الجمعة ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
اللغةُ العربيّةُ وتكنولوجيا المعلوماتِ والاتّصالِ:
بقلم علي القاسمي

هل تصلُحُ لغتُنا للتنميةِ أم تعرقلُها؟

  إيجادُ مجتمعِ المعرفةِ يحقّق التنميةَ البشرية، ويتطلّب نشرَ ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان أولاً.
  لماذا تُنفق الحكوماتُ والشركاتُ الأجنبيةُ أموالاً طائلةً على معالجةِ اللغةِ العربيةِ حاسوبياً؟

مؤتمر مجمع اللغة العربية بدمشق:

نظّم مجمع اللغة العربية بدمشق مؤتمره الخامس مؤخراً حول موضوع " اللغة العربية في عصر المعلوماتية". وشارك في المؤتمر رؤساء المجامع اللغوية والعلمية العربية وكبار الحاسوبيين والمعلوماتيين واللسانيين وعدد من مديري شركات الهندسة اللغوية.

وعلى مدى ثلاثة أيام تدارس المشاركون في المؤتمر حوالي ثلاثين بحثاً تناولت قضايا هامة تثير جدلاً واسعاً وتدور حول قدرة اللغة العربية على مواكبة العلوم والتقنيات الحديثة، والصعوبات التي تواجهها على مستوى التنظير والتعليم وتوظيف التقنيات والإدارة والتوثيق، ومعالجة اللغة العربية آلياً على مستوى الحرف والكلمة والجملة، صوتياً وصرفياً ودلالياً، ومشكلات الترجمة الآلية، خاصة الترجمة الإحصائية، والفجوة الرقمية وأسبابها ومظاهرها، والمحتوى العربي على الشابكة (والشابكة مصطلح وضعه المجمع ويسعى إلى تسويقه بدلاً من الإنترنت).

الفجوة الرقمية:

ظهر مصطلح "الفجوة الرقمية" قبل أكثر من عشر سنوات، ويدل على الهوة الواسعة الفاصلة بين الدول المتقدِّمة التي تمتلك تكنولوجيا المعلومات والاتصال لتوليد المعرفة واستغلالها ونشرها وبين الدول النامية (أي المتخلّفة) التي لا تمتلكها. وتُصنَّف الدول العربية في خانة الدول النامية بامتياز.

ومنذ ظهور هذا المصطلح والمؤسسات العربية المختلفة تعقد المؤتمرات والندوات والاجتماعات لمناقشة جوانبه المتعددة وإصدار التوصيات تلو التوصيات، أملاً منها في تقليص الفجوة الرقمية والقبض على عوامل التنمية البشرية التي تطمح إليها. وفي حقيقة الأمر، لا يتوقف تحقيق التنمية البشرية على المؤتمرات والندوات والاجتماعات فقط، وإنما يتطلب، في الأساس، سياسات ترسيها الدولة وتلتزم بها وفي مقدمتها إشاعة ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتبنّي استراتيجيات للنهوض بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات واستخدامها في التنمية، وتوفير البنية التحتية لها (مثل توفير الحواسيب والهواتف واستخدام الشابكة)، وبناء القدرات التقنية لدى المواطنين عن طريق التعليم والتدريب الجيدين، وإيجاد إطار تشريعي وقانوني للتمكين من نقل التكنولوجيا الحديثة واستخدامها، والعمل على تطبيقها في القطاعين العام والخاص وفي التعليم والصحة والبيئة والزراعة والصناعة والخدمات.

اللغة والتنمية وتكنولوجيا المعلومات:

ويتساءل المرء: وما علاقة اللغة بالتنمية وبتكنولوجيا المعلومات والاتصال؟ ولماذا تسارع المجامع اللغوية العربية إلى عقد المؤتمرات حول الموضوع؟

يكمن الجواب في النظريات الاقتصادية الحديثة التي تؤكّد أن التنمية البشرية لم تعُد تتوقف على وجود مجتمع زراعي أو مجتمع صناعي، وإنما على إيجاد " مجتمع المعرفة " الذي يمتلك المعلومات العلمية والتقنية ويوظّفها في الإنتاج والخدمات والإدارة، فيمتاز بالتنويع الاقتصادي، وتتكاثر فيه فرص العمل، ويرتفع عنده دخل الفرد.

وتضطلع اللغة بوظيفة محورية في إيجاد مجتمع المعرفة، وذلك لأسباب ثلاثة: أولها أن تبادل المعلومات ونقل المعرفة بين أفراد المجتمع يتم بواسطة اللغة، تماماً كما أن تبادل السلع والخدمات بين الأفراد يتم بواسطة العملة النقدية. وكلّما كانت العملة موحّدة جيّدة ذات رصيد هام، أدّت دورها بفاعلية ويسّرت عملية التبادل. وثانياً، أن التعليم والتدريب اللذين يزودان الإفراد بالمعرفة العلمية والتقنية من أجل أن يحوّلوها إلى أفعال ومنتجات وخدمات، يحتاجان إلى وسيلة تلقين. وتلك الوسيلة هي اللغة. وثالثاً، أن العمل المشترك في مؤسسات الإنتاج كالمزرعة والمصنع والمكتب يحتاج إلى وسيلة تفاهم مشتركة، تلك هي اللغة.

وأخيراً، فإن جميع الأبحاث الرصينة تؤكّد أن أساس التنمية قائم على تعميم الثقافة العلمية والتقنية بين شرائح المجتمع كافة وعدم حصرها في فئة قليلة، وهذا لا يتم إلا باللغة الوطنية. أما إذا استُخدِمت لغة أجنبية، فإن المعرفة تبقى مقتصرة على نخبة صغيرة. (وننبه هنا إلى أن ذلك لا يعني البتة عدم تعليم اللغات الأجنبية، بل إن اكتسابها ضرورة، بيدَ أن التعليم والبحث العلمي ينبغي أن يتما باللغة الوطنية لنشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق).

معالجة اللغة العربية حاسوبياً:

الانطباع السائد هو أن معالجة اللغة العربية آلياً في وضعية متردية، بسبب إصرار الحكومات العربية على استعمال لغات الاستعمار القديم كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية في التعليم الجامعي والبحث العلمي ( ومؤخّراً سمحت بعض هذه الحكومات للمدارس الابتدائية الأهلية والخاصة بتعليم جميع المواد المدرسية بالإنجليزية) . ولكن المفاجأة التي حملتها بحوث مؤتمر المجمع هي أن معالجة النصوص العربية المكتوبة والمنطوقة بلغت مرحلة متقدمة. فالعربية تمتلك مدونات حاسوبية عديدة تبلغ ذخيرتها مئات الملايين من الألفاظ، وتتوفر على مُحلِّلات ومركِّبات حاسوبية، صوتية وصرفية ودلالية، تستطيع استيعاب اللغة العربية، وتحليلها، وإعادة إنتاجها مكتوبة أو منطوقة (لفائدة المكفوفين والمعاقين سمعياً، مثلاً)، وأن الترجمة الآلية من العربية وإليها، يضاهي الترجمة الآلية للغات الأخرى.

والمفاجأة الثانية التي تكشّفت في المؤتمر، هي أن معظم بحوث معالجة العربية حاسوبياً لم تتم بتخطيط ودعم من المؤسسات أو الحكومات العربية، بل من طرف الشركات والحكومات الأجنبية. وهذا يتناقض مع توجهات بعض الدول الكبرى في تفتيت الأقطار العربية وتقسيمها والقضاء على العربية الفصيحة، بوصفها عاملاً موحِّداً، وإحلال اللهجات العامية مكانها. والدوافع لذلك هي تجارية وأمنية. فشركات إنتاج الحواسيب والبرامج ومحركات البحث الأمريكية، مثل ميكروسوفت وغوغل وغيرهما، قامت بأبحاث هامة لإنتاج نظمٍ وبرامجَ تشغيلٍ ومحركاتِ بحثٍ باللغة العربية، والغرض تجاريّ بحت، أي تسويق منتجاتها في البلاد العربية. كما أن الإدارة الأمريكية خصّصت أموالاً طائلة لتطوير الترجمة الآلية من العربية إلى الإنجليزية لتسريع وتيرة فهم محتويات الوثائق العربية، لأسباب أمنية واستخباراتية. وهذا يذكّرنا بإذاعات الأقطار العربية وفضائياتها التي تبثّ معظم برامجها باللهجات العاميّة، على حين تلتزم الإذاعات العربية في أوربا وأمريكا ببث جميع برامجها باللغة العربية الفصيحة، لأسباب تداولية عملية.

ومع ذلك، ينبغي أن لا ننسى جهود بعض الشركات العربية في تطوير معالجة العربية حاسوبياً، مثل شركة صخر لصاحبها محمد الشارخ في الكويت والقاهرة، وشركة عدنان عيدان وبرنامج المسبار للترجمة الآلية في لندن، ومؤسسة الهندسة اللغوية في القاهرة لصاحبها العالِم نبيل علي الذي ألقى المحاضرة الافتتاحية في المؤتمر.

توصيات المؤتمر:

وجّه المؤتمر دعوة إلى جميع الحكومات والمنظّمات المدنية العربية والمختصين العرب، إلى تأكيد الاعتزاز باللغة العربية والعمل على تطويرها واستعمالها في التعليم والإدارة والبحث العلمي، كي تكون ركيزة أساسية من ركائز مجتمع المعرفة ووسيلة فاعلة لتبادل المعلومات والمعارف والتنمية البشرية. ودعا الحكومات العربية إلى وضع سياسة واضحة لإنتاج المحتوى المعرفي رقمياً ووضعه على الشابكة التي ينبغي أن تضم كذلك الذخيرة العربية (جميع النصوص العربية) ومعجم تاريخي، لتكون الشابكة مصدراً للمعلومات وأداة للبحث بالعربية. كما دعا الجامعات العربية ومراكز البحوث إلى إيلاء هندسة اللغة واللسانيات الحاسوبية كامل عنايتها تدريباً وبحثاً وتطبيقاً. وطلب إلى المؤسسات العربية العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى استكمال البحوث الرامية إلى استعمال العربية في الشابكة على جميع المستويات، مثل استعمال العناوين وأسماء النطاقات العربية. وأكد أهمية الترجمة الرقمية المستندة إلى التقنيات الإحصائية في إغناء المحتوى العربي على الشابكة واستفادة المجتمعات العربية من الثروة المعرفية المتوفرة على الشابكة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى