الاثنين ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم هشام آدم

نحو إنصاف الرواية

إن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها كثير من الأدباء، عدم تفريقهم بين الأجناس الأدبية، وأصبح من الواضح أن دور النقد في هذه المرحلة، والمراحل المقبلة هو معالجة هذا الخطأ الفادح الذي يُصيب الحركة الأدبية والكتابة الإبداعية في مقتل؛ إذ أنّ خللاً مثل هذا، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من غريب الأجناس –تحت دعوى الحداثة- إلى الأدب، وعملها على تقويض دعائمه، كما هو الحال الآن لكل من جنسي: التداعي الحر، والخاطرة الأدبية القائمين على الاسترسال الوجداني، ومخاطبة الذات في المقام الأول منفصلين بذلك عن المجتمع والآخر، ومنظومة القيم السلطوية، ومنعزلة عن الأهداف الأساسية للأدب وللكتابة الإبداعية، والتي سوف يأتي الكلام عنها لاحقاً في هذا المقال.

ومن بين الأخطاء الأكثر شيوعاً في الأوساط الأدبية قاطبة، إدراج فن القصة القصيرة ضمن قائمة الأجناس الأدبية، وهو الأمر الذي يجعلنا نُعيد النظر في فهمنا لهذا الجنس الأدبي، ومعرفة أصوله وجذوره الأولى.

ويهمني في المقام الأول أن أؤكد على حداثة الفن السردي في مقابل الفن الشعري الضارب في الجذور، فيما يتعلّق بتاريخ الأدب العربي، وجميعنا يعرف ما للشعر من مكانة في الأدب العربي القديم، وكيف أنه كان يُمثل كافة الفنون والألوان الأدبية المعروفة الآن من: قصة، ورواية، وسيرة، وتأريخ، بينما اقتصر الأدب السردي في ذلك الوقت على الخطابة، والتي لم تخل –هي كذلك- من النفس الشعري المتمثل في: الطباق والجناس، والألوان والمحسنات اللغوية المتأثرة بالشعر؛ بل إنه لم تكد تخل خطبة قط من قصيدة شعرية سواء في متنها أو في ذيلها.

"يا أيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا؛ إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جمع وأشتات، وآيات وأرض ذات رتاج, وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسماً لا حانث فيه ولا آثماً إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبياً قد حان حينه، وأظلكم أوانه، فطوبى لمن آمن به فهداه, وويل لمن خالفه وعصاه (...) تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية، يا معشر إياد أين الآباء والأجداد، وأين ثمود وعاد، وأين الفراعنة الشداد، أين من بنى وشيد، وزخرف، ونجد، وغره المال والولد، أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى، ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول منكم آجالاً، وأبعد منكم آمالاً، طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله؛ فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس والد ولا مولود.

وللتفريق بين فن القصة (الحكاية)، وبين الرواية والتي تنقسم بدورها إلى رواية قصيرة، ورواية طويلة؛ فإنه من الضروري أن نعرف أن هذا التفريق لا يتأتى إلا بمعرفة أغراض هذا اللون الأدبي، لاسيما إذا عرفنا أن تناول هذه الأغراض الآن لا يُمكن أن يكون بمنأى عن والثورات النقدية الكبرى التي قامت في أوربا، وتأثر بها الأدب العربي بالمقابل.

ففي حين يقوم هدف القصة أو الحكاية على التسلية واستخلاص العبرة، تتجاوز الرواية هذين الهدفين إلى أبعد من ذلك؛ فالرواية تتناول المجتمع والذات بالنقد والتقويم والتحليل، كما تعمل على التبصير بحركة التاريخ، وتبسيط هذه الحركة في قالب فني أدبي، له اشتراطاته التي حددتها مساعي الحركات والمقولات النقدية المجتهدة، والمرتكزة على أُسس فلسفية في المقام الأول، وفي حين تكتفي القصة أو الحكاية بمجرّد التسلية والتلميح بالعبرة، فإن الرواية ترفض أن يكون الفن أو الأدب أداة وعظية، ولا يجدر بالروائي أو الأديب أن يكون واعظاً كذلك.

(... َمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:176)
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:3)
(فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص:25)

إذن؛ فالقصة والحكاية هما جنس أدبي واحد، يهدفان في الأصل –كما أشارت الآيات- إلى التذكير والتنبيه والوعظ، ولا تحمل القصة في ثناياها أيّ جانب فلسفي أو عمق معرفي بالمعنى الذي تناولته المقولات النقدية. ولقد كان لفن القصة -بهذا المفهوم- شأنه وأهدافه في تاريخ الأدب العربي القديم، أيّ منذ عصور المشافهة، وكانت العرب تأنس بالحكايا والقصص، ولم تخل مجالسهم من ذكرها، فكانت تُقال للتسلية كذلك، فخرج كتاب "ألف ليلة وليلة"، وعندما بدأت حركة النقل والتجربة، اهتم العرب بترجمة القصص، فتُرجمت "كليلة ودمنة" عن الأدب الهندي القديم.

وعلى هذا فإننا نرى أنّ القصة -القائمة في أساسها على ثقافة المشافهة- قد اندرست، وانقرضت من قرون طويلة، ولم يعد استخدام اسم "قصة" على الجنس الأدبي المعروف الآن لائقاً أو صحيحاً، لأن أغراض السرد تغيّرت منذ حركات الحداثة الأولى، والتي قامت في أوربا وتأثر بها الأدب العربي الحديث، وأعلنت انتهى عهد المشافهة. ومن المعلوم أن هذه الحركات النقدية استصحبت معها المقولات الفلسفية وتطوراتها وأفادت منها كثيراً، ويُصبح الكلام عن القصة في إطار الوعظ في عصرنا هذا ضرباً من الكلام عن التراث.

وفي كلام العرب لن نجد للرواية ذكراً على النحو المتعارف عليه الآن، لأن فن الرواية فن حديث، ولكن تستخدم العرب الرواية للدلالة على القول والنقل بالمشافهة، فتقول العرب: روى الحديث، وروى الشعر؛ بينما جاء في مختار الصحاح باب (س.ر.د) "فلان يَسْرُد الحديث إذا كان جيد السياق له"؛ إذن فالعرب لم تفرّق قديماً بين الحكاية والقصة، بل اعتبروها جنساً واحداً داخلاً في السرد، فقط من أجل التفريق بينه وبين الشعر.

إن ما نعرفه اليوم بالقصة القصيرة ما هو إلا رواية قصيرة، لأن فن الرواية يُعتبر الابن الشرعي والوحيد لمجمل الحركات النقدية الحداثوية، فهو يتناول الحياة في مجملها، والإنسان كأحد عناصرها الأساسية، ويُعبّر عن موقفه منها، ويُحلل ويناقش القضايا المصيرية والوجودية بشيء من العمق، كما تتناول الرواية الجوانب الإنسانية الوجدانية، ولكن ليس بمنعزل عن حركة الحياة والمجتمع، إذن فهو يتناول الإنسان كفرد داخل المجموعة، وليس كما تتناوله القصة (الحكاية) كفرد خارجاً عن المجموعة.

لا شيء يُدعى "قصة" الآن، ومن يُريد إيجاد هذا الجنس الأدبي عليه أن يبحث في التراث العربي القديم، حيث الحكايات التي تتناول التسلية والوعظ والإرشاد، وتدير صراعات القيم الدنيا بلا وعي وتفتقر إلى العمق الفلسفي المطلوب، ولكن ما يُعرف الآن بالقصة القصيرة، هو في حقيقته "رواية قصيرة" ليس إلاّ! وأولئك الذين يُصرّون على تسمية الرواية القصيرة بالقصة القصيرة، إما معترفون بسطحية الأدب الذي يُقدمونه، أو جاهلون بالاختلافات الكبرى بين هذين الجنسين الأدبين، وقد يسقط الروائي –دون علم- بعمله السردي إلى قاع الحكاية، إذا لم يحرص على أن يبتعد عن التسطيح، والتناول الساذج للقضايا الإنسانية، ولم يجتهد في تفعيل هذه العناصر وعولمتها، لتُصبّح مُعبّراً حقيقياً عن الحياة الإنسانية بكل اختلافاتها وتعقيداتها وثرائها.

إن الباحث في تاريخ الأدب العربي يجد أن الانطلاقة الفعلية لفن الرواية العربية تبدأ مع بدايات القرن العشرين، بسلسلة من الأعمال الروائية التي خرجت بالسردية من مستنقع الحكاية إلى بحور الرواية، مستفيدة مما قدّمته الحركة النقدية من إسهامات جليلة في تغذية الفكر الإنساني، وتطويره منذ بداية القرن العشرين، إذ تلازم السؤال عن أهداف النقد ووظائفه مع السؤال عن أهداف الأدب ووظائفه كذلك، فخرج بالأدب من قمقم الجمالية الشكلية إلى اعتباره نشاطاً فكرياً قائماً بحدّ ذاته، والعارف بتاريخ الحركات النقدية الحديثة يعلم تماماً التزام هذه الحركات بالأسس الفلسفية والتصاقها بها، إلى الحد الذي يجعلنا نعتبر أن الأدب والنقد لا يتجزءان عن الفلسفة؛ فظهرت لنا مدارس البنيوية والوجودية والظاهراتية وغيرها من المدارس النقدية الحديثة.

بعد التفريق بين القصة والرواية، ومعرفة أن القصة هي نفسها الحكاية، وأن القصة القصيرة بمعناها الأدبي الحديث والملتزم بالمقولات النقدية الحديثة إنما هو رواية، وليس قصّة، آتي على تناول فن الرواية الطويلة على اعتباره أحد أهم الأجناس الأدبية الحديثة، وكيف يُمكن للرواية أن تكون أداة للقياس، ولكن قبل ذلك أحب أن أتناول أحد عناصر الرواية الهامة والتي يقول عنها بعض النقاد أنها الفيصل الوحيد بين الكتابة الإبداعية والكتابة التدوينية ألا وهو (الخيال).

وللخيال أصناف كثيرة في الكتابة الإبداعية والأدب عموماً، نذكر منها: الخيال البدائي، والخيال الرومانسي، وأُضيف إليه حديثاً الخيال السحري (الفنتازيا)، والخيال العلمي مؤخراً، وقد تناول السير موريس بورا في كتاب (الأغنية البدائية) والذي قدّمه الناقد المصري الكبير جابر عصفور في كتابه (الخيال. الأسلوب. الحداثة) الأدب البدائية على اعتبار أنه يُشكل النواة الحقيقية للأدب الإنساني في شكله الطبيعي النقي، ولقد في مقدمة كتابه:

"تحاول هذه الدراسة أن تقتحم مجالاً جديداً لم تلجه دراسات تاريخ الأدب حتى الآن فيما أعلم، هذا على الرغم من أنه يُشكل –بالتأكيد- قسماً كاملاً من هذه الدراسات. إن بدايات فن الأدب تحتفي وراء عصور ما قبل التاريخ، ولكننا نستطيع أن نجلو شيئاً منها ونكشف عن تشكلّها وتطورها بواسطة الدارسة المقارنة لما نعرفه من شعر البدائيين الذين ما زالوا يحيون في عالمنا. إننا نستطيع أن نخرج ببعض النتائج التي تكشف لنا عن الأنماط الأولى لفن الأدب من خلال دراستنا لما نعرف من أغاني هؤلاء البدائيين."

ويذكر الأستاذ جابر عصفور في كتابه المشار إليه هذا تعريفاً عن الخيال اعتماداً على الاستخدام اللغوي المعاصر لهذه الكلمة من حيث إنها "القدرة على تكوين صور ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحواس"، ولم يُغفل الأستاذ جابر عصفور في تعريفه للخيال البُعد الزمني والمكاني سواء بحضوره أو انصرافه، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "إن الخيال يُقدّم نتائجه إلى عين العقل التي تتلقاه مفترضة أنه واقع، حتى لو كانت تعلم أنه غير ذلك" وهو بذلك يخلط بصورة واضحة بين الخيال والوهم أو بين التخيّل والتوهّم. والحقيقة أن الفارق الأوحد بينهما هو في ميزة الإدراك، فالصور الذهنية المتخيّلة سواء ارتبطت بالواقع أو لم ترتبط به، وسواء كانت أسيرة للزمكان أو خارجة عليه تظل صوراً محاطة برعاية الإدراك وحدوده، في حين يتعدى هذا الأمر في التوهّم؛ إذ يُصبح من الصعب على العقل البشري التحقق من ارتباط هذه الصور الذهنية بالواقع، أو حتى الفصل بين ارتباطاتها.

يبقى الخيال خارجاً عن حدود العادة الذهنية المنصرفة إلى ما هو مادي محسوس عمّا هو فوقي وماورائي، وربما ولّد شغف الإنسان بالماورائيات إلى خلق أنساق من التصورات التخيّلية التي يسعى بها إلى إشباع حاسة المعرفة والتطلّع إلى ما هو أبعد من الزمان والمكان، وإلى ما هو أقوى وأصدق من الكائن والممكن. هذا الشغف الذي أجزم بأنه كان النواة الأولى التي ولّدت الأدب في صورته البدائية، في شكل طقوس أو ترانيم أو حتى أساطير. وربما يُفيد في هذا الصدد مراجعة المخزون الشعبي للوقوف على الأسس التراثية والفلكلورية التي ينطلق منها الإنسان المبدع في تكوين تصوّراته الذهنية، دون أن نغض الطرف عن إسهامات الجوانب الروحية الأخرى سواء المتكسبة أو الأصيلة منها من مشاعر وغرائز وتعاليم دينية وغيرها.

إن التخيّل شغف غريزي على الأرجح، يحتاج إليه الإنسان على الدوام لإشباع حاجاته المعرفية، وتساؤلاته غير المحدودة عن الطبيعة والإنسان والله والآخرة وكل ما يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في حياته ويُحدد نمط معيشته، بسلطة يختارها هو أو تفرض عليه. ويُساعد هذا الخيال في اكتساب قدرات ذهنية خاصة من شأنها أن تُثري مهاراته اللغوية، ولاشك أن اللغة تُفيد من هذه المهارات في تطوير نفسها، ولتكتسب اللغة –بعدها- طابعاً تفاعلياً ديناميكياً. كما أنّ الخيال في أحيان كثيرة يعمل كميكانيزم دفاعي يلجأ إليه الإنسان للهروب من واقعه، ويحتاج إلى هذا الأمر الكثير من الفئات والشرائح الواقعة تحت وطأة الاضطهاد والقهر، وفي أحيان أخرى يُساعد الخيال على التخلّص من حالات الاكتئاب والتوتر. ويُصبح السؤال الأكثر أهمية: "هل الخيال مُثير أو مُستجيب؟" بمعنى هل الخيال هو ما يُحرّك الصور الموضوعية أم أن هذه الصور الموضوعية هي من تُحفّز على الخيال؟ وكما أرى فإن الأمر لا يقع في جانب التكاملية الصرفة، بقدر ما هي منحازة إلى الاستثارة لا الإثارة، ففكرة الموت وصورته (مثلاً) هي من تستفز الخيال وتدفعه إلى التصوّر، وكذلك الشيء نفسه في الصور والأفكار الأخرى: الحب، الجنس، الحرب، السلام، الخير، الشر... إلخ.

وعلى هذا فمن النادر جداً أن تجد إنساناً ينظر إلى هذه الصور والأفكار بصورة مجرّدة دون أن تنتابه نزعة التخيّل، وهؤلاء الذين لا يرون في هذه الصورة إلا تصورات عامة مجرّدة، هو في الحقيقة مرضى نفسيون، منفصلون عن واقعهم، ومصابون بخلل ذهني ما. وعلى أيّ حال؛ فقد ساعد الدين كثيراً على تنشيط هذه العملية الذهنية، وتنميط بعض الصور والأفكار، أو حتى إكسابها طابعاً خيالياً؛ بحيث يتمكن كل شخص من تصوّر الأفكار بالكيفية التي يُريدها، فكل واحد منا له تصوّراته الذهنية الخاصة عن الجنة (مثلاً)، مستندين في ذلك على الطابع التخيّلي الذي منحته لنا النصوص الدينية عنها (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وحتى النصوص المسيحية واليهودية لم تخل أبد من هذه التصورات الخيالية لكل ما هو واقع في نطاق الحراك البشري؛ بل إنّ غالبية نصوص التوراة معتمدة على هذا النسق التخيّلي الأسطوري.

إن الكلام عن الخيال هو كلام خصب للغاية، ولكن يهمنا في المقام الأول أن نعرف ما هو الخيال، وهل هو عنصر أساسي في الرواية فعلاً أم لا، وما الفرق بين الخيال والتخيّل أو بين ووالواقع أنّ الخيال هو عنصر أساسي في الكتابة الإبداعية بشكل عام سواء على المستوى الشعري أو السردي، والخيال في مطلقه شيء غير حقيقي، ولكنه مرتبط بالواقع، بل ويستمد قوته منه، وقد جاء في لسان العرب في باب (خ.ا.ل): " خالَ الشيءَ يَخالُ خَيْلاً وخِيلة وخَيْلة وخالاً وخِيَلاً وخَيَلاناً ومَخالة ومَخِيلة وخَيْلُولة: ظَنَّه، وفي المثل: من يَسْمَعْ يَخَلْ أَي يظن" فهو تصوّر الشيء في غير موقعه.

ويحتاج الكاتب إلى الخيال ليُعبّر عن مكنونات نفسه بصورة أدق، فيقول أحدنا: "ضاقت الأرض بما رحبت" للتعبير عن حالة الضيق والكدر والغم، وهذا كلام متخيّل، فالأرض لا تضيق فعلياً، فهو يتصوّر الشيء في غير موقعه، وقد يقول أحدنا: "شعرها أسود كالليل" وهو تشبيه يقع على المحبوبة، بقرينتين: السواد، والطول، وهو تصوّر غير واقعي على أيّ حال، وهكذا فإننا نرى استخدامات الخيال في الوصف والتشبيه والمقاربة وغيرها من الاستخدامات الأدبية المتعددة.

وعن نفسي فإني أعتبر الخيال ليس شيئاً سوى تشويه الواقع، فخيال المتخيّل مهما طمح ورمح، فلن يعدوا كونه تشويهاً للواقع، فالخيال لديّ لا يعتمد إلا على هذا التشويه أو مخالفة العادة، وأياً يكن الأمر فالخيال عنصر أساسي من عناصر الكتابة الإبداعية، ولاسيما الرواية، بل إن بعض النقاد عدّه من أهم العناصر التي يُمكن بها التعرّف إلى قدرات الروائي، وكلّما كان خياله خصباً، كلما كان أكثر تميّزاً. وهنا نفرّق بين الخيال والتخيّل والتي تهتم فيها الأولى بالكتابة الإبداعية، بينما تظل الثانية عامة ومفتوحة على كافة العمليات الذهنية التخيّلية سواء البسيطة منها أو المعقّدة، فالخيال هو عمل إبداعي، بينما التخيّل ليس كذلك، وعلى هذا يُمكننا أن نقول بأن كل خيال هو صنف من التخيّل، ولكن العكس ليس بصحيح على الإطلاق، فليس كل مُتَخيّل بالضرورة خيال.

إن الكلام عن فن الرواية يعني بالضرورة ربط هذا الفن بعناصر متعددة: منها ما هو مستقل بذاته، ومنها ما ليس كذلك، فالوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي في الحقيقة دوائر متداخلة، ولكنها غير مستقلة على الإطلاق عن الإنسان، فهذه العناصر مجتمعة مرتبطة بوجود الإنسان ووعيه وتفاعله مع البيئة ومع نفسه، ورغم ذلك فإن ثمة حيوات منفصلة تماماً عن هذه المنظومة المتداخلة، وأقصد بذلك الحيوات الذاتية لكل فرد؛ فللفرد داخل المجموعة حياته الخاصة أو السريّة التي يعيش في صراع بينها وبين ما يقتضيه وجوده الاجتماعي: ما يرضاه وما يتمناه، ما يفعله وما يتمنى أن يفعله، ما يقوله وما لا ينبغي أن يقوله.

وفن الرواية باعتباره فناً يُحاكي الواقع أو يوازيه، فإنه -بطريقة ما- يُصبح الطريقة الأنجع، والأكثر إبداعاً لخلق وقائع مثالية (ربما)، أو أقرب إلى خوض صراع افتراضي ما هو كائن، وما هو ممكن أو مستحيل الإمكان. وكأن الروائي -حين يكتب روايته- يُجري حوارات مفترضة بينه وبين سلطة واقعية سواء كانت هذه السلطة سلطة اجتماعية أو دينية أو حتى سلطة الذات العليا. وهو بذلك إنما يحاول قياس إمكانية المعقول منها وغير المعقول، ويبتكر شخوصاً يُقدمهم قرابين لهذا الاختبار الوجودي في الحقيقة.

إنّ الحياة الواقعية المعاشة بشكل يومي تمثل مجموعة من المصادر الروائية لآلاف القصص والحكايات الحيّة، التي يُمكن استنساخها وإعادة صياغتها في قوالب فلسفية سردية جديدة، يُنتج فيها المبدع عناصرها الأساسية المترتبة أو السابقة عليها: الزمان والمكان والشخوص والحدث؛ إذن فثمة حياة جديدة (مكتملة العناصر) يبتكرها الروائي لسبب ما: إما لقياس قدرته على المحاكاة الجيّدة، أو لخلق صراعات افتراضية يقيس بواسطتها إمكانية قبول المتخيّل لديه من قبل الآخر.

الأمر يُشبه –إلى حدّ ما- محاولاتنا لوضع تخمينات حول ردود أفعال المجتمع إزاء وجهات النظر الخاصة، ومدى قبول الآخر بالأنا، تلك التخمينات التي نصوغها باستمرار في حياتنا اليومية بطريقة تلقائية حتى دون أن نشعر بذلك، ووضع خطط بديلة لأنماط سلوكنا بناء على استنتاجات منطقية مستقاة من خبراتنا العامة، كأن نقول: "ترى ماذا سوف يحدث إذا تغيّبت عن العمل دون إخطار مسبق؟" وعند طرح سؤال كهذا (مثلاً)، فإننا لا نبحث عن الخطوات الإجراءات، وإنما نحاول كشف الأبعاد المتعلّقة بذواتنا الخاصة؛ بمعنى: أننا لا نتساءل عمّا سوف تتخذه المؤسسة من إجراءات قانونية، وإنما عما تترتب عليه هذه الإجراءات، وتؤثر مباشرة في نظرة الآخر إلينا، ومن ثمّ علاقة ذلك بنظرتنا إلى أنفسنا وتقديرنا لذواتنا.

"ترى ما الذي سيحدث إن خرجت إلى الشارع عرياناً؟" هذا السؤال لا يبحث عن الخطوات الإجراءات، وإنما عن تداعيات هذه الخطوات؛ فمن المؤكد أنني سوف أكون معرضاً للمسائلة القانونية إذا خرجت إلى الشارع عرياناً، وربما يتم تقديمي إلى المحاكمة، ربما أسجن، وربما أجلد، ولكن هل هذا هو ما يُهمني معرفته فعلاً من هذا السؤال؟ أم: ماذا سيقول الناس عني؟ كيف ستكون علاقتي بأهلي، وجيراني بعد ذلك؟ هل سيقل احترامهم لي؟ إلى أيّ مدى قد يتأثر تقديري لذاتي جراء ردود أفعال الآخرين؟ هذه هي الأسئلة والهواجس الحقيقة التي تشغل بالنا على أيّة حال، وهذا ما يحاول الروائيون بحثه ومناقشته في رواياتهم.

يُحقق الروائي نوعاً من الشعور بالرضا لدى تمكّنه من خلق هذه الإمكانيات، وطرحها دون أن يكون مسائلاً من الآخر بصورة مباشرة؛ فهو يطرح تساؤلاته الذاتية من خلال الآخر (شخصيات الرواية Characters)، ويُحمّلهم تبعات هذه التساؤلات التي يخلقها بنفسه. ثمة أشخاص قد لا يطرحون مثل هذه التساؤلات إما لكونهم في حالة تصالح أو تسوية مع الذات أو الآخر، أو لكون خبراتهم الخاصة لا تحمل محفزات كافية لإثارة هكذا تساؤلات، ولكن الروائي حين يبتكر شخوص روايته؛ فإنه يضع لهم سماتهم الشخصية العامة والخاصة، وتاريخهم النفسي والاجتماعي والثقافي والمعرفي ليُمهّد لمنطقية ما ليس بمنطقي، أعني الأفكار المتعارضة تماماً مع مجتمعه.

هذا التكتيك السردي التحايلي يُمثل متعة بحدّ ذاتها، ولكن المتعة الحقيقة تكمن في نجاح هذه الشخصيات المبتكرة من اختراق قوانين الآخر، وقدرتها على فرض نفسها في الواقع المستنسخ عنه، وبمعنى آخر قدرة هذه الشخصيات على القفز من واقع المحاكي إلى الواقع المحاكي منه، والأغرب من ذلك كلّه، هي قدرة هذه الشخصيات على التخلّص من مبتكريها واستقلالهم عنهم وتلك هي النقطة التي تجعلنا نحكم على هذا المبتكر بالفرادة والتميّز، بينما يفشل عدد من الروائيين في خلق شخصيات قادرة على إنجاز هذا النجاح ولو بصورة صورية مؤقتة.

إذن، قد تكون الرواية أداة قياسية يستطيع بها الروائي أن يقيس ردود أفعال المجتمع تجاه أفكار محددة، أو توجهات فكرية ما، دون أن يخشى المحاكمة، وهذا الكلام ليس بالضرورة قابلاً للتعميم، ولكنني أقول بأن الرواية في مرحلة ما من مراحلها تشكل الروائي وليس شخوص الرواية، وهذا يظهر جلياً في بعض هنّات الرواة، والتي تمثل طغيان الروائي على الراوي. وفي كثير من الحالات الروائية؛ لاسيما في الأدب النسوي (إن صحّت التسمية)، يتم استخدام الرواية لهذا الغرض، هذه الحالة من القطيعة بين الروائي والراوي لا نجدها منتشرة بكثرة في الأدب العالمي، ربما لأن ثمة مصالحة كبرى بين الفرد وبين المجتمع، وأن الفرد هناك نجح إلى حدّ كبير في وضع هوامش لحرياته حسبما يراها ويريدها، ولكن تظل هذه السمة (الحرية) مفقودة في الأدب العربي، لخلو الأجواء العربية من الحريات المطلوبة للإنتاج الإبداعي.

ولاشك عندي أن القهر والعنصرية والتمييز بكافة أشكالها، تُعد مولّدات حقيقية وفاعلة في نشوء مثل هذه النماذج المشوّة من الكتابات الإبداعية، إذ –كما قلنا سابقنا- فن الرواية لا ينبغي له أن يتناول الفرد خارجاً عن سياقه الاجتماعية والبيئي، بل يُعتبر الإنسان عنصر أساساً من عناصر البيئة يؤثر فيها، ويتأثر بها في المقابل، وإنّ أيّ إخلال بهذه النسق التفاعلي قد يُمثل أولى درجات انحطاط الأدب بشكل عام، والرواية بشكل خاص.

لا أطالب بذلك محاكمة الروائيين من خلال كتاباتهم، بقدر ما أُطالب بالتفهّم التام لمثل هذه الحاجات الإنسانية المُلحة، وتقدير هذه القطيعة الكائنة بين الأدب ومنتج الأدب، بين الكاتب والمكتوب، بين النص والناص، وأن نتعرّف إلى الأجواء التي وفرها القمع والقهر وساعدت على ظهور مثل هذه النماذج. إن الروائي بذلك يُعد مجنياً عليه، لا جانياً، مظلوماً لا ظالماً، بل وهذا التحال لا أعتبر إلا فتحة هواء نقيّة في فضاء موبوء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى