الثلاثاء ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٨
بقلم ليلى أورفه لي

نون حكاية نبض

قراءة في ديوان فادي حبيب شبل

الشاعر اللبناني فادي حبيب شبل سكنته امرأةٌ فيمّمَ قلبه نحو الشعر، دون وصاية أحدٍ ولا حتى دور النشر، ليبوح بلواعج قلبه وخلجات مشاعره وارتعاش أحاسيسه، وهو الرجل الذي يعشق الكشف والمصارحة بجرأة وجسارة.

فكانت «نون» باكورة قصائده، وقد وجدْتُ النون لديه بدء النبض، فما الحياة بلا نبض وبلا إيقاع؟!
بدء النبض لأنها " حكاية نبض" فها هو الشاعر يجذبنا منذ الصفحة الأولى إلى تلك النون ليخبرنا بأنها كاهنة الصباح المتجسدة في ذاته، وبأنها ثوب الدفء وثوب الأمل.

فادي هو الشاعر العاشق، والعاشق الشاعر الذي يفجّر شغفه شعراً فصحياً وشعراً محكياً، يتغنى بالمرأة الحبيبة مقارباً المحسوس والمادي في مباشرةٍ لغوية وضّاءة لا تحتمل اللبس والتأويل، وفي الوقت ذاته فإن هذه المقاربة تأتي رقيقة نبيلة، كما أنها بانزلاقاتها إلى مفردات حسيّة شهوانية، لا تبتذل جسد المرأة بل ترفعه وترفع الحبيبة معه إلى محراب التعبّد، " على مذبح الخيال كنتِ الحقيقة/ على صدر الحياة كنت الواقع"ص8. وهكذا صارت الحبيبة شراع الفرح ومنارة الدلالة إلى شواطئ قلبه وحياته، وقد أقسم لها بكلّ نبل الفرسان أنه سيستمر أمام صليب وجنتيها متعبداً، فهي كما يشهد لها " ...أنك الحب يا سيدتي/ وأنك العشق يا ملكتي"ص9 وهذا التعبّد والقسم بالمقدسات ليس لأنها الحبيبة وحسب، بل لأنها هي كينونة الحب وكينونة العشق.

وهو حين يؤكد لحبيبته " حبنا خلق فينا الروح"ص10 يؤكد إنسانية الإنسان التي تتحقق وتُخلقُ خلقاً جديداً بشرارة الحب الذي يجمع ويُآلف القلوب، الحب الذي يتحدى الزمن والموت والفناء " ...وأنا أحبك بقوة محبّةٍ لا يقوى التراب عليها/ ولا تنحني أمام عواصف الغدر" ص10 .
أمّا قوّة هذا الحب فقد استمدها من الحبيبة الملهمة التي أقسم لها الولاء والنقاء لأنها قادته إلى عالم النور فنبض قلبه بالحب وماج قلمه بالشعر،"...مع تأكيدي بأنك بسيطة البسطاء/ وملهمة الكتّاب والشعراء" ص16

ونجده في ذروة الشغف والعشق والبوح يقول بأجمل ما قيل في الحب " أريد أن أرتدي حبّك" أيمكن للإنسان ألاّ يستتر برداء؟! فكيف به وهو الذي يريد ارتداء حبِّها؟! أنجد انصهاراً وذوباً بالحب والمحبوبة أكثر من هذا؟! فأجمل به من رداء! إنه الذوب والاحتراق في الحب حتى الانصهار " أنا شاعر في كل شيء إنما/ عند الكتابة عن هوانا/ أحترق"ص 17 . فأجمل به من احتراق.
ويزخر ديوان الشاعر فادي حبيب شبل بالكثير من مفردات السؤال في معظم قصائده ليصوغ منها صوراً جمالية ويرسم بها حالات شعورية تفصح عن مكنون صدره " لعينيك الخجولتين كالماء؟ / أم لخيال وجهك أقول: ما بك؟ "ص19 " .. فكيف لا أمشي لأجلك مشوار الألف ميل؟" ص25 وأي أمر سوى الحب والحبيب ما يدفع بالإنسان للمغامرة والمخاطرة وبدء مشوار الألف ميل في درب الحب؟ غير عابئٍ بمخاطر وعذابات هذا الحب " ظمئي للحب طار بي للجان!"ص18 .
وها هو في عيشه بهجة الحب وفرحه يحاول أن يطلعنا على سرّ النون ويكشف لنا اسم الحبيبة، " فاسمك نغمة في يوم العيد.../... والعيد مأخوذ من اسمك!"ص19 وهو بذلك يرسم صورة اسمها بفرح طفولي بريء، لأن الفرح الأكثر بهجة وسروراً لدى الأطفال هو فرح العيد، ولمَ لا، أليس للأطفال ملكوت السموات؟!.

ثم نراه وقد صار اسم المحبوبة مذهباً لديه وطقوس عبادة، " مذهبي اسمك المكلل بالإيمان"ص22 وهو يحتفي بها أيّما احتفاء ويطلق عليها لقب القديسة مريم، " ولأنك حبيبتي الأزلية/ ونعمة السماء والهدية/ أسميتك المباركة بين النساء"ص24 ، ولمَ لا؟! فهو الشاعر المدنف بالحبّ ويجوز له في شعر الهوى أن يقدّس الحبيبة ويخلع عليها ما شاء من الأسماء.
إنه شاعرٌ محاصرٌ بالعشق ولا فضاء له سوى الحروف يبني بها قصوراً من الأحلام الوردية، ويبعثر على مفرداتها حبيبته المبعثرة في كل أشيائه وفي ذرّات حياته، لتصير هي كل الحروف من الألف إلى الياء، فيهرب منها إليها "... تاركا ًعلى باب قلبك كبريائي/ ما عدت أدري غير الباء/ المبسوقة بالألف واللام والحاء"ص31 ، كل هذا لأن الحبيبة " ...فريدة المشاعر/ فريدة الجنون/ بسيطة كالفجر/ هادئة كالليل/ ثائرة كالبحر". فهي أنثى تزيل من رأسه تاريخ النساء، ويحاصره غرامها من كل حدب وصوب، فهي حورية العالم وهي الأسفار ومساؤها صباح الربيع، كما أنها أمل الحياة له، وقدره المحتوم. " ... فحبي لك لم يكن بيدي/ إنه قدري المنقوش على جبيني/ فكيف أمحو جبيني؟! "ص49

ومثل كلّ العشاق نراه يجترع كأس الألم والعذاب بعدما طاب له الهوى وتذوق أفراحه وسعادته، فلا حياة في غياب الحبيبة بل العدم والموت والفناء، فها هو يجعل نسيم الصباح مرساله " يا نسيم الصبح إن زرت الحبيب/ بلّغ الأشواق عن قلبي الكئيب/ قلْ لمن يهواه قلبي ليس لي/ إن نأى عنّي سوى الموت القريب"ص68 وهي الحبيبة الغائبة الحاضرة لأنها أوكسجين الحياة " أتنفسك رغم البعد/ أحبك رغم وجع الحنين"ص68 فالحب لدية مرادف الحياة.
وهكذا كلّما أبحرنا أكثر في "نون" الشاعر وجدنا أنفسنا في بدء جديد... فالنون بين ثنايا حكاية النبض هذه هي بدء النور وبدء النار، هي بدء الندى وبدء النداء كما أنها بدء "النحن" ومنتهاها، " نحن " هو والحبيبة ثم انتشار ضوع العشق في الكون لتخرج حالة الحبّ من الفردية الذاتية إلى الذات الإنسانية فتتحد بالحياة وبالكون.

وقد تناوبت قصائد الشاعر فادي حبيب شبل في حكاية هذه الرحلة بين الفصحى والعامية المحكية "باللبناني" التي جاءت رشيقة أنيسة تحتاج لقراءة منفردة تمنحها حقها من الدراسة.
أما مفردات القصائد الفصحى فقد أثقلها في أغلب الأحيان حرف الروي، وهي القصائد المنثورة المتحررة من البحور والأوزان، الذي لو تخلّى عنه الشاعر لكانت القصائد أكثر تناغماً مع روح النص الرشيق، فقد أفقدت حروف الروي بعض النصوص إيقاعها الداخلي. كما وقد وقعت بعض جمله بالمباشرة والتكرار والجملة الطويلة التي أرهقت النصوص بعض الشيء، فلو استخدم لغة التكثيف والإيجاز لجاءت صوره أكثر ألقاَ، لكن يشفع له بذلك أنه فيّاضاً بالعشق ويحتاج إلى مساحات واسعة للإفصاح عمّا يعتريه من جوى العشق ولظى الحب.

آمل أن يكون الشاعر فادي حبيب شبل قد اختمرت في روحه " نون " جديدة في العشق وفي الشعر ليتحفنا بما يجود به قلبه العاشق وقلمه الفيّاض بالعذوبة والإبداع.

قراءة في ديوان فادي حبيب شبل

«نون حكاية نبض) - منشور شخصي – الطبعة الأولى - 2014


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى