الثلاثاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢١

نبوءة 2021

توفيق بن حنيش

عندما يهن العظم منك ويشتعل رأسك شيبا ويضعف بصرك وينحني ظهرك وتريد أن ينالك ما نالني من شرف النبوءة ولا تجد سبيلا إلى ذلك, اتبع هذه الوصفة:

أوّلا: قبل النوم بقليل وقبل الرحيل (الرحيل إلى عالم الحلم طبعا), انهض من فراشك الوثير, وأعدّ قهوة بلا سكّر. واشربها وأنت مغمض العينين. وتذكّر أنك في تونس في الثلث الأول من الألفية الثالثة. ثمّ تمدد على الفراش. ودثر رجليك بالغطاء الصوفي حتى يكون السّفر موفقا. وتذكّر أيضا أنّك واحد من هؤلاء الديمقراطيين الذين يستطيعون تحويل الديمقراطية والحرية والمشاركة السياسية إلى ماء عذب فرات يعوّض ماء شركة المياه الملح الأجاج الذي ينقطع في الصيف حينما لا يحتاجه النّاس.

ثانيا: اقرأ ما تيسّر من خطابات الرؤساء الثلاثة واحذر من أن ترفع يدك إلى جبينك لترسم الصليب, فتلك حدود الله ولا علاقة لها بالحلم. وألحّ وأؤكّد أنني لست مسؤول عن كل سهو يبدر منك.

ثالثا: طهّر نواياك من دنس الشكّ وصدّق, وأنت ترشف رشفتك الأولى من القهوة, أنّ شعبك العظيم قام بثورة عظيمة لا علاقة للأمريكان بها. وصدّق أيضا أنّ الحلم يليق بأمّتك الحالمة على الدّوام.

رابعا : وليكتمل شكل المربع الذي تتحرّك فيه في حلمك, ابدأ كما بدأت أنا بالتركيز على المجنون الذي يمرّ بالشارع (مع الأسف الشديد, فموعد مروره غير مضبوط. والقضيّة هنا مرتبطة بالحظّ) واقتف أثره. ولا تتركه حتى يشرع في الصياح وتقليد أصوات الجنّ والملائكة وصفير إبليس وتغريد الطيور ومشي الحمام. وإذا رأيته ينزع ملابسه ويخرج " زنط" كما ولدته أمّه, فإيّاك أن تحاول تصويره فسيحترق هاتفك ويحترق حلمك وتفسد نبوّتك. وسترجم نفسك هناك في ساحة الحلم بما يتيسر لك من مرّ الكلام حتى يتسنى لك أن تستيقظ مرة أخرى...ولذلك اعمل بنصيحتي ودع هاتفك في قاعة الجلوس ولا تدخله معك إلى غرفة النّوم. فهكذا كنت أفعل أنا عندما أعدّ نفسي لحلم ذي بال.

هذا حدث لي بعد شرب القهوة المرّة, ومباشرة بعد أن استعدت ما تيسر من خطابات الرؤساء الثلاثة وعقدت يدايّ وراء ظهري حتى لا تفاجئني يد منهما وترسم الصليب على صدري. ليلتها جاء المجنون باكرا (في الحقيقة كان صباحا بالألوان على عكس ما يقول علماء الأعصاب المختصون في مشاكل النّوم وهم الذين لا يحلمون.) فما أن جزت من باب الحلم الضيق حتى وجدته في انتظاري وهو لا يزال يركن دراجته الناريّة تحت الصفصاف الذي يقشعر بدنه لمرور النساء المتبرجات في الطريق. وقفنا لجزء من الثانية بتوقيت الحلم. ثم لمّا رأى صاحبة جذر تربيعيّ ضارب في أعماق العالم السفليّ صاح "ثورة... ثورة" وجرى... وجريت وراءه... (في الحقيقة لم يكن ينشطه شيء كالإيمان بالثورة.)

وحينما تقاطعت الألوان والأشكال والنقاط والحروف ولمعت ألوان قوس قزح في الواقع كما في الحلم, غاص نصف المرأة السفليّ في الأرض, وتحجر نصفها العلوي دون أن تلتفت وراءها لتردّ على دواوين الشعر التي حبرها المجنون فيها.(وكان يكتبها على أوراق الصفصاف مقابل أن تحرس له دراجته... إنه لشرف مضاعف للصفصاف: يكون في الحلم ويُكْتب الشعر على أوراقه.). ولم يجد المجنون بدّا من أن يرفع عقيرته بالغناء والنواح والآذان وتقليد الأجراس ثم . في الأخير, نفخ في البوق. وشرع لتوّه في التخلص من حذائه وسرواله وقميصه وما يدعي أنها ذنوبه. وأعمل أظافره في جسده حتى سال دم كثير سريعا ما كان يتحول إلى سيول من الماء الزلال تنزل من جهة المقبرة وتطوف بشوارع القرية الصغيرة ثم تغور, في النهاية, في المقبرة ذاتها.

نعود إلى أوّلا (العجلة من الشيطان): مرارة قهوتك التي قد لا تعجبك ستمكنك من تذكّر, وأنت تتجول في شوارع الحلم وأزقته, أنّك تونسيّ عربي مسلم ذو حضارة عريقة ومعضلتك في التوفيق بين الأصيل والدّخيل. وطعم القهوة في طرف لسانك سيمنعك أيضا من أن تلعن المجنون لأنه جزء أصيل من كيانك الذي يمتنع عن أن يتجلى في الواقع. وسيجبرك على أن تدير لسانك ألف مرة قبل أن تقول إنّه مجنون.
لنعد إلى النبوّة.

ستكون معجزتك بأن تنطق المرأة المتحجرة. وتعيد إلى جسدها رائحة العطر الذي وضعته قبل خروجها. وتعيد إليها اهتزازاتها, وتعيد إلى وجهها حمرة الخجل ونضارة الحياء وعنفوان التمنع. وستكون معجزتك, وأنت تتابع زقزقة المجنون, بأن تعيد للغة ائتلاف الدال والمدلول وتصالح الحقيقة والمجاز فيتزوج المجنون بأنثى الحجر وتولد البلاد من جديد.

نصيحة: إيّاك, وأنت في لجة الحلم, أن تتذكّر الموت والنهايات. لا لشيء إلاّ لأنك في مربع وليس مكعبا. ففي الحلم ليس ثمة مكعبات ولا إسطوانات ولا مخروطات. ليس ثمة من الأشكال إلاّ المضلعات والدوائر. ولا تدخل دائرة مهما أعجبك حجمها. (فقد تفتنك الدوائر حينما يلتحم الدال بالمدلول ويتزوج المجنون بأنثى الحجر بعد أن تستعيد نضارتها وتبتل بماء الزقزقة. فتحاول ساعتها الخروج, وتدور وتدور بلا إحداثيات حتى يتبخر حلمك ويذهب باطلا.)

تذكير: سيصلك, وأنت في علّين الحلم, صوت أجشّ وصوت تأتاء ثأثاء وصوت لا لغة له. وسيخبرك الشيطان أنّ أصحاب هذه الأصوات الثلاثة قادرون على إنطاق الحجر. فلا تصدّقه. لا تصدّقهم واستمسك بالعروة الوثقى ,عروة الحلم التي لا تنفصم. وقل ربي زدني غرقا...(في الحلم طبعا). فتلك الدعوات هي أكثر استجابة من غيرها.

نصيحة أخرى: إذا وقع الالتحام بين الجنون والجنون فاعلم أنّ البلاد تولد من جديد, وقتها سيتحرّك الحجر ونتفرج الشفاه وتطير منها البسمات. وقتها سيسيل من الحجر نهران من حليب وعسل. ويجتمع شمل الفرق والقبائل والملل التي في بلدك بعد ضياع طويل.

أعود بك إلى ما رأيت: بكى المجنون في ذلك الصباح الذي ليس له بداية ولا نهاية رغم أنه كان صباحا ملونا. فأمطرت السماء وتحول تمثال المرأة المنتصب في ساحة القرية إلى امرأة تدمع عيناها من شدة سعادتها بالحياة. كانت تغتسل من ذنوب حوّاء. وفي ذلك الآن, مدّ المجنون يده العارية تماما إلى المبعوثة من رقدة الصخر. فأمسكت بها ونزلت درجين وتعانقا وسارا نحو رأسي. وتوغلا فيه...

أدرت لساني في فمي فوجدت طعم القهوة. رشفت رشفة وعدت إلى القلم... إيه ... طار كل شيء من أمام ناظريّ. ولم تبق إلاّ كفتا الميزان فارغتين.

إذا فاجأتك نبوّة مثل هذه فلا تحدّث بها بشرا...

توفيق بن حنيش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى