السبت ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٢

هل أنت سعيد؟

نزار بدران

كنت جالساً على مقعد خشبي في إحدى ساحات باريس، وهي ساحة مربعة مُحاطة بأبنية متشابهة، مُصممة بأسلوب القرن الخامس عشر، يتوسطها تمثال لأحد ملوك فرنسا، محاطا بالنوافير والمساحات الخضراء التي تعج بالناس عندما يأتي الربيع، وتبدأ الشمس بالظهور لتدفئة قلوبهم.

تقدم مني رجل في الخمسينات وسألني:

هل أنت سعيد؟

كما يبدو فقد لاحظ هذا الرجل غرقي في أحلامي، وقد أعطيته انطباعاً بالحزن.

كنت نادرا ما اطرح هذا السؤال على نفسي، هل أنا سعيد؟ وإن كنت كذلك، فكيف لي أن أعرف؟ تذكرت عندها ما قالته لي إحدى صديقاتي، ممرضة في احد المستشفيات التي عملت بها، عندما سألتها إن كانت سعيدة.

 نحن أبناء جزر الكراييب، نحمل السعادة داخلنا، ولسنا بحاجة لشيء حتى نكون سعداء.

حكمة بالغة عندما نعرف أن ماري ملاك، وهذا اسمها، قد توفيت عن عمر 48 عاماً، من مرض وراثي أخذته من أمها. حتى آخر يوم في حياتها، كنت أراها والابتسامة تعلو شفتيها، وكأن الحياة تضحك لها، قائلة، سأنتصر على المرض.

نحن سعداء عندما نحمل السعادة في أنفسنا، وكيف لنا أن نفعل ذلك؟ ماري ملاك لم تقل لي ما هي طريقتها، ولكن عندما نرى بشرتها السمراء، وتاريخ الاستعباد الذي كان نصيب أجدادها قبل التحرر، نفهم أن مفهوم السعادة هذا كان أحد وسائل سكان هذه الجزر للبقاء على قيد الحياة، وإلا لانتهوا نفسياً وجسدياً.

ولكن ماذا سيفعل هؤلاء الذين لا يحملون السعادة داخلهم، وهم كثر؟.

ذكرني ذلك بالعديد من معارفي في العمل والحياة، كل له وسيلته الخاصة للبحث عن السعادة. هناك من ينغمس في العمل خصوصاً إن كان عملاً مُختاراً.

هل العمل يُعطي السعادة؟ قد يكون ذلك صحيحاً لو أحبه الناس، ولكن الغالبية العظمى منا، تنتظر نهاية يوم العمل بفارغ الصبر، ومع ذلك فلو لم نعمل لكنا أكثر بؤساً.

لم أجد حتى اللحظة أناساً لا يعملون وسعداء بسبب ذلك، حتى لو لم يكونوا بحاجة مادية للعمل، فهم يبحثون دائماً عما يسمونه، «القيام بعمل مفيد للمجتمع». هم إذاً سعداء عندما يقومون بشيء من هذا القبيل.

حق التقاعد هو أحد مطالب الطبقة العاملة الأساسية، والذي تمكنت في العديد من الدول من الحصول عليه، ولكن ماذا يفعل الناس عندما يتقاعدون؟ البحث عن شيء يشغلهم، حتى لو كان دون أجر.

لكثرة المعارض الفنية في باريس، وخصوصاً للرسامين، كنت أظن أن الفن هو أحد الوسائل الأساسية للحصول على السعادة، فسألت أحد أصدقائي، وهو رسام مشهور من أصل روسي، عن مردود الرسم على نفسه وسعادته، فقال لي مُتنهداً:

 لا تدوم سعادتي بالرسم، إلا عندما أمارسها، بعدها تتكدس اللوحات في المخزن، ومن الصعب أن أجد من يشتريها. لكني أستمر بالرسم لأني لا أتصور نفسي دون ذلك. الرسم هو ما يعوضني عن نقص العطف الذي كان نصيبي طفلاً، ويُعطيني نوعاً من النشوة، قد لا أستطيع الحصول عليها ببساطة في المجالات الأخرى.

الأعراف الاجتماعية، لا تسمح لي مُعاشرة أي امرأة تُعجبني، أو أكل أي وجبة أحبها. سعادة صديقي الفنان هي إِذَا بديل الملذات التي لا يستطيع الحصول عليها، وقد تكون وسيلته أيضاً للتسلل اليها.

أما بالنسبة لمحبيه، ومُشاهدي رسوماته، فهذا يشحذ خيالهم ويُعوضهم مؤقتاً عما لا يستطيعون تحقيقه من ملذات.

لم أر في حياتي امرأة نرجسية مثل صديقة تملك مؤسسة طباعة، فهي كانت تظن أن الطبيعة (وليس الطباعة)، لم تخلق مثلها على وجه الأرض. لم تكن سعادتها ببيع الكتب وطباعتها والتعرف على الكتاب مشاهيرهم ومغموريهم، وإنما في مدح الناس لعملها والثناء عليه، هي لا تعيش إلا من خلال تلك المرآة، التي تعكس لها ما تظنه صورتها في عيون الآخرين. بهذه الطريقة تجد السعادة من خلال الانكفاء على نفسها وليس مع الناس. هي عكس هؤلاء الذين تزداد سعادتهم بتزايُد فتوحاتهم العاطفية، فهم يبحثون عنها دائماً خارجهم.

سألت نفسي هل اَلتَّدَيُّن يجلب السعادة؟ لكن هؤلاء الناس وهم كُثر، يتشابهون تماماً ويُمارسون نفس الطقوس، طُلب منهم أن يبتعدوا عن ملذات الدنيا، ومصادر سعادتها المادية والنفسية، للتركيز على التسامي والابتعاد عن الجسد والاقتراب من الروح. نجد شيئاً قريباً من ذلك عند أتباع اليوجا. بالنسبة لي، هذه الطريقة للحصول على السعادة، هي أكثرها ابتعاداً عن حقيقة البشر ورغباتهم، هي كمن يُحاول دائماً السباحة عكس تيار النهر، هذا ينهكه ولا يوصله إلى المنبع. بعض ديانات شرق آسيا القديمة، تسير مع التيار ولا تُعارضه، ولكنها تُهذب السابح والنهر وتزيل منه الصخور وكل ما يُشكل خطراً للسابح وللآخرين، هذا ما لا تفعله الديانات التقليدية.

أحد أصدقائي في العمل، وهو طبيب نفسي يُدعى فريد، قال لي يوماً:

- لا تبحث عن السعادة هي غير موجودة، ليس البحث عنها غريزة زرعتها الطبيعة فينا.

- ولكن أليس البحث عن الملذات يؤدي إلى السعادة، وهي غرائز فينا؟

- الملذات، أجابني صديقي الطبيب النفسي، لا يمكن أن تكون إلا لحظية، بينما البحث عن السعادة هو عن حالة دائمة أو على الأقل طويلة الأمد، وهو ما يتناقض مع مفهوم اللذة المبني على النشوة.

- ولماذا لا تكون النشوة حالة من السعادة؟

- النشوة هي حالة قصيرة جداً كما تعرف، وإلا ستفقد جاذبيتها، مثلاً إن كنت تحب شراباً معيناً ستنتشي عندما تشربه، لكن لو فعلت ذلك بشكل متكرر ومُتقارب، ستختفي هذه النشوة. اللذة وابنتها النشوة، هو شعور لا يمكن أن يوجد، إلا إذا كان لحظياً، أي قصير الأمد. حينها سألته:

- هل الحب مصدر سعادة؟

- سؤال مهم حقيقة، هناك من يبحث عن السعادة من خلال حُب الآخر، أو يكون هو نفسه موضوعاً للحُب، لكنه يضع نفسه في موقع هش جداً، فلا يوجد أسوأ من أن يفقد الإنسان المُحب موضوع حُبّه، فتنعكس هذه السعادة، إلى بؤس كامل. تذكر قصة صديقنا م. ب. والذي قتل نفسه شنقاً، عندما هجرته زوجته لتعيش حُبًّا جديداً.

- وكيف يمكن الحصول على السعادة إذاً؟

- بدرء المخاطر، جابني فريد، هي الغريزة الوحيدة الموجودة فينا منذ البدء.

- أي مخاطر؟

- مخاطر الطبيعة، مثل الزلازل والكوارث الطبيعية أو الأمراض، ولكن أكبر خطر يُهدد سعادة الإنسان هو الظلم الاجتماعي.

 أكثر من الكوارث الطبيعية؟

 أكثر بكثير، من أحد أسباب اَلتَّدَيُّن الرئيسية هو هذا اَلظُّلْم، فالدينُ يحاول أن يُهَدِّء نفس المظلوم، عن طريق وعد إلهي بالعدل في حياة أخرى، عندما يَعِزّ ذلك في الدنيا.

- وهل هناك وسائل أخرى؟

- المجتمع قد يُشكل لبعض أفراده مصدر بؤس، فيبتعدوا عن الاختلاط بالناس، وقد يصل الأمر إلى الاعتزال الكامل، وإيجاد حياة خاصة خارج المجتمع، كما يفعل بعض الرهبان.

ثم استأنف صديقي الطبيب النفسي:

- نحن في حاجة إذاً لنكون سعداء، إلى وسائل لدرء الأخطار، وأخرى لدرء الأمراض، هذا العلم كفيل به قدر المُستطاع، ولكن أهم شيء هو الحصول على العدالة الاجتماعية وتأمين الحقوق.

صديقي الطبيب النفسي، وضع إصبعه على موضع الحقيقة، فالفراشة ليست بائسة، رغم قصر عمرها، فهي تلون نفسها لدرء الأذى عنها، وقد يكون ذلك مصدر سعادتها، وسعادتنا برؤيتها.

- لماذا لا تُجبني على سؤالي؟ قال الرجل وقد نسيت وجوده أمامي، في الساحة الباريسية المربعة، ثم أردف:

- هل أنت سعيد؟

- لا أدري يا صديقي أجبته، فأنا لا أسأل نفسي هذا السؤال.

- وكيف ذلك؟ ألا تعرف اسمك؟ أنا أبحث عن رجلٍ يُدعى سعيد، أعطاني موعداً في هذه الساحة.

تعليق

تعبر هذه القصة القصيرة عن مفهوم السعادة عند مؤسس علم النفس سيجموند فرويد، كما كتبها في كتاب «مستقبل وهم»، بهذه الطريقة أحاول إيصال مفهوم فلسفي قد يصعب على القارئ الاطلاع عليه مباشرة.

نزار بدران

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى