الجمعة ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم مادونا عسكر

نؤلّه حكّامنا ولا نحاسبهم.

يبدو أنّ العالم العربي بتكوينه الإجتماعيّ، لم يخرج بعد من ذهنيّة القبليّة والانتماء لزعيم القبيلة. وعلى الرّغم من التّطوّر الّذي يخوض عبابه المجتمع العربي، إلّا أنّ هذا التّطوّر يبقى في الدّائرة الاقتصاديّة والماليّة والتّكنولوجيّة، ولا يتخطّاها إلى الدّائرة التّربويّة الّتي تساهم بالدّرجة الأولى في تحويل الّذهنيّة وتبديلها ونقلها من ذهنيّة مرتبطة بالبنية اللّاشعوريّة الّتي هي مجموع الأحكام والمسلّمات الذّهنيّة الّتي تتحكّم في عمليّة المعرفة لدى الفرد ويستعملها بطريقة لاشعوريّة، إلى ذهنيّة العقلانيّة والّتي هي تحكيم العقل واللّجوء إلى التّحليل والفحص لأمور بنيت عليها الشّخصيّة الإنسانيّة، ولكنّها لا تساهم في بناء هذه الشّخصيّة نظراً لتطوّر المجتمعات وتقدّمها.

فالفرد في المجتمع العربي، ما زال يخضع لمسلّمات وأحكام قد تكون قد امّحت بأغلبيّتها ولا تخدم وضعه الإنسانيّ والاجتماعيّ في عالم يتطوّر يوماً بعد يوم بسرعة رهيبة؛ اجتماعيّاً وفكريّاً. كما أنّ فكرة الانتماء لم تنمُ وتتطوّر لينتقل الفرد من الشخصيّة القاصرة إلى الشّخصيّة المستقلّة الّتي تحتّم عليه تقرير مصيره بشكل شخصيّ وليس بشكل تبعيّ.
ممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ إنسان يسعى إلى الإنتماء لمجموعة ما، وكونه كما وصفه "سيغموند فرويد"، حيوان اجتماعيّ، يسعى إلى الانتماء بالفطرة. فيساعده هذا الانتماء على تخطّي الصّعوبات ويؤمّن له القوّة والحماية وتأمين الحياة. ويندرج الانتماء السّياسي ضمن الانتماء الاجتماعي، وقد بدأ منذ تكوّنت أولى المجموعات البشريّة وادّعت سلطتها على قطعة محدّدة من الأرض. فالانتماء السّياسي كان دائماً مرتبطاً بسيطرة قبيلة أو مجموعة على مساحة معيّنة من الأرض، تفرض فيها قوانينها وأعرافها. وسيتطوّر لاحقاً هذا النّظام القبليّ من حيث الظّاهر إلى نظام ملكيّ، يبسط فيه الملك سلطته كما شيخ القبيلة، ولكن على مستوى دولة لها مقوّماتها ودستورها وقوانينها. ثمّ إلى نظام جمهوريّ يعتمد على انتخاب رئيس حاكم للبلاد، وبهذه العمليّة يُمنَح للشّعب امتياز اختيار الحاكم وليس تسلّمه زمام السّلطة بشكل إقطاعيّ ووراثيّ.

بيد أنّ مفهوم اختيار الحاكم أو رئيس البلاد ما زال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالذّهنيّة القبليّة الّتي لم تتبدّل في المجتمع العربي. وبناء عليه فالذّهنيّة القبليّة تحتّم الولاء التّام للحاكم بغضّ النّظر عن سلوكه السليم أو غير السّليم. وذلك يعود إلى عامل نفسي مهمّ، وهو اعتبار الحاكم صاحب سلطة معنويّة كالأب في العائلة على سبيل المثال، فيصعب على الفرد معارضته أو محاسبته. وبالتّالي يتوقّف مصير البلاد على شخصه وليس على مدى قدرته في إدارة الحكم وتأدية مهامه. ويصل هذا المفهوم إلى أقصى درجاته في تأليه الحاكم، ونزع صفة الخطأ عنه، فيمسي سلوكه مؤلّهاً، والكلام عنه مقدّساً، وبالتّالي لا يستساغ الكلام عنه إلّا بالتّبجيل والتّمجيد، ويحظر على أي رأي مضاد أو مخالف أن يعبّر عن نفسه وإلّا قوبل بالعمالة والخيانة. ولكم شهدنا في مجتمعاتنا على من اعتقلوا بسبب إبداء رأيهم السّلبي في الحاكم أو نقد سياسته وسلوكه وسيقوا إلى المحاكم بتهمة إهانة السّيّد الرّئيس.

والسّيّد الرّئيس ليس إلهاً!! وليس معصوماً من الخطأ، ويخضع للضّعف والنّقص البشريّين. كما أنّ سياسته لا بدّ من أن تكون مرتبطة بالسّياسات الإقليميّة والدّوليّة، وتدخل ضمن مصالحه الشّخصيّة وتمسّكه بالسّلطة. فهو وإن كان حاكم البلاد إلّا أنّ القرار ليس له وحده، فدولنا العربيّة لم تصل بعد إلى سنّ الرّشد لتتمكّن من فرض نفسها على السّاحة الإقليميّة والدّوليّة كدول مستقلّة وقويّة، وتبقى دولاً تابعة لعدّة محاور بحسب انتمائها الطّائفيّ أو الحزبيّ. فالحاكم العربي هو أشبه بمفوّض ساميّ يتلقّى الأوامر وينفّذها طبقاً لما تمليه عليه الجهة الّتي ينتمي إليها.

وقد شكّل الحاكم مع شعبه نوعاً من التّحالف من حيث فرض السّلطة والخضوع لها. فللشّعوب دور مهمّ في تعزيز نزعة الألوهة لدى الحاكم، وذلك من خلال اعتباره شخصاً مقرّباً وليس حالة، ومن خلال عدم محاسبته والاستسلام له وطاعته كما الله، فهو ولي الأمر الذي لا يُنازع ولا يُخرج عليه.

إنّ الحاكم في أصل مهمته الدستورية هو موظّف في الدّولة ويتحتّم عليه تأدية واجباته تجاه هذه الدّولة كأي مواطن آخر، وبالتّالي لا يجوز غضّ النّظر عن تقصيره في أيّ من مهامه، وعدم محاسبته لمجرّد أنّه الحاكم. ولكنّ هذه النّظريّة تتطلّب وعياً كافياً من الشّعوب وتدريباً على كيفيّة التّعامل مع الحكّام. فما نشهده اليوم من انتخابات رئاسيّة يطرح سؤالاً كبيراً حول مدى صحيّة هذه الانتخابات وأهمّيّتها. فكيف يمكن لشعوب عاشت سنين طويلة وعديدة بذهنيّة الإنتماء القبليّ، أن تمارس اليوم دورها الإنتخابيّ؟ فالعمليّة الانتخابيّة لا تنحصر في الأيّام المحدّدة للانتخاب، وإنّما هي منهج تربويّ أوّلاً ثمّ اجتماعيّ.

ونقصد بالمنهج التّربويّ، تربية الفرد منذ نشاته على معرفة حقوقه وواجباته، وبالتّالي ليستحق المطالبة بحقوقه عليه أن يقوم بواجباته. كما يدخل في هذا المنهج تربية الفرد على الاستقلاليّة وعدم التّبعية، بمعنى تعليمه وتدريبه على كيفيّة اتّخاذ القرارات بعيداً عن التّأثيرات العاطفيّة والمعنويّة. والاستقلاليّة ليست الانفصال عن العائلة أو عن السّلطة الأبويّة، وإنّما هي خلق مسافة بين الفرد والسّلطة الوالديّة بحيث تكون سلطة محبّبة وليست تسلّطاً وفرض آراء. فيكون الحوار سيّد المواقف، بدل التحكم بالفرد وإجباره على تنفيذ ما ليس مقتنعاً به تحت عنوان السّلطة والطّاعة.

ولمّا كان المفهوم السّلطويّ عند الفرد مفهوم حقوق وواجبات، تتغيّر النّظرة إلى الحاكم الّذي يمثّل السّلطة الأعلى. ويكون التّفاعل معه كشخص يؤدّي وظيفة، وبالتّالي يكافأ إذا أصاب، ويحاسب إذا ما أخطأ. ولا يكون إلهاً منصّباً على الأرض وتُقدّم له فروض الطّاعة والولاء دون أيّة محاسبة. وبذلك يتغيّر مفهوم الطّاعة العمياء، فللطّاعة حدود، وشرطها الأساسيّ الثّقة، وإلّا تحوّلت إلى خضوع وخنوع.

أمّا المنهج الاجتماعيّ، يقضي بأن يتثقّف الفرد اجتماعيّاً من خلال قراءة الأحداث والتّنبّه لأهميّة شخصه ودوره في المجتمع والوطن. وذلك بعدم النّظر إلى الحاكم على أنّه أرفع منه إنسانيّاً، واجتماعيّاً، ولا يحقّ له السيطرة على الأشخاص واستعبادهم.
والفرد في المجتمع العربيّ، أسير مجتمعه، وينقصه التّفرّد والاستقلاليّة، فيحاول إرضاء الصّورة الاجتماعيّة حتّى ولو كانت مشوّهة. وينساق خلف أحكام وآراء، قد تكون أحياناً عن غير اقتناع، لمجرّد إرضاء المجتمع. ويحدث هذا بشكل لا واعي، وذلك لأنّ ذهنيّة التّبعيّة مسيطرة عليه. فيحاول تحقيق ذاته من خلال التّبعيّة الطّائفيّة أو الحزبيّة، ويعتبر زعيم الحزب أو الطّائفة إلهاً، كلامه منزل وأحكامه مبرمة. ويستعدّ استعداداً كاملاً للدّفاع عنه دون أن يحكّم العقل والمنطق، وإنّما العاطفة وردّة الفعل. كما أنّه يعتبر أنّ عدم الولاء لهذا الزّعيم أو ذاك خطيئة مميتة، وكلّ مخالف له عميل وخائن للقضيّة. وإذا ما سألته عن ماهيّة القضيّة وأهدافها، يردّد بسذاجة مطلقة كلام الزّعيم، ولا يبدي رأيه الشّخصيّ المبني على اختبارات وتحليلات شخصيّة. أمّا الكارثة العظمى إذا كان الحاكم رجل دين وحاكماً بأمر الله. فيبدأ فرز النّاس بين مؤمنين وكفّار، وتوزّع الأماكن بين الجنّة والنّار ويعدّ كلّ مناقض له مخطئاً أمام الله شخصيّاً. ونرى اليوم جليّاً كيف تمارس سلطة الحاكم بأمر الله على أرض الواقع، وكيف يتّهم النّاس بالكفر والزّندقة لمجرّد إبداء الرّأي بنظام استولى على السّلطة بالخداع والألاعيب السّياسيّة.
إنّ حكّامنا، شئنا أم أبينا هم صورة عنّا، أو بمعنى أصحّ نسعى لتحقيق صورتنا من خلالهم، ولأنّنا بأغلبيّتنا ما زلنا نخضع للذّهنيّة القبليّة، والتّبعيّة الاجتماعيّة، فبالتّالي نحن ننتمي إلى زعيم الطّائفة أو الحزب وليس إلى الوطن. وبذلك تنتفي عنّا صفة المواطنيّة لتحلّ مكانها صفة العبوديّة. فالمواطنيّة هي الانتماء للوطن الّذي نشأنا وترعرعنا فيه، والّذي من واجبنا أن نحبّه وندافع عنه، أمّا العبوديّة فهي أن ننقاد خلف زعيم ونؤلّهه بحجّة الدّفاع عن الوطن.

نؤلّه حكّامنا ولا نحاسبهم، ونبرّر لهم كلّ خطيئة يرتكبونها بحقّ الوطن، ونصفّق لهم ونشجّعهم كلّما دغدغوا مشاعرنا بكلامهم السّاحر وملكتهم في صياغة الخطابات الّتي تثير الغرائز والعواطف. وما إن تتحوّل السّياسة العالميّة وتتبدّل، يتحوّل هذا الصّنم الإله إلى شيطان رجيم فنرشقه بالحقد والكراهية حتّى الموت. وما هذا الرّجم إلّا التّعبير عن رفضنا لعبوديّتنا الّتي أسرتنا فيه وله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى