الأحد ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم زهير الخويلدي

نقد الهوية المهمة والخروج عن المألوف

"يحق لنا أن نطلب من الفكر أن يزيل الغشاوات والعتمات وأن ينظم ويوضح الواقع وأن يكشف عن القوانين التي تحكمه."1

يظل الانتماء إلى دائرة الضاد من جهة اللغة التي نسكنها وتسكننا ونتكلمها وتتكلمنا عند البعض من المترددين مجرد انتماء غامض ومستعصي في ظل الخوف من الهوية وبروز عولمة متوحشة وهويات قاتلة ، كما يبقى التبشير بحضارة اقرأ من جهة الاجتهاد في النسق الاعتقادي الذي تتحرك إليه عقولنا وتسكن إليه قلوبنا وتهذب به جوارحنا غرقا في الوحل ونفخا في السراب عند بعض المفرطين في العلمية والموضوعية خصوصا عندما يحكمون على الدين بوصفه أضغاث أحلام وطفولة الفكر البشري وعلى الأمة بكونها جماعات مأزومة ومنطوية على ذاتها وعندما يصطدمون بعدة تحفظات تربوية وموانع قانونية.

المانع الأول هو التصاق الانتساب إلى العروبة حسب بعض الاستشراقيين بتهمة التأخر الحضاري والجدب الثقافي والانحراف نحو آفات التعصب اللغوي والتمركز على الذات ورفض الغيرية وارتباط القومية بالشمولية في سياسة الشأن العام والتوجه نحو انجاز التوحيد القسري عن طريق القوة.

أما المانع الثاني فهو الخلط بين رسالة الإسلام السمحة والتجارب السياسية الخاطئة من الإسلام التاريخي وما انجر عن ذلك من توظيف سلطوي ومزايدة على الإيمان واحتكار لتصريف شؤون المقدس وادعاء البعض الانتماء إلى الفرقة الناجية عن طريق الظنة وتحكيم الحشود للموقف التراثي في النظر إلى العالم والذات والآخر والحرص على كسب ود الحس المشترك وحشد الأتباع.

المانع الثالث هو التخوف من العروبة والإسلام بسبب حالة التوتر الدائم بين النحن والهم وتعرض وطن الكينونة إلى نكبة وجودية وحرب استباقية متناسلة وتفاقم العجز والفرقة والتخبط في الداخل مما أربك المشهد وحجب الرؤية وعمق الفجوة بين الأنا والآخر وعَطّل إمكانية اللحاق بالركب الحضاري.

على الرغم من هذه الموانع وهذه المخاوف والشبهات تزداد رغبة التفكير لدينا في تدبير العلاقة بين ماهو لغوي وماهو ديني لدينا وفي فصل المقال فيما بين العروبة والإسلام من اتصال وذلك لأن العربي يعاني اليوم من عروبته أكثر من أي شيء آخر لما أحاط بها من أحكام مسبقة وممارسات منفرة ولواقع الفرقة التي تردت إليه، وان المسلم المعاصر محاصر بإسلامه ويضيق بإيمانه مثل القابض على الجمر نتيجة عودة المكبوت وانتشار فوضى الفتاوي واكتساح الماضوية الميدان العلمي لفهم النص.

كما أضحى المتدين العادي سجين الفهم الحرفي السطحي والاعتقادات الخيالية وتحول إلى كائن مقلد ينتصر إلى المذهب والطائفة على حساب الوطن والأمة خاصة بعد أن بات عنده الاختلاف نقمة والتنوع افتراقا والتعدد سببا للتباغض والتحارب وصارت عراقة التاريخ وأصالة الثقافة عند الغير تخلفا وتراثية.

هذا الحال هو مغاير لما كان موجودا في عصور الازدهار والمجد وذلك أن الانطلاقة التاريخية الفعلية لحضارة اقرأ كانت مع امتلاك العرب لظاهرة النبوة بعد استحواذهم على الطبقة العليا للشعر وتحولهم إلى أهل كتاب ينسخ جميع الكتب السابقة ويقول رسولهم إلى العالمين أنه أوتي جوامع الكلم وأنه جاء مبشرا ونذيرا وليتمم مكارم الأخلاق وأن القرآن هو الأول وهو الآخر وفيه مدينة العلوم والكثير من الأشياء المختلفة الخارجة عن المألوف التي ستغير وجه الأرض وتسرع من حركة التاريخ.

من هذا المنطلق كان التقاء العروبة بالإسلام قد مثلا حدثا استثنائيا بالمعنى التاريخي للكلمة وخروجا عن المألوف بالمعنى الحضاري وهو انصهار قد انبثق عنه تشكل استفاقة عقلية وهبّة حضارية جديدة بقيت حية ومتواصلة إلى يومنا هذا وأفصح عنها اللسان عربي عندما عبر عما في الوحي القرآني من آيات وسور ومعان وقيم كونية. كما أن حضارة اقرأ مثلت كأحسن ما يكون الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة وفهمت اللحمة التكوينية لعناصرها على أنها حالة من الاندماج الطبيعي والتنظم الوظيفي خال من كل أشكال الإقصاء والتهميش وبقيت نوازع الانغلاق والملية غريبة عن جوهرها المتدفق ونفسها الزكية.

كما أنها أدمجت تجربة الخروج عن المألوف ضمن البنى التحتية لهيكيلتها التأسيسية وتمثل الخروج عن المألوف في الحركة التي قام بها النبي محمد عندما قال لا شرقية ولا غربية وعندما حطم كل الأصنام القديمة والأوثان الميتة وزرع الأمل في المؤلفة قلوبهم من مستضعفي الأرض ولما ألزم نفسه وجماعته بما لايطاق من مشاق الطريق وتحديات المرحلة ومخاطر إبلاغ الرسالة إلى العالم بالرغم من قلة النصير وضعف الموارد وحداثة عهد الجماعة الأولى بالتجربة الكتابية.

عندئذ كان إعجاز القرآن البياني إعلانا عن ختم النبوة ونهاية عصر المعجزات البرانية والخوارق والكرامات وبداية زمن العلم والسببية والمعجزات الجوانية وكان تشكل العلوم العربية احتراما لسنن الكون وميلاد للعقل وللفرد الحر والمسؤول عن أمانة الاستخلاف والتعمير في الأرض التي شرف بها.

كما أن الخروج عن المألوف هو الذي يصنع الهوية الكوكبية المستقبلية على الرغم من استماتة حراس التاريخ التذكاري في الدفاع عن الحقائق الراسخة وفي ظل تنامي نزعة تراثية محافظة تمج الذاكرة وتقديس الماضي. إن"الخارج عن المألوف الذي ينجح في التجذّر ينشىء وسطا صغيرا جدا حيث يجد عشه الأول وينمو بإنشاء شبكات ومجموعات تحمل الحقيقة الجديدة... ويلزمنا أحيانا وقت طويل من الحضانة قبل أن يصبح الخارج عن المألوف توجها وينتظم ويكسب قوة في العالم الاجتماعي ويعيد توجيه الصيرورة... هكذا في ظروف مواتية –غالبا في الأزمات- يزداد الخروج عن المألوف ليصبح توجها يقوده تطوره إلى أن يصبح هو المعيار الوحيد."2

إن الخروج عن المألوف هو اعتراض على التبسيط والاختزال وعلى الاستسلام للفكرة الواحدة واعتراف بلاتناهي التعقيد وبربرية التقدم وفوضى الإمبراطورية والسير بالنوع البشري نحو الهاوية، وهو كذلك تجاوز البدائل التقليدية والإقلاع عن الموضة الأدبية وإطلاق موجة إبداعية تعبر عن انتفاضة إنسية تشخص العيوب والأمراض وتفتح الأنساق المغلقة وتنجز المنعطف المنشود وتشرع في إصلاح الوعي الغافل والتحذير من التهديدات الجديدة التي تتربص بمستقبل الحياة على الكوكب.

من هذا المنطلق" إن المحرك الداخلي الرئيسي للتاريخ هو الخارج عن المألوف الذي ينمو فيما يُشَلُّ التنظيم الذي يلجمه أو تضعف القوة التي تقمعه."3
في السياق نفسه تبدو الهوية العربية الإسلامية بعيدة كل البعد عن أن تكون على الطراز التلمودي للملة المختارة التي تزعم التفوق على جميع الأمم الأخرى، وهي ليست جماعة دينية خالصة التقوى وصحيحة الإيمان على الطريقة الطهرية وإنما هي اجتماع بشري تجتهد وتصيب وتخطئ وخير التوابين الخطائين مكلف بالإقامة في العالم وفق مبدأ الاستصلاح والسداد ويحتكم إلى قانون إتيان الخير المعروف والابتعاد عن الشر المنكر جاعلا من العمل قاعدة الدين ومن الحلم أساس الحياة ومن العدل ركن التدبير ومن الصداقة جسر التواصل بين العباد. ألم يقل الرسول محمد صلعم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه – أو قال لجاره- ما يحب لنفسه"؟ وألم يذكر أيضا :"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"؟

إن اقتران لغة الضاد بحضارة اقرأ كفيل بأن يجعل من المجتمعات المنتمية إلى العروبة والإسلام واحدة من الهويات المهمة في المعمورة وأهميتها تعود لكونها متجهة إلى المستقبل إبداعا وعملا أكثر من انشدادها إلى الماضي تحسرا وتذكرا وبالنظر إلى الخارج عن المألوف الذي تنجبه من رحمها بشكل مستمر ولا تقدر كل أشكال الرقابة والقمع على إجهاضه ومنعه من الظهور والتحول إلى حقيقة ثورية.

"إن كل أولئك الأشخاص الذين حملوا تجديدا وتغييرات تاريخية هم في الأصل خارجون عن المألوف"4 وان كل الهويات المهمة هي التي تكون نتيجة عمل جبار قام به هؤلاء الأشخاص الخارجين عن المألوف الذين اعتصموا بحبل الحق وقطعوا مع رداءة السائد وإنشدت سرائرهم نحو معانقة المطلق اللامتناهي.

اللافت إلى النظر أن الهوية التي تخصنا تخرج عن المألوف وتتحول إلى هوية مهمة عندما تتبنى نهج المقاومة والاستثبات وتلوح بعصا الرفض في زمن الخضوع من أجل درء الحاجة والجوع والرضا بالاستغلال والاستعباد من أجل المحافظة على الحياة المذلة وفي ظل تغلغل عقلية انهزامية تواطئية مع قوى رأس المال المعولم وغزو إمبراطوري لثقافة التهريج والتطبيل للأنظمة العشائرية القائمة.

إذا كان الواقع بالنسبة إلى الإنسان العربي المسلم قاس ومتقلب ويشهد عدة أزمات ويخضع لجملة من التحولات وإذا كان هذا الموجود لا يقوى على تحمل الكثير من تقلبات الزمن ونوائب الدهر ولم يستعد بما فيه الكفاية من سبل الإصلاح والترقي فإنه ما فتئ يقاوم هذا الواقع بكل ما أوتي من قوة وما لبث يستعين بما أعدته الجماعة من وسائل رمزية ومادية للمحافظة على البقاء وصون الذات.

من هذا المنطلق كانت لغة الضاد أساس استمرارية النحن وتجددها وتميزها عن الأغيار وكان القرآن بمثابة العروة الوثقى الذي يجعل من سائر الأعضاء كالجسد الواحد ومن الأحجار المبعثرة كالبنيان المرصوص وخاصة أن" الإيمان الديني، كماهو الإيمان بأي فكرة، قوة عميقة تجعل المؤمن يتحمل قسوة العالم ويحاربها... ويمنح هذا الإيمان الروح البشرية يقينا وثقة وأملا ويملؤها ثقة بحقيقة منقذة"5.

على هذا النحو تقوم الأديان - والإسلام هو واحد من تلك الأديان التي لعبت دورا مركزيا في التقدم الثقافي والعلمي للبشرية وفي الرقي الروحي والأخلاقي للطبيعة الإنسية - بتعليم الناس كيفية التدرب على الحياة وصناعة التمدن وتفضيل العمل وتقديس الوقت وحسن التصرف في المنافع المسخرة و"التخفيف من خشية الموت وتقبل نوائب الدهر وتبعث على الراحة والطمأنينة."6

من البين إذن أن الهوية التي تخصنا لا تستمد أهميتها من التشريف الأنطولوجي الذي تتمتع به ولا من العبقرية البيولوجية التي تتميز بها عن بقية الهويات ولا تستند في استمراريتها على ثوابت قطعية وإنما من تبنيها لمبدأ التوحيد الرباني وتفريد القبلة والتكليف الرسالي الذي تعهدت به من أجل نشر ثقافة المساواة والتوادد بين الأمم ومن الحرص الدؤوب الذي تبديه على الانتصار إلى الهوية الإنسانية.

حول هذا النبأ العظيم بالهوية المهمة قال عز وجل: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو أمن أهل الكتاب لكان خير لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"7 وإذا تمعنا هذه الآية نجد أن شرط الخيرية هو الأمر بالمعروف وتغيير المنكر وبالتالي إذا انتفى الشرط ينتفي مضمون المشروط ويستبدل الله القوم بأقوام أكثر أهلية للخيرية ويشكلون الهوية المهمة.

إن الدرس الكبير الذي يمكن استخلاصها من تجارب الروح القرآنية في القرون التي مضت أن هوية الناس مشتركة فيما بينهم ولامتناهية التعقيد ومتشابكة المنابت والمقاصد وأنها متعددة الأشكال وتقتضي احترام إنسانية الآخر وكرامة الذات والتآزر بين الفرد والمجتمع والنوع البشري وتبتغي التعايش والتآنس بين الشعوب في مناخ من السلم والتعاون وتنشد ميلاد الإنسان المنتج المتسلح بالحب والحلم والأمل.

إن الشروط التي تجعل المواطنون الذين ينتمون إلى الملة العربية الإسلامية يشكلون هوية مهمة خالية من كل مشاعر التفوق أو التمركز على الذات هي الإجماع التشاوري للانتصار لقيم الحق والعدل نظرا وعملا وتفعيل آلية الاعتبار من الكون والاجتهاد في النص والاحتكام إلى مبادئ حسن الضيافة والجوار والعفو.

هذا الأمر يتوضح أكثر حينما نتدبر هذه الآية من القرآن الكريم ونستخرج مقاصدها ورهاناتها:" كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"8.

انه من المفارقة أن يكون الناس أمة واحدة وينظرون الى العالم على نفس المنوال خاصة إذا كان ثمة اختلاف في الألسن والأمزجة والشيم وكثرة من الملل والنحل ولكن يجب أخذ بعين الاعتبار أن وجود التنوع والتعدد هو أحد سنن الكون وأية من آيات تجلي الوجود ، وربما كانت الحكمة الربانية من إيجاد هذه الكثرة هو التنافس على فلاحة المعمورة وجلب المنافع ودفع المضار والفعل في التاريخ واستثمار الزمان، كما أن بعث الأنبياء وتنزيل الكتاب هو الحكم بالحق والسداد بين الخلق والتمييز بين الاختلاف المحمود الذي يؤدي إلى الهداية والاستقامة والاختلاف المذموم الذي يؤدي إلى الضلال و البغي.

والحق أنه إذا نظرنا إلى بعض آيات القرآن الكريم التي تعتني بشؤون الإنس والكون والآفاق والعالمين بعيون هرمينوطيقية متمعنة يتبين لنا أنه لا توجد هويات مهمة خيّرة وأخرى غير مهمة وشريرة بل ثمة شعوب وقبائل تتحرك على الوتيرة عينها ولها نفس القيمة الأنثربولوجية، ويتراءى لنا وجود جماعات وأمم على سطح المعمورة لتتعارف وتتدافع وتشارك جميعها على قدر مجهودها في صناعة الكونية.

المدهش أن هذه الملل والمجتمعات ذات مصادر متشعبة ولكل منها شرعة ومنهاج ولكنها تشترك في وحدة المصير وهو الكدح نحو الذات المطلقة وملاقاتها بعد السعي والكسب. لكن ألا يوجد تناقض بين هوية مهمة وخروج دائم عن المألوف؟ ما قيمة هوية مصابة بداء الخروج عن المألوف؟ وألا يعتبر نزع الأهمية عن هذه الهوية هو خير تفعيل للخارج عن المألوف الذي يسكن جوهرها المتحفز على الدوام للانطلاق إلى التاريخ الكوني في كل حين؟

المراجع:

أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي،صدر عن كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009، ص.249.

أدغار موران، الفكر والمستقبل، مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى