الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم عائشة الخواجا الرازم

هي غربة للجميع أيتها الروح

كلما حاولنا التعرف على أصل صديق أو زميل أو أي إنسان في مجتمعنا، وكلما حاولنا الخوض والسباحة في أصل وفصل ذاك الإنسان، نعثر على غربة في تلويحات يديه للتعبير عن تجذره، لدرجة أنه يبدأ التأويل والتأتأة والبحث الفوري عن قشة يتعلق بها للإجابة، حيث يفاجأ بالسؤال ولا يدري من أين يبدأ!! ودائماً نعثر على ملامح مشرئبة بالرفعة والارتفاع والعزة!! وفي كل مناسبة يحدث هذا التظاهر المعرفي والمتطفل من طرفنا تجاه غيرنا، ننسى أنفسنا بأننا أول الغرباء وآخرهم!!! وأن السائل ليس بحجم المسؤول عن هذا الأمر الحساس!! فننزع إلى الإحراج بسؤالنا المباغت :

من اين الأخ؟ ومن أين أنت؟ ومن أي بلد تحدرت؟ وكثير من المستهدفين بهذا الإحراج ينفخون أنفاسهم خارج صدورهم، ويستعدون للتهويل والمباغتة وكأن على رؤوسهم الطيور الناعقة، أو كأنهم برغم عدم توقعهم للسؤال يتمنونه للتوضيح والمكابرة وإغلاق فجوة في أصولهم!!!

فلا نشفق عليهم وعلى أنفسنا المتطفلة!!! ونفاجأ بالذين نحرجهم بالأسئلة المنشأية تلك،بأن يحدث الفوران الذاتي والأصلي والعرقي والطائفي والإثني والاجتماعي، ويتطور إلى مغزى الرد، بأنه محاولة للترفع من قبلنا رغم أنف الكون وما فيه من أصول!! وأنا لا أقصد الأسئلة الرسمية التي تستهدف العمل على الموطن وأصل المنشأ للبني آدم، بل أقصد نحن بيننا وبين بعضنا البعض كبشر لا نختلف بغربتنا عن بعضنا، وكلنا سواء في الغربة والهم والبكاء!!

والأغرب والأدهى أننا في أغلب الأحيان لا نعثر على إنسان منبثق كالشجرة الصافية من الأرض التي يطأها ويعيش عليها، وهو ليس قادماً أيضاً من الفضاء، وليس قادماً من الأجواء الصافية أبدا!!! فالكل في فلك الاغتراب!

ولهذا يشعر الواحد من المتطفلين أمثالنا بالتكبر حين يجابه غريباً يتلعثم بالإجابة!!، وكان قد رحل عن موطنه وأرضه ( مع أنني أميل إلى أن لا موطن أصلي لجنس أو طير أو مخلوق سوى التراب فقط ) والتراب هو صاحب الحق بالمواطنة وهو الأرض التي يدب عليها الإنسان، والإنسان غريب لا محالة!! إذن فالغربة هي ديدن البشرية، فتتكون لدينا فرحة الشماتة أو السعادة أو القناعة بأننا لا نصدقه مهما أول وافتعل،وبأنه ليس إلا غريباً مثلنا تماماً،و مما يزيد الأمر فقاعات ممزوجة بالرضا أننا نعثر على غرباء في الأرض يجوسون الحياة رغماً عن أنفها مثلنا!! متلفعين بالغطاء الأصلي والفصلي، ومتنطعين لعشيرة الجذور، وبأنهم أصحاب جذور ممتدة وضاربة في التاريخ، ويصل الأمر يا للهول أن يبرهن الشخص الأكثر غربة، بأنه يمتلك في بيته شجرة الأسرة أو العائلة العالقة والعشيرة!!

وأعقد أنه بهذا يزيد الطين بلة، فهو يؤكد بذلك افتراق القول عن الأصل، وأنه يريد إثبات ما انقطع وما انعدم عبر العصور!!

لقد خرجت بنتيجة عملية عجيبة وليس على الله شيء عجيب، بأن الأناس المجاهدين لإثبات أصلهم وفصولهم وجذورهم في الأرض التي يعتاشون عليها، هم غرباء، ونتاج دماء سائلة على التراب بلا ثمن، وبأنهم نتاج ويلات وعذابات إنسانية ليس لهم فيها ذنوب إلا ما حملوا عن آبائهم وأجدادهم المهووسين بالغربة والبلاء!! فمنذ بدئ التاريخ وحتى هذه الأيام العصيبة، لا يعترف الإنسان الطريد بأنه نتاج الطرد والإفراز الدامي، ويتباهى ويكابر حتى في عظمه بأنه تجذر وولد وأجداده بنوا وعمروا وابتنوا، وبأنه حفيد الشيخ الفلاني، والسيد الفلاني، وفجأة يصمت ويهيم دامعاً، ويردف معبراً : ولكن حين جاء الشيخ الفلاني، إلى هذه الديار كان طريداً ولاجئاً، ويحمل بضاعته او أكياسه الخاوية، ودمه مهدوراً، وأولاده في شوال البكاء، واعتمر خيمة في الظل، وتخفى وغير اسمه ولون بشرته حتى لا يعرفه ربعه، ولجأ دخيلاُ عل العشيرة العلانية وأصبح من أهلها بعد أن غطاه الشيخ فلان بعباءة العشيرة وشرب لبنها ورضع حليبها!!!

كل يوم نكتشف أننا كلنا غرباء، وليس فينا من إنسان موطنه بقعة أرض خاصة، وأن الأرض ملك لله والموئل الأرضي للبشر أجمعين، وكلنا نسعى في أرض الله الواسعة ونضرب في الأرض، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه أورث الأرض للبشرية، سواءً بخيمة أو جحر أو مغارة أو هواء أو ظل شجرة!! وما الأصول إلا واحدة لأولاد آدم وحواء لو أسعفتنا الذاكرة، ويا للهول كم من غربة تسكننا ونحن نفتري على إخوتنا في الأرض بأنهم لا أصل لهم ولا فصل!!

أدرك كل لحظة بأن الغربة تنخر أجساد الأمم، والرائع في فهمي وفهم غيري من الحزانى أن الغربة لا تنخر الأرواح، ابداً فالأرواح ملك لله!! وهي من نسيج الله الخاص الأثيري، وهي التي تمنع الإنسان من النواح الصريح، والبكاء الصداح أمام الخلق، بأن فلاناً غريبا، وتمنحه القدرة على المتمترس في الأرض والادعاء بأنه متجذر متخصب في البقعة الأرضية وله أجداد وآباء عاشوا ونبتوا من الأرض، والروح سر القوة التي يتعملق الإنسان فوقها، فطوبى للروح كم هي عظيمة تستمد عظمتها من عظمة الله الأقوى من كل الضعفاء الباحثين عن الأصول والفصول لمبدأ التفرقة!! من مبدأ أن الأرض صادقة فيما أعطت وأن الإنسان ليس غريباً عن أية بقعة فيها!! ولكن الجسد غير من الهطول المزمجر للروح فهو يصرخ بالجسد، لا تغترب ايها الإنسان، فالروح لها كل الأمكنة!! ولكننا غرباء مهما هدأت الأرواح وكيف لا وأجسادنا تحتاج للموئل والماء والكلأ؟؟ وتحتاج حقيقة لعشيرة وأب وأهل وسند؟؟ وتحتاج لنصرة العزوة التي هي المتنفس الأوحد للدعم والعزاء؟؟ فكلنا غرباء!! مهاجرين وأنصار ونازحين وداخلين وطارئين ومدعين التوطن في أرض الله!! نعم كلنا غرباء!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى