، حَتَّى يُحْرَمَ الْفَهْمَ لِلْحَقِّ وَيَأْبَى إِلَّا الْقَوْلَ بِالْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، وَيُخْرِجَهُ إِلَى حُقْرِيَّةِ مَنْ دُونَهُ مِمَّنْ لَمْ يُعْطَ مِنَ الْفِطْنَةِ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ -وَإِنْ كَانَ أَوْرَعَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ عَمَلًا- حَتَّى يُسَمِّيَ كَثِيرًا مِمَّنْ هُوَ أَوْرَعُ مِنْهُ وَأَفْضَلُ مِنْهُ، جُهَّالًا حَمْقَى، وَيَرَاهُمْ كَالْحَمِيرِ الَّتِي لا تَعْقِلُ -إِذْ فُضِّلَ عَلَيْهِمْ بِالْفِطْنَةِ وَالذِّهْنِ- وَيَسْتَطِيلَ عَلَيْهِمْ، وَيَرَى أَلَّا قَدْرَ لَهُمْ، وَيَسْتَصْغِرَ مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ، وَيَرَى أَنَّه خَيْرٌ مِنْهُمْ -وَإِنْ ضَيَّعَ الْعَمَلَ- لِفِطْنَتِهِ وَلِعَقْلِهِ!

قُلْتُ: فَبِمَ يَنْفِي ذَلِكَ؟

قَالَ: بِمَعْرِفَتِهِ بِجَهْلِهِ -مَهْمَا أُعْطِيَ مِنَ الْفِطْنَةِ- وَبِسَهْوِهِ وَغَفْلَتِهِ وَقِلَّةِ مَا يَدْرِي بِعَقْلِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْفِطْنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ غَيْرُهُ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشُّكْرُ وَتَوْكِيدُ الطَّاعَةِ بِاللُّزُومِ لَهَا. وَإِنَّمَا فُضِّلَ بِالذِّهْنِ لِتَعْظُمَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ -وقعت هنا بالنص عبارة "وَتَوْكِيدُ الطَّاعَةِ بِاللُّزُومِ لَهَا"، والصواب إن شاء الله موقعها الذي أثبت- وَلِيَنْظُرَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- كَيْفَ اسْتِعْمَالُهُ لِعَقْلِهِ فِي الْفَهْمِ عَنْهُ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَإِن مَا أُعْطِيَ مِنَ الْعَقْلِ بِيَدِ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- لَوْ شَاءَ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُزِيلَهُ بِبَعْضِ الْآفَاتِ كَمَا رَآهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، لَفَعَلَ؛ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَقْلَهُ. فَإِذَا عَرَفَ ضَعْفَهُ وَجَهْلَهُ وَقِلَّةَ مَا يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ، وَأَنَّ مَا فُضِّلَ بِهِ مِنَّةٌ مِنْهُ، عَلَيْهِ فِيهِ الشُّكْرُ وَعَظِيمُ الْحُجَّةِ وَوُجُوبُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ مُضَيِّعٌ- فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْفِطْنَةِ مِثْلَ مَا أُوتِيَ، أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ إِذْ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْهَا عَلَى مَنْ دَونَهُ. وَقَدْ يَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْفِطْنَةِ أَطْوَعَ لِلَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مِنْهُ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عَقْلَهُ، إِنْ ضَيَّعَ الْقِيَامَ لِلَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بِهِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَهْمِ عَنْهُ وَالْعَقْلِ عَنْهُ وَالْعَمَلِ بِهِ- فَإِذَا أَلْزَمَ قَلْبَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ زَالَ الْعُجْبُ، وَخَافَ عَظِيمَ الْحُجَّةِ وَوَاجِبَ الْحَقِّ، وَاهْتَمَّ بِالشُّكْرِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ.

27

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا غَنِيًّا قَدْ قَبَضَ ثِيَابَهُ وَكَفَّهَا أَنْ تُصِيبَ ثِيَابَ رَجُلٍ فَقِيرٍ إِلَى جَنْبِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: أَخَشِيتَ أَنْ يَعْدُوَ فَقْرُهُ عَلَى غِنَاكَ!

28

أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَانْظُرْ أَرْفَعَ رَجُلٍ تَرَاهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّةٍ، فَقُلْتُ: هَذَا، فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَانْظُرْ أَوْضَعَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ خُلْقَانٌ لَهُ، قَلْتُ: هَذَا، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قُرَابِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"، لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، لَا بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ.

29

يَرْوِي أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- يَقُولُ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي؛ فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا أَدْخَلْتُهُ نَارِي"؛ فَيَسْتَحِقُّ الْمُتَكَبِّرُ أَنْ يَقْصِمَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَيُحَقِّرَهُ وَيُصَغِّرَهُ؛ إِذْ جَازَ قَدْرَهُ، وَتَعَاطَى مَا لَا يَصْلُحُ لِمَخْلُوقٍ. وَكَمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ!- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- رَفَعَهُ اللَّهُ هَكَذَا، وَمَنْ تَكَبَّرَ هَكَذَا، وَضَعَهُ اللَّهُ هَكَذَا".

30

إِنَّهُ (المتكبر) يَسْتَحِقُّ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَلَّا يُفَهِّمَهُ الْعِلْمَ وَلَا يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُه -عَزَّ، وَجَلَّ!-: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ". قِيلَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ: سَأَرْفَعُ فَهْمَ الْقُرْآنِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَفِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ: سَأَحْجُبُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْمَلَكُوتِ، يَعْنِي عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا غَابَ بِالْيَقِينِ، وَمَا شَاهَدُوا مِنَ الْعِبَرِ، وَكَفَى بِذَلِكَ بَلَاءً وَخِذْلَانًا! قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَيَعْتَبِرُوا. وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ!- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّرْعَ إِنَّمَا يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ، وَلَا يَنْبُتُ عَلَى الصَّفَا، وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَوَاضِعِ، وَلَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ شَمَخَ بِرَأْسِهِ إِلَى السَّقْفِ شَجَّهُ، وَمَنْ تَطَأْطَأَ أَظَلَّهُ وَأَكَنَّهُ"! مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِلْمُتَكَبِّرِ: إِنَّهُ إِنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ وَأَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ فَهْمَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ تَوَاضَعَ أَفْهَمَهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- حِكْمَتَهُ وَنَفَعَهُ بِهَا.

31

قَالَ عبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ قَالَ عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي! قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- لِرَجُلٍ: "كُلْ بِيَمِينِكِ"، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- لَا اسْتَطَعْتَ! مَا مَنَعَكَ إِلَّا الْكِبْرُ -قَالَ- فَمَا رَفَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى فِيهِ"!

32

قَالَ مُعَاذٌ: مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ وَجَعًا!

33

رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ -وَرُوِيَ أَيْضًا- عَنْ أَبِي الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُقَالُ لَهُ خَلِيعُ بَنِي إِسْرائيلَ، فَمَرَّ الْخَلِيعُ بِالْعَابِدِ وَعَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ تُظَلِّلُهُ، فَقَالَ الْخَلِيعُ فِي نَفْسِهِ: أَنَا خَلِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا عَابِدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَوْ جَلَسْتُ إِلَيْهِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنِي بِهِ! فَجَلَسَ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ الْعَابِدُ فِي نَفْسِهِ: أَنَا عَابِدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا خَلِيعُ بَنِي إِسْرَائيلَ يَجْلِسُ إِلَيَّ! فَأَنِفَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: قُمْ عَنِّي! فَأَوْحَى اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- إِلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ: مُرْهُمَا، فَلْيَسْتَأْنِفَا الْعَمَلَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لِلْخَلِيعِ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَ الْعَابِدِ -وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ- فَتَحَوَّلَتِ الْغَمَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْخَلِيعِ!

34

قَالَ الْحَارِثُ بْنُ جَرِيرٍ الزُّبَيْرِيُّ صَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: يُعْجِبُنِي مِنَ الْقُرَّاءِ كُلُّ طَلِيقٍ مِضْحَاكٍ، فَأَمَّا الَّذِي تَلْقَاهُ بِبِشْرٍ وَيَلْقَاكَ بِعُبُوسٍ يَمُنُّ عَلَيْكَ بِعَمَلِهِ، فَلَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ هَذَا! وَلَوْ كَانَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- يَرْضَى هَذَا مِنْ أَحَدٍ، مَا قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ"، وَقَالَ -تَعَالَى!-: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"، وَوَصَفَ أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيُحِبُّهُمْ، فَقَالَ: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ"؛ فَلَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- لِمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى عِبَادِهِ، عَابِدًا كَانَ أَوْ عَالِمًا.

35

الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ لَا يَأْمَنُهُمَا عَاقِلٌ عَلَى حَالٍ؛ فَكُلُّ مَا بَانَ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ إِلَيْهِ أَسْرَعَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْقَصَصِ، فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ الذَّبْحُ! وَاسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ كَانَ إِمَامَ قَوْمِهِ، أَنَّهُ إِذَا صَلَّى وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ ذَكَّرَهُمْ فَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَنْتَفِخَ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا! فَخَشِيَ عَلَيْهِ الْكِبْرَ. وَصَلَّى حُذَيْفَةُ بِقَوْمِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: لَتَلْتَمِسُنَّ إِمَامًا غَيْرِي، أَوْ تُصَلُّونَ وُحْدَانًا -وَقِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ- إِنِّي رَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَفْضَلُ مِنِّي! فَمَا أَقَلَّ مَنْ يُخَصُّ بِنِعْمَةٍ يَبِينُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْكِبْرُ إِلَّا مَنْ قَوَّاهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَسَدَّدَهُ. وَبِاللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- الِاعْتِصَامُ!

36

قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (أمعاؤه) -في المتن "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْيَادُهُ"، ولم أفهمها ولولم أجدها في متن الحديث على رغم تغير متون الأحاديث عنده عما في دواوينها فتركتها- فَيَدُورُ بِهَا - في المتن "بِهِ"، والصواب إن شاء الله ما أثبت- كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الشَّرِّ وَآتِيهِ"!

37

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "الْكَبَائِرُ أَرْبَعٌ، أَحَدُهَا الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، عَزَّ، وَجَلَّ"!

38

قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إِنَّ فُقَهَاءَنَا لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ -فِي شَيْءٍ اسْتُفْتِيَ فِيهِ- فَقَالَ لِسَائِلِهِ: وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ! الْفَقِيهُ الْقَائِمُ لَيْلَهُ وَالصَّائِمُ نَهَارَهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا".

39

رُوِيَ عَنْهُ (الحسن البصري) أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَفْتَاهُ فِيهِ بِفُتْيَا، فَقَالَ لَهُ الرُّجُلُ: إِنَّ فُقَهَاءَنَا لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ! الْفَقِيهُ يُدَارِي وَلَا يُمَارِي، يَنْشُرُ حِكْمَةَ اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- فَإِنْ قُبِلَتْ حَمِدَ اللَّهَ -تَعَالَى!- وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ، تَعَالَى!

40

يُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي يَا عُوَيْمِرُ، مَاذَا عَلِمْتَ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ!

41

إِنَّمَا يَكُونُ الْعَازِمُ عَلَيْهَا (الأعمال الصالحة) مِنْ أَهْلِهَا، إِذَا قَامَ لِلَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- بِهَا كَمَا عَزَمَ؛ فَلَا يَحْكُمْ لِنَفْسِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْحِلْمِ إِلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، لِأَنَّ الْعَزْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْحِلْمِ نِيَّةُ أَنْ يَحْلُمَ لَا حِلْمٌ- وَلَا بِالْإِخْلَاصِ إِلَّا فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَزْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْإِخْلَاصِ نِيَّةُ الْإِخْلَاصِ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يُخْلِصَهُ لَا إِخْلَاصٌ فِي الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَدَّمَ الْعَزْمُ عَلَيْهَا، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لِلْجَوَارِحِ عَمَلٌ كَاعْتِقَادِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا يَغْتَرَّ بِهِ فَيَغْفُلَ عَنْ نَفْسِهِ فَيُضَيِّعَ الْعَمَلَ وَيَرْكَنَ إِلَى مَا عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، دُونَ أَنْ يَتَفَقَّدَ نَفْسَهُ وَيَأْخُذَهَا بِالْوَفَاءِ بِمَا عَزَمَتْ عَلَيْهِ؛ وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَوْلِيَاءَهُ، فَقَالَ: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ".

42

اللَّهُمَّ، أَنْتَ تَعْلَمُ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ!

43

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ- وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ، وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ". ثُمَّ فَسَّرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَبِي كَبْشَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْهُ كَيْفَ ذَلِكَ الْحَسَدُ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: "مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَيَقُولُ رَبُّ الْعِلْمِ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَالِ فُلَانٍ كُنْتُ أَعْمَلُ فِيهِ بِمِثْلِ عَمَلِهِ؛ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَواءٌ- وَيَقُولُ رَبُّ الْمَالِ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ عِلْمِ فُلَانٍ كُنْتُ أَعْمَلُ فِيهِ بِمِثْلِ عَمَلِهِ" (...) وَكَذَلِكَ يَرْوِي أَبُو كَبْشَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- قَالَ: وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- مَالًا، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَالِ فُلَانٍ كُنْتُ أَعْمَلُ فِيهِ بِمِثْلِ عَمَلِهِ؛ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ".

44

قَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْحَسَدَ مُنَافَسَةً، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي اللُّغَةِ حَسَدٌ؛ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: نَفَسْتَ عَلَيَّ، أَيْ حَسَدْتَنِي.

45

قَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: جَاءَ أَبِي وَعَمِّي يَوْمًا مِنْ عِنْدِكَ، فَقَالَ أَبِي لِعَمِّي: مَا تَقُولُ فِيهِ؟

قَالَ: أَقُولُ إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى.

قَالَ: فَمَا تَرَى؟

قَالَ: أَرَى مُعَادَاتَهُ أَيَّامَ الْحَيَاةِ (مدى الحياة)!

46

الْمُبْغِضُ حَسَدُهُ أَعْظَمُ الْحَسَدِ وَأَشَدُّهُ!

47

لَوْ كَانَ الَّذِي تَحْسُدُهُ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَيْكَ وَأَشَدَّهُمْ عَدَاوَةً لك، فَإِنَّهُ -في المتن "أنه" والصواب إن شاء الله ما أثبت- لَا تَزُولُ النِّعْمَةُ عَنْهُ بِحَسَدِكَ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- لَوْ أَطَاعَ الْحَاسِدِينَ فِي الْمَحْسُودِينَ لَمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ، وَلَكِنْ يُمْضِي نِعَمَهُ وَقِسَمَهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى حَسَدِ الْحَاسِدِينَ. وَلَوْ فَعَلَ بِالْمَحْسُودِينَ مَا يُحِبُّ الْحَاسِدُونَ لَهُمْ، لَمَا بَقِيَ عَلَى النَّبِيِّينَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ!- نِعْمَةٌ، وَلَأَفْقَرَ الْأَغْنِيَاءَ لِحَسَدِهِمْ لَهُمْ، وَلَأَضَلَّ الْمُؤْمِنِينَ لِحَسَدِ الْكَافِرِينَ لَهُمْ! وَلَكِنَّ الْحَسَدَ عَلَى الْحَاسِدِ ضَرَرُهُ، وَالنِّعْمَةُ جَارِيَةٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ -عَزَّ، وَجَلَّ!- أَنْ يُتِمَّهَا عَلَيْهِ، إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَهُ وَقَدَّرَهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى حَسَدِ الْحَاسِدِينَ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ -عَزَّ، وَجَلَّ!-: "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ"!

48

رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ فِي الْمُؤْمِنِ لَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ: الطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَالظَّنُّ؛ فَمَخْرَجُهُ مِنَ الطِّيَرَةِ أَلَّا يَرْتَدَّ، وَمَخْرَجُهُ مِنَ الْحَسَدِ أَلَّا يَبْغِي، وَمَخْرَجُهُ مِنَ الظَّنِّ أَلَّا يُحَقِّقَ".

49

"قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا"، قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ.

50

رَوَى الْفُضَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَلَمْ يَصِلِ الْحَدِيثَ، قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- (يَعْنِي رَجُلًا)، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: صَالِحٌ، قَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: صَالِحٌ، قَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللَّهَ، قَالَ: هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ".

51

مَنْ كَانَ يَغْتَمُّ -إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَلَمْ تَأْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيكَ- نَوَيْتَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ فَتُقَدِّمُ النِّيَّاتِ فِيهِمْ كَذَلِكَ؛ فَكُلَّمَا لَقِيتَ أَحَدًا مِنْهُمْ ذَكَّرَكَ قَلْبُكَ مَا قَدَّمْتَ مِنَ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ كَانَتِ النِّيَّةُ الْأُولَى مُجْزِيَتَكَ مَا لَمْ يَعْتَرِضْ لَكَ خَوْفُ مَذَمَّتِهِمْ أَوْ حُبُّ مَحْمَدَتِهِمْ أَوْ رَجَاءُ طَمَعٍ تَنَالُهُ مِنْهُمْ، فَإِنْ عَرَضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِقَلْبِكَ نَفَيْتَهُ عَنْ قَلْبِكَ، وَمَضَيْتَ عَلَى نِيَّتِكَ، وَسَلَّمْتَ، وَسَأَلْتَ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَحْدَهُ.

52

إِنْ سُئِلْتَ (كيف أصبحت؟)، فَأَجَبْتَ- بَعَثَتْكَ نِيَّتُكَ الَّتِي قَدَّمْتَهَا عَلَى أَنْ تُجِيبَ بِعَقْلٍ مُحْتَسِبًا لِلثَّوَابِ. وَإِنْ لَمْ تُسْأَلْ، أَوْ سُئِلْتَ، فَأَجَبْتَ بِغَيْرِ فَهْمٍ- لَمْ تَخِبْ مِنْ نِيَّتِكَ الْمُقَدَّمَةِ الَّتِي قَدَّمْتَهَا حِينَ أَرَدْتَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِكَ.

53

رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ قَالَ: "وَمَنْ طَلَبَهَا (أعمال التكسب) اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَكَدًّا عَلَى عِيَالِهِ أَوْ تَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ، لَقِيَ اللَّهَ -عَزَّ، وَجَلَّ!- وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".

54

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ".

55

رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنَّهُ قَالَ: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حُبِّ الرَّجُلِ لِلْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِهِ"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى