الاثنين ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم جميلة يحياوي

نظّارة بانة

اوشك الفصلُ الدّراسيّ الأوّل على الانتهاء، فوقفتِ المُعلّمة أمامَ تلاميذِها تُهنّئُ مَنْ تفوّقَ منهم، وتَحُثُّ مَنْ يحتاجُ إلى تحسينِ نتائِجِهِ على بَذْلِ المزيدِ من العملِ والنّشاطِ..

ثمّ ختمتْ كلامَها قائلةً: صَفّقوا لرفيقتِكم بانة، لقد احتلّت المرتبة الأولى، ولهذا اخترتُها أنْ تلقي أنشودةً، في افتِتاحِيَةِ الحفلِ الّذي سيُقامُ الأسبوع القادم.

صفّقَ جميعُ التّلاميذ بحرارةٍ إلّا كِنان..

وعندما توقّفوا عن التّصفيق، وعمَّ الصّمتُ أرجاءَ القسمِ، سلّمتْ المعلمةُ بانة ورقةً، وقالتْ: "صغيرتي بانة، احفَظي هذه الأنشودة جيّدا وردّديها كثيرًا في البيت!"

احمرّ وجهُ بانة، وقالت:" نعم معلّمتي سأحفظُهَا جيّدا."

بعدَ الخُروجِ من المدرسةِ، سار كنان بِبُطْءٍ نحو البيت، وهو يردّد: "بانة.. دائما بانة.. ، بانة الأولى في الصّف.. بانة تُلقي الأنشودة.. "

أمّا بانة فسارتْ سعيدةً تُسرعُ الخُطى، حتّى تحفَظَ الأنشودةَ جيّدا.

وفي المساءِ، استلقتْ على فراشها، تتخيّلُ نفسَها وهي واقفةٌ على خشبةِ المسرح بفستانِها الزَّهْريِّ الجديد..

وفجأةً قطعَ صوتُ المطرِ المُنْهَمِرِ بغزارة خيالَها، فاسْتسلمتْ للنّعاسِ ونامتْ على صوتِ حَبّاتِه الغليظة وهي تَنْقُرُ بشدّةٍ على سطحِ بَيْتِهم القِرْميديّ.

أمّا كنان فقد قضى الليلةَ مُتقلّبًا في فراشه، لا يستطيعُ النّوم، فتمنّى لو يتواصلُ انهمارُ المطرِ طيلة الأسبوع حتّى تغرق الطُّرقاتُ ولا يستطيعُ أحدٌ الوصولَ إلى المدرسة يومَ الحفلِ..

وفي يومِ الحفلِ، استيقظت بانة سعيدةً، وجلستْ تترقّبُ حلولَ وقتِ الحفل وهي تردّدُ بِطلاقةٍ الأنشودةَ الّتي حفظتْها.

ولمّا اقتربَ وقتُ الخروجِ من البيتِ، لبستْ فستانَها الجميل، لمّعتْ حِذاءَها الأسودَ البرّاقَ، ثمّ مسحَتْ بعِناية نظّارتَها الطِّبِّيةَ الّتي دونَها لا تستطيعُ النّظَرَ بدِقّةٍ للأشياء..

وفي طريقِها إلى المدرسة، رأتْ بِرْكَةَ ماءٍ كبيرةً وسَطَ الطّريق، تَمْتَمَتْ: "ها هي بِركةٌ كبيرةٌ، قد صَفا ماؤُها وصار مثل المِرآة، يُمكنُني أن أنظرَ إلى نفسي وأتفقّدَ جمالي، لعلّ الرّيحَ طيّرتْ شَعْري.."

اقتربْت بانة من البِركة، وانْحنتْ لترى صورتَها في الماء، ولكنّ الرّيحَ أحدثَتْ انكِساراتٍ في الماءِ جعلتْ شكلَها لا يبدو واضحا، اقتربتْ أكثر فأكثر، ومالت برأسها نحو الماء حتّى سقطتْ نظارتُها في عُمْقِ البِركة.

وقفت بانة خائفةً وهي لا تكادُ ترى شيئا، حائرةً لا تدري ما تفعل..

وفجأةً سمعتْ خُطًى مُقْبِلَةً نحوها، وصوتًا تعرفُهُ جيّدًا يقول: "صباح الخير بانة!"

ردّتْ: "صباح الخير كنان"
قالَ كنان بفضولٍ: "لِمَ أنتِ واقفةٌ هنا؟"
قالت بانة بحزنٍ: "لقد سقطتْ نظّارتي في هذه البِرْكةِ."
ابتسمَ كِنان بِخُبثٍ، وقال في نفسِه: "ها قد جاء يومُك يا بانة"
قالت بانة بحُزنٍ: "البِركةُ عميقةٌ جدّا، لا يُمكِنُني إخراجُ نظّارتي الآن"
قال كِنان: "بلْ قولي وَداعًا لها، لقد ابتَلَعَتْها البِركَةُ إلى الأبد"
ازدادَ حُزنُ بانة، فقالتْ يائِسَةً: "هيا كِنان لِنُواصِلَ طريقَنا إلى المدرسة، سنتأخّر عن الحفلِ" وسارتْ نحو المدرسةِ، أمّا هو فوقفَ في مكانِهِ لا يدري ما يفعل..

أحسّ كِنان بحزنٍ وهو ينظرُ إلى بانة وهي تسيرُ بِبُطءٍ وحَذَرٍ شديديْن، ودونَ تَرَدُّدٍ جلسَ القُرْفُصاءَ وأدخل يدَهُ في البِركةِ لِيتحسَّسَ ما بِداخلِها، ولكنّه فشلَ في الوصول إلى العُمقِ..

فكّر قليلًا ثمّ أحْضَرَ عودًا طويلا ليتحسّسَ به قاعَ البِرْكةِ، ولمّا لم يجدْ شيئا، استلقى على الأرض وأدخل ذراعه، وبفرحةٍ كبيرةٍ، قالَ: "ها قدْ أمسكتُكِ أيّتُها النّظّارةُ الهارِبة!"

ولمّا نهضَ، صُعِقَ وهو يرى قميصَه الأبيضَ وقد لَطّخَه الوَحْلُ، وسُترتَه السّوداءَ وقد بلّلها الماءُ..

قال في نفسِه: "كيف أذهبُ إلى الحفلِ بهذا المنظرِ؟ لا بدّ أن أعودَ إلى البيت لتغْييرِ ملابسي"، ثمّ استدركَ قائلا: "ولكنْ، كيف يُمكنُ لِبانة أن تقف على الخشبة دون نظّارتِها؟"

مَسَحَ النّظارة بكُمِّ سُترتِهِ، وسار بِخُطًى سريعةٍ نحو المدرسة..

وصلَ كنان إلى المدرسةِ لاهِثًا، وقبل أن تسأله معلّمتُه عن سببِ مظهرِه ذلك، أسْرَعَ نحو بانة التي كانت تقفُ خائفةً على خشبة المسرح، و دونَ أنْ ينتبِهَ إلى مُكبِّرِ الصّوتِ، قال بحماسٍ: تفضّلي بانة نظّارتك، لقد تمكّنتُ من إخراجِها من البِركة!"

فرِحتْ بانة فرحًا شديدًا، شكّرتْهُ، ثمّ انطلقتْ في مُواصلةِ إلقاءِ الأنشودةِ بكلّ ثِقةٍ وحماسٍ.. أمّا الحضورُ فقد صَفّقوا لِكنان بحرارة وهو يغادرُ الخشبةَ..

وفي نهاية الحفلِ، قطفَ التّلاميذُ الأوائلُ ثِمارَ كَدِّهِم وجِدِّهِم، وحصلَ كلٌّ منهم على جائزةٍ. ولمّا كان كنان يستعد للمغادرة، سمع معلّمتُه تناديه بصوتٍ عالٍ دوى في أرجاءِ المدرسةِ، تطلبُ منه الصّعودَ إلى المنصّة.
قال بخجلٍ: "أعتذِر معلمتي لأنني صعدتُ على خشبةِ المسرح بثيابي المتّسخةِ هذه"

قالت المعلمة بحنانٍ: "هي اجملُ ثيابٍ في الحفلِ، إنّها ثيابٌ مُرَصّعَةٌ بلآلِئِ الإنسانيةِ، والشَّهامةِ، والشّجاعةِ، وحبِّ الخير"

ثمّ رفعتْ صوتَها قائلةً: " أمّا جائزة الإنسانيةِ، والّتي سنَمْنَحُها ابتداءً من هذه السّنة، فهي من نصيبِ تلميذي كنان."

استلمَ كِنان بفرحٍ مجموعةً من الكُتُب، قضى في قراءتِها أيّامًا جميلةً خلال عطلتِهِ الشّتويّة، وهو كلُّه عَزْمٌ على أن يَحصُدَ في الفصلِ الدّراسيّ الثّاني جائزتين: جائزةَ التّفوُّقِ وجائزةَ الإنسانيةِ وعملِ الخيرِ.

= انتهت =


مشاركة منتدى

  • في روايته الاخيرة ( فلكُ الدَّرَاويش ) الصادرة عن دار غراب يناير ٢٠٢٣ م ، يواصل محمود حسانين تأصيل معاناة العارفين بالله ، في فُلك يسير ، أو فَلك يدور ، يتواصل كل أقطابه أو يتوارثون المعاناة في نسل، قد لا ينقطع .

    في البداية يقرأ ( جلال الدين ) الحفيد كتاب جده ومسيرة الطريقة السراجية والتي ابتكرها الكاتب .
    ( كان بالقرب من الجبل طريق مليئة بالتراب والصخور، فعلم بأنه من الصعب السير في هذا الطريق، ولم يجد غيره فبحث عن طريق آخر كما أخبره الراعي فلم يجد، فعلم أن طريقه الثاني هو الصعود إلى الجبل، فنظر إلى أعلى، فعلم أنه شاق عليه تسلق الجبل لكي يصل لما وراءه، ولم يجد أمامه خيراً له غير الدخول إلى تلك المغارة التي بباطن الجبل، حتى يستريح ويتدبر حاله وما عليه أن يفعله ) وكأنه يخبرنا ، أن الوصول إلى الله لا يحتاج أن تتبع طريقة بعينها ، يكفيك طريقتك الخاصة المكنونة في قلبك ، إتبع ما يمليه عليك فهو بالتأكيد متصلا بخالقه ، وهو الذي يُعرض عليه (جلَّ جلاله ) في اليوم خمس مرات فلا يحتاج لهم .

    وبرغم أن الثلث الأول من الرواية يخصصه الكاتب لترسيخ معاناة الوصل والترقي، داخل الأجيال السابقة ل( لجلال الدين )، كجده الأكبر (عبد الرحمن بن صفي الدين ) ، وأبيه ( علم الدين ) ، إلا أن البطل الحقيقي في هذه الرواية هو الكتاب ، كتاب ( السيرة والمسيرة ) كما سماه الكاتب ، المخطوطة التي يتلقاها الحفيد من جده ،ليعلن لنا أن رُقيّك وإرتقاءك من خلال الكتاب ( القرآن ), لا من خلال الأشخاص ، التي قد تتلون طُرقهم في كثيرٍ من الأحيان بميولهم وأمزجتهم .

    إستطاع حسانين أن يبحر بنا في العالم الصوفي الذي تحفة بعض الغمامات، العالم المبهم ،العصي على الفهم إلا من مُريديه وأقطابه ، لا تفكر رموزه إلا عن طريق المعرفة ، التي يمتلكها المريد عن طريق القرب والتقرب، فمثلا لمحة هبوط الجد الأكبر من فوق الراحلة ( كاد جسده أن ينهار ، وقواه قد خارت، فاستند إلى ذراع رجل مدت إليه، وتحامل على نفسه حتى دخل المبنى، فأجلسه الذي يسنده إلى أحد جدران المكان، فرفع إليه عينيه ليرى من هذا الرجل، فوجد أمامه طيفاً لشيخ، عليه سمة الوقار يبتسم له وهو يبتعد في فضاء المكان )، هو إسقاط على بعض الأحداث التي يتلقاها الصوفي من السماء، والتي تكون علامات للرقي عنده و الوصول ، وعلامات التضليل والخرافة عند بعض مناهضي هذه الفكرة .

    وإستعان الكاتب في روايته على أكثر من خط بنيوي بين الإنتقال الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل ، كما حدث في الأحداث المقروءة للجد والجد الأكبر والأحداث المتواترة بالتزامن مع الحفيد ، وبين بنية غرار ألف ليلة وليلة في تفسيرات ما لا يفسر وتلميحات ببنوية إسطورية متفردة تماست - رغم البعد - والأسطورة الشعبوية البسيطة التي تنبع من العقل الجمعي المتلاحم والمتغير باستمرار، وبين رواية مبنية على غرار السير الشعبية التي إستلهمها الكاتب ليضف على الحكايات الشعبية منتجاته الفكرية وتفاسيره التي تخدم خطه الإبداعي في الرواية .

    غالباً ما اتكأت اللغة على المفردات الصوفية مثل ( الطيف الرباني - التجليات - النور - تشرق شمس المعرفة - نهر التجلي - يبتهل - سكينة وخضوع - أهل الصفوة - يأتي له البرهان - تغتسل بضيائه - شراب التجلي - يا رجال الهمم الشمس صعدت القمم - الغيب - أطياف - أفاض عليه - يغتسل من كربه - الكشف - الألهام - المشاهدة ) ، كما إستند إلى مقولات بعض الصالحين من أقطاب الطريقة مثل ( وآنسني فيك النجوم برعيها .... فدرٌيها حَليٌ وبدرُ الدٌجى إلفي ) للشاعر الأندلسي ( يوسف بن هارون الكندي ) ، ومثل ( الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر الرسول ) ( الجنيد ) هو رائد حركة التصوف، أبو القاسم الجنيد بن محمد ، و ( لكل شئ إذا فقدته عوض، وليس لله إن فارقت من عوض ) لقطب الصوفية الأشهر ( محي الدين بن عربي ) ، وغيرها الكثير ، فتنهل الرواية في مجملها من هذا النبع لتتأكد فيها قدرة الصوفية على الاستمرارية، ومن هذا الاستمرارية في رأيي المتواضع قد يتسع هذا النص ليفرد له الكاتب أكثر من رواية أو متتالية ، تسرد لنا تلك القماشة الدسمة وما يتعاقب عليها من الأجيال.

  • سلمت روحك على هذه القصة الرائعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى