الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم شوقي بزيع

هدى بركات في روايتها الأخيرة "سيدي وحبيبي " - الحرب الأخرى

تقع رواية هدى بركات الأخيرة سيدي وحبيبي في خانة ما يمكن تسميته برواية الحرب اللبنانية التي شكلت خلفية اجتماعية ونفسية وإنسانية للكثير من الروايات الصادرة في لبنان في العقود الثلاثة المنصرمة. فأي متتبع حقيقي لمسيرة الرواية اللبنانية لا بد وأن يلحظ الأثر البالغ للحرب في دفع هذه الرواية أشواطاً إلى الأمام وفي إخراجها من سباتها النسبي السابق ورفدها بشحنات كبيرة من الموضوعات والأفكار ومساحات التوتر وتقنيات السرد. وهو ما يتجلى واضحاً في الأعمال الروائية المميزة لالياس خوري وحنان الشيخ وحسن داود وربيع جابر ورشيد الضعيف وهدى بركات وعلوية صبح ونجوى بركات وجبور الدويهي وإيمان حميدان يونس وغيرهم من أوقفوا الرواية اللبنانية على قدميها ودفعوها الى صدارة المشهد الروائي العربي.

تقدم هدى بركات في رواية سيدي وحبيبي، الصادرة عن دار النهار، رؤية للحرب مختلفة عن تلك التي شهدناها في روايتها السابقة <<حارث المياه>> والتي حولتها الرومانسية المثخنة بالحنين الى قصيدة في حب بيروت وإلى مناسبة نادرة لإقامة يوتوبيا أرضية متخيلة وسط ركام المباني ودخان الحرائق ونثار الأحلام. وإذا كان بطل الرواية السابقة قد حاول النجاة من التهلكة عن طريق التحول الى روبنسون كروزو جديد والتحصن داخل جزيرة متخيلة تمنعه من الانزلاق الى وهدة اليأس فإن بطل الرواية الجديدة يعجز عن تحقيق ذلك ويفشل في العثور على معجزة ما تنقذه من الطوفان وترمي له حبل النجاة أو خشبة الخلاص. كأن السلم الهزيل والمخاتل الذي تمخضت عنه حروب اللبنانيين كان أكثر قسوة وإيلاما من الحروب نفسها ليس فقط لأنه لم يتمخض عن أي مشروع جديد وتغييري بل لأنه كان الوجه الآخر للحرب والتربة الملائمة لخروج شياطين الداخل من عقالها ولوصول التصدع الى نهاياته.

لا بد من الإشارة قبل الدخول في مفاصل الرواية وأحداثها الى أن سيدي وحبيبي مكتوبة بلسان المذكر لا المؤنث حيث يروي البطل وديع فصولاً متعددة من سيرة حياته التي تبدأ بالطفولة والمراهقة وتنتهي في فترة الشباب المترافقة مع وصول الحرب اللبنانية الى منعطفاتها الأكثر وحشية وضراوة وتحللا من القيم، فيما تتكفل سامية، زوجة وديع المختفي في نهاية الرواية، بتقديم إضافاتها على الأحداث. وإذا كان لذلك الأمر من دلالة فهي قدرة الإبداع على تجاوز ثنائية الذكورة والأنوثة الصافيين باتجاه المناطق الإنسانية المشتركة التي تمكن الرجل من النطق بلسان المرأة والمرأة من التماهي مع الرجل في حالة الخلق، وهو ما تؤكد عليه شواهد مختلفة في مجالي الرواية والشعر وغيرهما من المجالات. أما الدلالة الثانية التي يمكن استنباطها من الكتابة بلسان المذكر فهي تتعلق بالمسافة التي تفصل بين المؤلف والراوي في نظام السرد حيث أن الأول فيما يتقمص الثاني يختفي تماما ليترك له فرصة الحياة والنماء بمعزل عنه. وبمجرد أن يمسك الراوي بضمير المتكلم يصبح هو وحده المعني بشؤون حياته والممسك بزمامها ويصبح تغييب المؤلف ومحوه شرطا أساسيا لاستقامة العمل الروائي. لكن اختيار هذه التقنية من جهة ثانية يمنع الراوي من أن يتحول الى مشاهد <<كلي القدرة>> على حد فارغاس يوسا لأنه يصبح محكوما بالزاوية الواحدة التي يرى الحياة من خلالها والتي تحجب عنه الكثير من الحقائق. لهذا كان لا بد لسامية، الراوي الرديف، من التدخل لكشف بعض الحقائق الخافية على وديع ولوضع لمسة الختام على الرواية بعد اختفاء هذا الأخير.

زمنان

تدمج هدى بركات في روايتها بين الزمن التسلسلي للحدث وبين الزمن الاستعادي على طريقة الفلاش باك، وصولا في النهاية الى زمن ثالث يتولاه الراوي الآخر في غيبة الأول. فالرواية تبدأ بحديث بطل الرواية الغامض عن افتتانه برجل آخر تحول بالنسبة إليه إلى حبيب وسند وملاذ، مع ترك الهامش مفتوحاً أمام الإيحاءات الجنسية المترتبة على اعتراف كهذا أو أمام إيحاءات شبه صوفية تضع ذلك العشق في خانة المجاز والرمز: <<أحببته حباً لا يوصف. ليس بسبب أني لا أحسن الوصف أو بسبب عدم قدرتي على الكلام والاستفاضة فيه حين يتعلق الأمر بي، بداخلي ومشاعري، بل لأن ذلك الحب يبقى غامضاً، لم أسمع أحدا يتحدث بمثله>>. سيكون على القارئ بالطبع أن ينتظر صفحات طويلة لكي يكتشف أن ذلك الرجل المقصود بالحب ليس سوى المدير الجديد للشركة التي يعمل فيها وديع في قبرص بعد هربه من حرب لبنان الضروس وبعد أن توفي المدير السابق الذي كان يبعث في قلب وديع الهلع والرعب.

يعود الراوي وديع فجأة الى زمن البدايات حيث نتعرف الى الفتى المراهق والخجول الذي كان يجلس في مقدمة الصف كما يفعل التلامذة الأسوياء والمهذبون تاركا المقاعد الخلفية للتلامذة المشاكسين والفوضويين. نتعرف أيضا الى أيوب زميل وديع الفقير والموزع بين تهذيب وديع ومشاكسة التلامذة الآخرين. وإلى والد وديع الذي يعمل طباخا لدى أحد الأثرياء ويحضر لزوجته المريضة وابنه الوحيد فتات الطعام الذي يتركه أسياده على مائدتهم. غير أن أحداثا طارئة تدفع بوديع الى الانتقال من موقع الى موقع والبحث عن دور له خارج المدرسة والبيت ونظام القيم. فحين تقضي الأم نحبها بسبب الفقر وتحكّم الميليشيات التي تجعل من غسيل الكلى علاجا مقتصرا على الأثرياء ودافعي الخوة. وحين يرى وديع بأم عينه الطريقة التي يعامل بها أبوه من قبل أسياده والقائمة على الاستعلاء والرغبة بالإذلال. وحين يتحول بعض تلامذة المدرسة الى عصابة خطيرة تعمد الى ملاحقته والتنكيل به لا يجد البطل المراهق بداً من اعتماد الخيار الذي يرد عنه المهانة ويعيد إليه الإحساس بالكرامة ولو اقتضى الأمر ترك الدراسة والانضمام الى عصابة من الشبان الأشقياء ما يلبث أن يترأسها بفعل طموحه وذكائه ورغبته في الانتقام لنفسه ولعائلته. شبان مراهقون يخلعون أسماءهم الأصلية ليتسموا بأسماء جديدة مثل روديو وهبّك وشاكوش ويلدون أنفسهم من موت الآخرين.

لم ينخرط وديع وعصابته في الأحزاب والميليشيات المتناحرة ولكن ما فعله لم يكن أقل دموية وشراسة حين اعتمد القتل والنهب والاتجار بالسلاح والمخدرات طريقا للوصول الى غايته. وهو في خضم الارتماء في ذلك العالم السوريالي لم يتردد في قتل خال زوجته، الذي حسبه عثرة في طريق طموحه، أو في الإيعاز بقتل رفيقه أيوب بعد أن شك في إخلاصه له. هذا الانقياد الأعمى لشهوتي السلطة والمال وللرغبة في الانتقام من الطفولة المبتورة وعقد النقص يوصل أسلوب الرواية الى ذروته ويحوله الى استبطان عميق وتقص نفسي لأحوال بطل الرواية وتداعياته وهو يهبط الى قيعان الهلوسة: <<أرى رؤوس الأشجار تلتف بقوة على نفسها وتضرب الزجاج كالشياطين. تفلش خياشيمي رائحة كستناء مشوية، تصعد الى
نخاعي كسكين ينشب فيه آلاف الشفرات. تعمي عيني الأبخرة المتصاعدة.. وأسمع صوت أبي الذي لا يضحك يقهقه عاليا بصدى طويل كشريري أفلام الرعب>>. لكن وديع ما يلبث أن يسقط فريسة قوانين الحرب نفسها التي صعدت به الى القمة ليكتشف في لحظة الحقيقة أن لا أحد يستطيع النجاة بنفسه من ذلك الأتون المهلك حيث يتحول الكذب والنفاق والخيانة والسرقة والقتل الى ممرات إجبارية للبقاء على قيد الحياة. وإذ يفر وديع ومعه زوجته سامية الى قبرص يترك وراءه الثروة التي جمعها في الحرب دون أن يستطيع إنقاذها ويترك أباه في الوقت نفسه عرضة للقتل من قبل العصابات التي تطلب رأسه.

انقطاع السرد

لا أحد يستطيع الخروج معافى وسليما من حرب طاحنة وضروس كحرب لبنان. ذلك على الأقل ما يمكن استخلاصه من رواية هدى بركات. تدخل الحرب الى رأس وديع على شكل هلوسات مرعبة وحمى لاهبة وخوف من كل شيء بحيث لا يفقد البطل الاتصال مع محيطه الجديد فحسب بل مع زوجته التي يشعر بفقدان الاتصال بها الى حد الإصابة بالعجز وانقطاع الرغبة. ووسط ذلك الخوف الذي يتجسد بشكل جلي عبر هلعه من شخصية مدير الشركة السابق تتحول شخصية المدير الجديد بما تحمله من سلاسة وألفة الى بر الأمان الذي انتظره وديع طويلا لكي يتخلص من رهابه. كأنه، لكي يتطهر من الإثم، يريد أن يبتر كل ذلك الزمن الأسود المصاحب للحرب ويعود الى كنف طفولة غاربة هي على فقرها وآلامها أقل هولاً من جحيم الشباب اللاحق.

حين يختفي وديع عن مسرح الرواية ينقطع في الوقت ذاته عن مهمة السرد الذي تتولاه سامية هذه المرة متكفلة بسد الفجوات غير المفهومة من الخاتمة. فسامية هي التي تخبرنا عن انقطاع حبل النجاة الذي توهمه وديع عبر شخصية المدير الجديد حين يرى بأم عينه مثالب من رأى فيه <<سيده وحبيبه>> وضعفه أمام صاحب الشركة. وسامية أيضا هي التي تخبرنا عن خيانتها لوديع مع المدير الذي منحه زوجها كل ثقته وحبه وعن عملها الليلي في أحد البارات من أجل الإنفاق على بيتها الزوجي المتآكل. وهي إذ تتحدث عن اختفاء وديع تمتنع عن إعطاء سبب ثابت وأكيد لذلك الاختفاء واضعة إياه في مهب احتمالات كثيرة من بينها ذهابه للتسكع في باريس أو تواطؤه السري مع مديره <<الشاذ>> أو التحاقه بأيوب الذي نجا بأعجوبة من الموت. ولعل هذه النهاية المأساوية الملفعة بغموضها المحيّر تحيل قارئ <<سيدي وحبيبي>> الى العديد من الروايات المماثلة التي تنتهي باختفاء البطل كحيلة رمزية ملائمة لاستنفار مخيلة القارئ ودفعه للمشاركة بإتمام الرواية على طريقته كما يحدث في رواية جبرا إبراهيم جبرا البحث عن وليد مسعود، على سبيل المثال لا الحصر.

خمس عشرة سنة كاملة مرت على انتهاء الجانب الدموي المباشر من حرب لبنان. لكن تلك السنوات لم تكن كافية لإيقاف حروب الداخل وشروخها الإنسانية والنفسية العميقة. ذلك أن البدء من جديد ليس بالبساطة التي نظن ما دامت الكوابيس وأوزار الشعور بالإثم تلاحقنا حيث نذهب. واختفاء وديع ليس سوى المعادل الرمزي لعجزنا جميعا عن الخروج من المأزق وانسحابنا الى الخلف كي نتيح لمن يأتي بعدنا فرصة البدء من جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى