الأحد ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم عشم الشيمي

هرم فوفو

اسمى فريد. وأبى مسجونٌ منذُ ثلاثةِ أيامٍ. نعمْ.. يا أصدقائى! أبى مسجونٌ. ولم يعد ينادينى "فُوفُو" ككلِّ يومٍ. لا أشعرُ بالحرجِ لأننى أقولُ ذلك. لكننى أفتقدُ أبى جدًّا. ليسَ ذنبًا كبيرًا أنْ يُسجنَ أحدٌ لخطأٍ غيرِ مقصودٍ. أعترفُ بخطأِ أبى حينَ اقترضَ من البنكِ ما يزيدُ عنْ حاجةِ مشروعِه. دونَ أنْ يفكّرَ جيّدًا. قالَ أبى: سيضمنُ القرضُ بقاءَ المشروعِ، ولنا أيضًا عامًا سعيدًا.. صدّقنى يا "فُوفُو". كان يقولُ "صدّقنى" بارتيابٍ. كيفَ أكونُ سعيدًا الآنَ، وأبى ليسَ موجودًا معنا؟ هلْ أخطأَ أبى حقًّا؟ أخبرونى يا أصدقائى.

أمى حزينةٌ، وغيابُ أبى عنا طوالَ ثلاثةِ أيامٍ يُقلقُ أختى الصغيرةَ.

تتبقى أربعةُ أيامٍ كمُهلةٍ محددةٍ ليحكم القاضى فى أمرِ أبى، فقدْ تأخرَ أبى عنْ سدادِ القرضِ، ولا بدَّ أنْ يسددَ. لا يستطيعُ أبى الآنَ أنْ يسدّدَ. فهو الآنَ مسجونٌ. لا يستطيعُ أنْ يخرجَ. نحنُ أيضًا مثلُه لنْ نخرجَ أيضًا كما كنا نفعلُ معه. لا نزور أحدًا. هلْ تشعرونَ بالحزنِ منْ أجلى؟ لمْ أجدْ أبى متسرعًا مثلَ ذلكَ الوقتِ حينَ اقترضَ. لمْ يفكرْ كيفَ سيدفعُ لو توقفَ المشروعُ. أرادَ أبى أنْ نصبحَ أسرةً سعيدةً.. أنْ ينجحَ المشروعُ ويوفرَ مصروفاتِ العامِ لى ولأختى. الآنَ، توقفَ العملُ بالمشروعِ ، ولمْ يعدْ أبى قادرًا على سدادِ القرضِ. أرادَ أبى أنْ يُنشئَ شركةً مساهمةً منْ أهالى الحىِّ؛ يستطيعُ كلُّ شخصٍ من الأهالى أنْ يساهمَ بدفعِ مبلغٍ مالىٍّ، فيصبحَ شريكًا فى المشروعِ، وبذلك لنْ يحتاجَ أبى إلى القرضِ. لمْ يوضّحْ أبى فكرتَه للأهالى جيّدًا، كما أنه أرادَ أنْ يبدأَ مشروعَه سريعًا.

قالتْ أمى:

تحتاج الشركةُ إلى وقتٍ واجتماعاتٍ ليشرحَ أبوك فكرةَ إنشائِها وإدارتِها.

أحتاجُ إلى مساعدةٍ. مساعدةٍ كبيرةٍ لأبى، يا أصدقائى! أبى الذى ساعدَ الجميعَ دونَ أنْ يطلبوا ذلك. ولمْ يتأخرْ عنْ أحدٍ طلبَ منه مساعدةً.فقدْ تطوّعَ لإصلاحِ مقاعدِ الفصولِ بمدرستى وطلاءِ جدرانِها كلَّ عامٍ. كانَ يقولُ لى:
إنه واجبٌ. إننى أحبُّ مساعدةَ الآخرينَ.

أنا حزينٌ يا أصدقائى! لأول مرةٍ "فُوفُو" يبدو حزينًا. طوالَ ثلاثةِ أيامٍ يزورُنا الأقرباءُ ويطمئنونُنا أنَّ أبى بخيرٍ. لمْ يعجبْنى كلامُهم. لا ينتظرُ البنكُ أحدًا إذا تأخرَ، كما أنَّ هناك ميعادًا محدَّدًا للسدادِ. أنا لا أحتاجُ إلى مواساةِ أحدٍ. أحتاجُ إلى أنْ يكونَ أبى بالبيتِ معنا؛ أنا وأمى وأختى.أعلمُ أنهم لا يملكونَ مبلغَ القرضِ لسدادِ البنكِ حتى يخرجَ أبى. أعلمُ ذلكَ يا أصدقائى! ولنْ يتنازلَ البنكُ عنْ سدادِ المبلغِ كاملًا. نعمْ.. قدّمَ بعضُ أقربائنا لأمى مبلغًا ماليًّا، لكنّه لا يكفى. ولمْ يحققْ المشروعُ توقعاتِ أبى فى قدرتِه على سدادِ القرضِ. لا بدَّ أنْ نفعلَ شيئًا. لكنْ.. قبلَ أنْ أقولَ لكمْ كيفَ خرجَ أبى، أريدُ أنْ أحكى كيفَ عرفتُ قصةَ قرضِ أبى.

عادةً لا أستمعُ إلى حديثِ أمى وأبى دونَ أنْ أستأذنَ، فقدْ كنتُ أرتبُ مكتبى وأنظفُ حاسبى الآلىَّ قبلَ أنْ أجلسَ إلى شبكةِ "الإنترنت" لأتابعَ دروسى معَ زملائى. أفعلُ ذلكَ لأبحثَ عنْ طرقٍ جديدةٍ للحلِّ والمعرفةِ منْ خلالِ "الإنترنت"، كما أننى أتابعُ منشوراتِ الأصدقاءِ على صفحةِ الـ"فيس بوك". سمعتُ أمى تصرخُ فى فزعٍ: قرضٌ.. السجنُ.. ضاعَ البيتُ. ثمَّ انتبهتْ لوجودى بعدَها جلستْ فى صمتٍ وانصرفَ أبى.

رفضتْ أمى فكرةَ القرضِ لأنَّ الوقتَ غيرُ مناسبٍ لذلكَ.

قالتْ لأبى:

يجبُ أنْ نضمنَ استمرارَ المشروعِ. كما قرأتُ فى صفحاتِ الإنترنت.

كتبتُ كلمةَ "قرض" فى مُحرِّكِ البحثِ على "الإنترنت". كنتُ أستعدُّ لألعبَ بعدَ نهايةِ تصفُّحى لدروسى معَ زملائى، لكنَّ الأمرَ تغيرَ الآنَ. نعمْ.. لا وقتَ للعبِ. بحثتُ عنْ معنى "قرض" وكيفَ صرختْ أمى فى حزنٍ حينَ ربطتْ الكلمةَ بالسجنِ وضياعِ البيتِ، فوجدتُ فى بحثى: "قرضٌ".. "دَيْنٌ مستحقُّ الدفعِ للبنكِ".. "منْ خلالِ ضماناتٍ".. "فى وقتٍ محدّدٍ". الآنَ عرفتُ كيفَ دخلَ أبى السجنَ. لكنَّ الأهمَّ يا أصدقائى! أريدُ طريقةً من أجلِ أنْ يخرجَ أبى.

جاءتنى الفكرةُ عندما اقتربتْ أختى مِنّى بعدَ أنْ قدّمتْ إلىَّ مدخراتِها فى صندوقٍ فتحتُه لأجدَ "خمسينَ جنيهًا". تركتْه لى وذهبتْ. وحينَ فتحتُ درجَ مكتبى وجدتُ "خمسينَ جنيهًا" أيضًا. كنتُ أضعُ جنيهًا كلَّ يومٍ فى الدرجِ. هلْ تتعجبونَ مثلى يا أصدقائى! أمامَ درجٍ ممتلئٍ بالجنيهاتِ؟

أبى مسجونٌ منْ أجلِ هذا الجنيهِ. عدد كبيرٍ جدًّا من الجنيهاتِ، يحتاجُها أبى.. أعرفُ ذلكَ.

لكنْ.. نعمْ.. نعمْ يمكنُنى أيضًا أنْ أجعلَ هذا "الجنيه" يُخرجُ أبي من السجنِ.

يمكننى أن أرجع "فُوفُو" السعيد مرةً أخرى.

حسنًا.. أستطيعُ أنْ أفعلَ ذلكَ. معًا نستطيعُ أنْ نفعلَ.

جلستُ معَ أمى وأختى وقررنا أشياءَ ستُخرجُ أبى منْ مِحنتِه. ودعوتُ أصدقاءَ لى لنقررَ معًا ماذا سنفعلُ بهذه الجنيهاتِ، قبلَ نهايةِ الأيامِ الأربعةِ، حتى يعودَ أبى إلينا. حتى لا نفقدَ البيتَ الذى يجمعُنا.

بعدَ قليلٍ، ستعرفونَ يا أصدقائى كيفَ خرجَ أبى.

يجلسُ أبى الآنَ معنا، بعدَ سدادِ مبلغِ القرضِ، نحتفلُ بعودتِه إلينا فى فناءِ البيتِ.

اعتذرَ أبى بشدةٍ لأمى التى تركَها حزينةً سبعةَ أيامٍ. واقتربَ منْ أختى وقبّلَها فأحسّتْ بحضنِه الكبيرِ، واطمأنّتْ.

ولكنْ حينَ اقتربَ مِنّى وسطَ زملائى بالمدرسةِ ورفاقى بالحىِّ صفّقَ لى حينَ حكتْ له أمى عن محاولاتى ليعودَ إلينا.

حسنًا.. سأحكى لكم.

استطاعتْ أمى أنْ تعرضَ لأهالى الحىِّ إعدادَ فطائرَ محلّاةٍ لأبنائهمِ كإفطارٍ جيّدٍ لهم عند خروجهم إلى المدرسةِ، على أنْ يساهموا بدفعِ مقدمٍ مالىٍّ "خمسينَ جنيهًا" كلَّ شهرٍ.

كانت أمى ولا تزالُ تبرعُ فى ذلكَ. وكنتُ أشجّعُها، لكنا لم تهتمْ كثيرًا.

كانتْ تقولُ: ليسَ الآنَ.

عرفَ الجميعُ بذلك فرحّبوا منْ أجلِ المساعدةِ، وامتلأَ فناءُ البيتِ بالأهالى لتسجيلِ الأسماءِ لتبدأَ أمى ما اقترحتُ عليها فى إعدادِ بعضِ أصنافِ الطعامِ بعدَ خروجِ أبى.

مرَّ يومٌ كاملٌ يا أصدقائى! وأنا لا أستطيعُ أنْ أصفَ لكم الحزنَ منْ دونِ أبى. كانَ "فُوفُو" حزينًا. والمبلغُ المالىُّ الموجودُ معنا لا يكفى لسدادِ القرضِ. قرأَ زملائى منشورى على الـ"فيس بوك"، عنْ رغبتى فى إنقاذِ أبى، وأذكّرُهم بفكرتِه فى إنشاءِ شركةٍ مُساهمةٍ.

لم يمرّ اليومُ الثانى حتى طرقَ زملائى بابَ البيتِ واحدًا يليهِ الآخرِ ليعطيَنى صندوقَ نقودِهِ ويقولَ:

أنتَ أخى يا "فُوفُو" أيضًا.. وأبوك مثلُ أبينا. صارَ البيتُ كالمدرسةِ وامتلأتْ الصالةُ بصناديقِ زملائى وزميلاتِ أختى وبدأنا فى اليومِ الثالثِ فتحَها وجمعَ الجنيهاتِ.

قالتْ أمى:

تحقّقَ الآنَ حلمُ أبيك فى إنشاءِ الشركةِ.

وقالت أختى:

يمكنُنا أنْ نحقّقَ النجاحَ منْ خلالِ مساهمتِنا معًا.

كانتْ الصناديقُ تشبهُ هَرَمًا كبيرًا يحملُ سرًّا خاصًّا به.

هلْ تعرفون السرَّ يا أصدقائى؟

إنه موعدُ خروجِ أبى.

كان أصدقائى يقولون: هَرَم "فُوفُو". ويضحكون.

استطعنا أنْ نعيدَ للبيتِ سعادتَه حينَ سدّدْنا مبلغَ القرضِ وخرجَ أبى فى اليومِ الأخيرِ. هكذا عادَ أبى إلينا، يا أصدقائى! لتبدأَ شركةٌ مساهمةٌ كبيرةٌ يرأسُها أبى، وبمساهمةِ الجميعِ.

أعرفُ يا أبى أنَّ القرضَ ليس سيئًا. لكنَّ الأسوأَ عدمُ التخطيطِ للسدادِ.

ضحكَ أبى ووقفَ يُحيّى الجميعَ ويقولُ:

جميلٌ أنْ يكونَ لك أصدقاءُ يهتمونَ بك.

وقفَ الجميعُ بفناءِ البيتِ يهنئونَ بعودةِ أبى إلى أسرتِه السعيدةِ.

أما أنا فقدْ وقفتُ معَ أمى وأختى أهنئُ أبى بأصدقائى.

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى