الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
قصة مغربية
بقلم أحمد زياد محبك

وأخيراً التقينا، وافترقنا

مصطفى يعلى، العم الأكبر، ومحمد احميدة، وعبد الله بن عتو.

بين ثلاثاء وثلاثاء آخر التقينا وافترقنا، بين المشرق من الوطن والمغرب، التقينا وافترقنا، وليت أنا نلتقي ثانية ونحن نعلم أنا سنفترق.

كثيراً ما كانت جدتي تقول لي: «لك أعمام وأخوال هاجروا قبل مئات السنين إلى مراكش، واستقروا هناك، اذهب إليهم، واسأل عنهم، لا بد أن تراهم»، وأقول لها: «ولكن مراكش بعيدة، ماذا سيأخذني إليها؟»، وتجيبني: «لكل مجتهد نصيب، ولو قررت لسهّل الله لك السفر»، وأجيبها: «ولو ذهبت، فكيف سأراهم؟ مراكش كبيرة، وهي الآن المغرب العربي، أصبحت مملكة واسعة، أنت لا تعرفين، كيف سأسأل عن أعمامي وأخوالي؟»، وتقول: «أعمامك وأخوالك عرب أقحاح، وهم مشهورون ومعروفون بكرمهم وجودهم وشهامتهم، اسأل عنهم، ستجدهم من غير شك، هم أصحاب أصل عريق، ولا شك، الجميع يعرفهم، وسوف تهتدي إليهم».

وتموت جدتي، بل جدتي لا تموت، ما أزال أسمع صوتها، وهي تحدثني عن أعمامي وأخوالي، وتحكي لي الحكايات، وتروي لي الأمثال، عن مراكش وبغداد، وعن بيروت والحجاز، وتحكي لي عن الرحلات والأسفار، كأنها تعرف كل البقاع، مع أنها لم تغادر منزلها في حي الفرافرة العتيق بحلب.

وتحط بي الرحال في الدار البيضاء، وأمضي إلى الرباط، وتدهشني أسوارها الحمراء، كأنها طوق العقيق، وكان لا يغادر صدر جدتي، بلونه الأحمر النقي الجميل، وتتألق في السماء وفوق الأبراج الرايات الحمراء، تتوسطها النجمة الخضراء، يا جدتي ها أنذا في الرباط، وقد تحققت أمنيتك، وهاهم أعمامي وأخوالي في استقبالي في المطار في الدار البيضاء، وهم لا يغادرونني في الرباط والقنيطرة، وهناك أعمام آخرون في مراكش، وأخوال في فاس ومكناس، وثمة عمات وخالات، ومن الأعمام محمد أنقار، الروائي والناقد، والمسرحي أحمد الغازي، يدعوننا جميعاً إلى زيارتهم، وليس عندي من الوقت سوى بضعة أيام.

الرحلة شاقة، متعبة، أنهكت الجسم، وأرهقت العين بالسهاد، سبع ساعات وأنا أنتظر الطائرة في الدوحة، وكان لا بد من الإقلاع من دمشق إليها، ثم من الدوحة إلى الدار البيضاء، ولكن هناك يلقاني عمي الكبير الدكتور محمد احميدة، ومعه ابن خالي الدكتور عبد الله بن عتو، يحملان عني الحقائب، بل يحملاني على الراحات، فيزول التعب كله والعناء، وأحمد الله أن كان معي في الرحلة أخي الحميم بشير دحدوح، أو لعلي أنا كنت معه، فهو الرفيق الرفيق والصديق الصديق.

وفوراً يأخذنا بسيارته العم الكبير إلى القنيطرة، عبر الرباط، «لماذا إلى القنيطرة يا عمي؟» هناك عمك الأكبر الدكتور مصطفى يعلى، هل نسيت؟ هو الذي دعاك إليه، بيتي أنا في الرباط، ولكننا سوف نسير فوراً إلى عمك الأكبر، هو بانتظاركم هناك، هو رئيس مختبر الأرخبيل، وهو الذي نظم ندوة عن ابن طفيل، ونحن جميعاً نعمل في جامعة ابن طفيل؟ أرجو ألا تكون قد نسيت في حلب نص بحثك عن حي بن يقظان"، ويردّ عني أخي البشير، بشير دحدوح: «اطمئن، ياعمي، ننسى زوجاتنا ولا ننسى ابن طفيل، وفي حقيبتي بحث الدكتور زياد عن المكان والإنسان في قصة حي بن يقظان، وفي حقيبته نص بحثي عن الإحالات القرآنية في القصة نفسها التي ليس لابن طفيل رحمه الله سواها، والذي سنجتمع على ذكره».

ويعانقني عمي الأكبر مصطفى يعلى، هو عظيم حقاً، كما حدثتني عنه جدتي، وإن كانت لا تعرفه، هي تعرف جدوده، ولا بد أن يكون الأحفاد كالأجداد، أدهشني، ودود، عطوف، شفوق، بقامته الباسقة، وإطلالته الباسمة، مهذب جداً، لطيف جداً، وددت لو أبكي بين يديه، ولكنني حبست الدمع، كأنني ألقى فيه أبي وجدي.

وفي الندوة التقينا بباحثين ستة أو سبعة، منهم الدكتور مصطفى مشيش العلمي، والدكتور محمد أية فران، والدكتور محمد مصباحي، والدكتورة زهور كرام، والدكتور عبد الله بن عتو، والدكتور إبراهيم بورشاشن، جاؤوا من أرجاء المغرب العربي، دهشنا أمام عمق البحث وجدته، حقيقة يستحق ابن طفيل هذا الجهد، وحقيقة جديرة قصته بهذا العناء.

فكر مشرق، وحوار ذكي، وإخوة كبار، في رحاب جامعة ابن طفيل كنا نتحدث عن ابن طفيل، الدكتور عبد العزيز عينوز عميد الكلية دائماً باش الوجه، ضحكته لا تفارقه، يرحب بالجميع، يسعى بين أيديهم، يطمئن إلى سير العمل، والجامعة في قلب غابة المعمورة، وهي عامرة بأشجار الفلين الكبيرة، عمرها ألف عام أو يزيد، الهواء منعش، والجو رطب، وأبنية الجامعة متناثرة في الغابة بين الأشجار كالجواهر، ومائدة الإفطار تمتد في ظلال الأشجار، والشاي الأخضر يصب من أباريق من فضة، ندوة ناجحة بحق، تنظيم دقيق، حضور كثيف، مشاركات معمقة.

ويلتف حولنا أبناء الأعمام والأخوال وبناتهم، ما أروع اللقاء، الدكتور محمد البوري، الدكتور أحمد محمد الحافظ، شاعر مبدع، الدكتور شعيب أو عزوز، حييٌ وقور مهذب جداً، وهو شيخ جليل، وأخي البشير يتودد إليه، ويناديه يا نبيّ الله، أخي البشير بن دحدوح يخلب ألباب الجميع بروحه الظريفة، وتعليقاته المرحة، والدكتور عبد الله بن عتو يشاركه الدعابة والمرح.

القنيطرة خضراء، الأشجار فيها كثيرة، اللقالق تعشش على أعمدة الكهرباء، كم هي أنيسة ولطيفة، في حديقة فندق المعمورة يطيب الإفطار كما يطيب العشاء والسهر، والجو تحس فيه بالرحابة والانطلاق، ولا يمكن أن تنسى أطباق الأسماك والسلطات المنوعة.

ونذكر للأخوال والأعمام ابنة العم وفاء العمراني، وقد استقبلتنا في سفارة المغرب بالشام، ويسّرت لنا سمة الدخول إلى المغرب، وأكدت لنا نبلها وذوقها الشعري، ونؤكد لهم أنا وأخي البشير بن دحدوح حرصنا على الحصول على نسخة من ديوان شعرها "حين لا بيت" المطبوع في القنيطرة، ونرجو ألا ننساه.

من اليوم الأول شعرنا بمرارة الفراق، ما يزال أمامنا أسبوع، أو بضعة أيام، وقلنا واأسفاه؟ كيف سنفارق أهلنا؟ كيف سنغادر بلدنا؟ في السيارة يقودها العم الكبير محمد احميدة كنا نستمع إلى فيروز، ثم أخذنا نستمع إلى أم كلثوم، لبنان هنا، ومصر هنا، وسورية هنا، والعراق، في الليل أمام التلفاز رأينا أنا وأخي البشير بن دحدوح المطرب العراقي كاظم الساهر يغني أغنية مدهشة مع صبية سمراء، ما رأينا الأغنية من قبل وما سمعناها، على الفور قال لي أخي البشير هذه مغربية، أعرفها من طبيعة صوتها، ثم نزل اسمها في ختام الأغنية: "أسماء منور"، وتأكد لنا أنها من المغرب، وتأكد لنا أننا شعب عربي واحد، توحدنا اللغة والثقافة، وأن الأعمام والأخوال وأبناؤهم والبنات موزعون على الأقطار من المحيط إلى الخليج.

في الطريق من الرباط إلى القنيطرة، مساء مررنا بالمحيط، وقفنا على شاطئه، أطللنا عليه، البشير بن دحدوح، وهو حلبي أصيل، ومن حي عريق، هو حي أقيول، وأنا، وعبد الله بن عتو ومحمد احميدة، حقيقة هو بحر الظلمات، موجُهُ مخيف، امتداده بعيد، في شرق المتوسط تقف على الشاطئ، تحس أنه بحيرة، وأن وراءه قبرص واليونان وأوربة، تدرك أن الشاطئ الآخر قريب، وأن البحر هادئ، يمكن أن تعوم فيه وتصل إلى قبرص، هنا وأنت على شاطئ المحيط تدرك أن البحر ممتد وممتد، مصيباً كان عقبة بن نافع عندما قال: «والله لو علمت أن وراءك أرضاً لخضت غمارك في سبيل الله»، ونحن نعرف أن وراءه قارة، ولا نفكر في خوض غماره.

كنا قد غادرنا القنيطرة إلى الرباط، لنتناول العشاء في منزل العم الكبير الدكتور محمد احميدة، وها نحن نعود إلى القنيطرة، لا بد من أن نزور الأعمام والأخوال هنا وهناك، وهم معنا لا يغادروننا، العم الأكبر مصطفى يعلي يأتي معنا إلى الرباط، لنسهر معاً، وها نحن نعود إلى القنيطرة لنتناول العشاء في داره، وبين القنيطرة والرباط أربعون كيلو متراً، وهنا وهناك ينضم إلينا الأخوال: محمد البوري، وشعيب أوعزوز، وأحمد محمد الحافظ، وعبد الله بن عتو طبعاً لا يغادرنا.

لله درك أيها البشير بن دحدوح، كم أنت مرح، كم أنت ظريف وطريف، ما كنت أعرفك هكذا في حلب، بل أعرفك، وأنت هنا تبالغ في المزاح أمام الأعمام والأخوال، تتبسّط أمامهم، وتروي لهم الطرائف والنكات، أنت السمير.

أطايب طعام ما ذقنا مثلها، اللحم الطاجين، المطبوخ بالبرقوق والخشاف والزبيب، والكسكس الناعم اللذيذ، مثل دغدغة الصبايا، وفوقه قطع اللحم المسلوق مع البطاطا والباذنجان والكوسا واليقطين الأحمر، وفرخ السمك المشوي يستلقي على طول المائدة، ولا أشواك ولا أحساك، وفي مطعم الحوت، حيث يدعونا عبد الله بن عتو بالرباط ينقلب كل منّا إلى حوت كبير ليلتهم ما لذ وطاب من أسماك صغيرة منوعة مشوية ومقلية.

أمام منارة الحسن الثاني، وعمرها مئات الأعوام، هي كل ما تبقى من مسجد كبير، نقف، ليلتقط لنا العم الأكبر مصطفى يعلى الصور، وهو مبتهج مسرور، كيف لا؟ وقد التقى بأبناء أخ له، بعد فراق سنين، وبعد أن ظن أن لا لقاء. حقيقة كدت لا أسافر، وصلتني الدعوة منه، وظروف العمل لم تسمح لي، واعتذرت إليه، وبكى أخي البشير بن دحدوح، قال لي: لا أصدق؟ هل يمكن أن أسافر وحدي؟

المنارة تكبر كلما اقتربنا منها، وتعظم، وتشمخ، وإذا هي ابنة عصور وقرون، هكذا كان الإسلام مثلها شامخاً قوياً عزيزاً، مثل المسجد الذي كانت تطل عليه، ثم ضربت المسجد زلازل، ولم تبق سوى المنارة، لتشهد على عصر، ولتطل على ضريح منها قريب، حيث يرقد الملك الحسن الثاني، وإلى جواره يرقد في ضريح آخر الملك محمد الخامس، ونطل عليه، من تحت قبة تأتلق فيها النجوم، ونقف مقدرين مبجلين أمام العظمة والبهاء.

في الخزانة الحسنية، نلتقي مديرها الدكتور أحمد شوقي بنبين، وإذا هو عالم بالكتب والمكتبات والمخطوطات، وإذا هو صديق لأخ لنا في حلب، هو الأستاذ محمد قجة، حلب دائماً هنا، وستبقى الرباط في حلب دائماً، ونسعد بهذا اللقاء، وقد يسّره لنا العم الكبير محمد احميدة، وبفضله دخلنا إلى حرم القصر الملكي، عبر بوابة حمراء كالعقيق، ثم طفنا في داخل الخزانة الحسنية بخزائن فاخرة تحوي آلاف المخطوطات، تبلغ عدتها خمسة عشر ألف مجلد أو تزيد، يسهر عليها الدكتور أحمد شوقي بنبين، ويحققها وينشرها بالتعاون مع علماء أجلاء، ومن وراء زجاج نرى مخطوطات نادرة لمصاحف بالخط المغربي ولمقدمة ابن خلدون ولكليلة ودمنة والأغاني، وفي هذين المخطوطين رسوم ملونة، ونخرج محملين بعشرات الكتب، وفي سيارة خاصة مع مرافق نطوف بأرجاء الحرم الملكي، ونرى الأبهاء والقصور، ثم نعبر بوابة حمراء كالعقيق، زيارة تاريخية لمكتبة ملكية جديرة بالزيارة.

في مطعم مطل على المحيط في الليلة الأخيرة نتناول أطيب عشاء، ثلاثة أفراخ من السمك مستلقية في طبق فاخر تناديك، هلمّ إلي، ولا أشواك ولا أحساك، لحم طري، والمحيط من حولك يرغي ويزبد، وأنت ترغي وتزبد، وتجمد في عينيك الدموع، تدرك أنك غداً مودع، ومن حولك الأعمام والأخوال.

ويهرب البشير بن دحدوح بنا إلى الموشحات الأندلسية يغنينا بعضها، بل إلى القدود الحلبية يترنم بها، فيضعنا بين حلب والرباط، هل نبقى هنا أم هل نعود إلى هناك؟ وبين هنا وهناك يضطرب الفؤاد، ألا بد من الفراق؟؟

في هذه اللحظة تلتقي سبع ساعات أمضيناها في مطار الدوحة ننتظر الطائرة الثانية التي ستقلنا إلى الدار البيضاء، ثم تسع ساعات نمضيها في التحليق من الدوحة إلى الدار البيضاء، إلا ساعة واحدة تحط فيها الطائرة في طرابلس ليبيا، للتزود بالوقود، وينزل ركاب ويصعد آخرون، وفي هذه اللحظة تلتقي مثل تلك الساعات من التحليق والانتظار سنمضيها في طريق العودة، ولا بد بعد ذلك من أربع ساعات أو خمس من دمشق إلى حلب، إلى الزوجة.

هل نسيت زوجتك؟ أخي أبا سعيد؟ يا البشير الدحدوحي؟ أم هل أنستك المضيفات الآسيويات في الطائرة وأنت في الفضاء نساء الأرض جميعاً؟ بما فيهن زوجتك؟

رحمك الله يا جدتي، لِمَ كنتِ تلحّين عليّ كيّ ألقى الأعمام والأخوال؟ ليتني ما لقيتهم، ليتهم ما استقبلوني، ليتني ضعت هنا وما استُقْبِلتُ بمثل هذا الحب من الأعمام والأخوال وأبنائهم وبناتهم، كي لا أشعر بمرارة الفراق، الذين نحبهم سرعان ما نغادرهم.

بالأمس عند مصب نهر أبي الرقراق في المحيط أوينا إلى مقصف صيفي، مع الأعمام والأخوال بالطبع، هواء آخر آذار ربيعي ناعش، ولكنه بارد، كان بارداً، كنا نقشعر برداً، كان بعضنا يقول لبعضنا الآخر، هو هواء بارد، ولكنه غير ضار، هو هواء الربيع، هذا العام عام 2010 عام خير وخصب، عام أمطار وعطاء، انظر إلى نهر أبي الرقاق، ماؤه طيني، لأنه امتلأ بالسيول، ونحن نقرقف من برد، حرنا في أمرنا ماذا نختار من شراب؟ واخترنا المثلجات، تناولناها قبل أوان تناولها، تناولناها والريح باردة، ونحن في المقهى الصيفي نقرقف من برد، ليت لنا الآن تلك المثلجات، لنقهر هذا القهر، قهر الفراق.

لله الشاي الأخضر المنعنع ما أطيبه؟ وهو يصب من أباريق من فضة، لا بد منه في كل غدو ورواح، السكر فيه زائد، وهو معتّق في إبريقه، شذى النعناع فيه ظاهر، ولونه الأصفر يتألق كالذهب.

في صباح اليوم التالي الثلاثاء 30/ 3/2010 علينا أن نودّع عمنا الكبير محمد احميدة في الرباط، وفي ليلة الأمس كنا قد ودعنا عمنا الأكبر مصطفى يعلى، سهر معنا، ثم رجع إلى القنيطرة، وأنا أودعه أقول له: «نسينا ديوان الشاعرة وفاء العمراني؟»، فيبتسم، ويقول: «لا أنتم نسيتموه ولا نحن، هذه نسخ لكما منه، وهذه نسخ من كتب عمكم الكبير محمد أنقار، وفيها روايته ماريو مالقه، هو في فاس، كان يتمنى أن يأتي إلى القنيطرة ليلقاكما، ولكن الظروف لم تساعده، على كل حال ستعودان من غير شك ذات يوم إلى المغرب».

وأتذكر القاص عبد الله المتقي، كان الأمل أن ألقاه، ولكن بلدته الفقيه بن صالح بعيدة، هل لي من عودة إلى المغرب لأزور فاس ومكناس والفقيه بن صالح وأقفز إلى إسبانيا عبر سبتة ومليلة لأقابل هناك الأجداد ممن كانوا قد عمروا الأندلس؟

في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الثلاثاء 23/3/2010 غادرنا حلب، ونزلنا في الدار البيضاء في الثامنة والنصف من صباح يوم الأربعاء 24/3/2010، واليوم الثلاثاء في الخامسة مساء ستقلع بنا الطائرة من الدار البيضاء لتحط بنا في دمشق الساعة الرابعة من مساء الأربعاء 31/3/2010، ستكون الرحلة في العودة كما كانت في الإياب في طائرة إير باص 331.

ولا بد من جولة أخيرة في حي الرياض في الرباط، الحي الجديد الراقي، بأبنيته الحديثة الفخمة، هي تصاميم من باريس، ونتناول البيتزا الإيطالية على الرصيف في مطعم إلى جواره أرتال من المطاعم الفخمة، مناضدها تمتد على طول الرصيف، ننعم بالصباح الربيعي المشرق، وننسى أننا سنودع بعد قليل.

ومع البيتزا الفاخرة نسترجع أيام الندوة، محمد مصباحي يفكك قصة حي بن يقظان، ويرى فيها حي وهو يبحث عن ثلاث ذوات، ذات جسدية وذات طبيعية وذات إلهية، وأحاوره فأعتب عليه تجاوزه الذات الاجتماعية، والدكتور محمد آية فران يعرض لتحقيق العلماء الألمان في القصة وقراءاتهم لها، فيقدم قراءة نقدية مدهشة، ويحقق الدكتور بورشاشن في نسخ المخطوط، ويعرض الدكتور عبد الله بن عتو إلى نصوص صوفية كثيرة في المغرب العربي تزيد عن العشرين استوحت قصة حي بن يقظان، وأعادت صوغها، ويعرض الدكتور أحمد شحلان للترجمات العبرية لقصة حي بن يقظان، وأهمية تلك الترجمات، ويكشف الدكتور مصطفى مشيش العلمي عما في القصة من تسامح، ثم يشكر الدكتور مصطفى يعلى القائمين على الندوة من العامل والخادم إلى رئيس الجامعة، كانت الندوة حقاً نتاج عمل جماعي يسوده التعاون والتماسك، ونفهم منه أن في الكلية مختبرات تتجدد كل أربع سنوات، ومهمة كل مختبر أن يقدم بحوثاً وندوات، وإذا الكلية ليست لمجرد المحاضرات والامتحانات، وإنما هي للبحث أيضاً، ونسترجع مع البيتزا الفاخرة ونحن ما نزال في مطعم على الرصيف في حي الرياض ذكرى لقائنا رئيس الجامعة وكيف رحب بنا في مكتبه، وأعطانا، نحن المشاركين في الندوة، حوالي الساعة من وقته، وقد أبدى حرصه على العربية الفصيحة ودعا إلى التمسك بها، وحين علمت أن ولايته قد انتهت أبديت له أسفي، فقال لي: «أنا لا آسف على انتهاء ولايتي، وأحمد الله أنني استطعت خلال السنوات الأربع الماضية تنفيذ سبعين بالمئة من خطة عملي لإصلاح الجامعة وتطويرها، وهي الخطة التي رشحتني لأكون رئيس الجامعة»، وقد علمنا منه أن الراغبين في الترشيح لرئاسة الجامعة عليهم أن يقدموا خطة عمل لتطوير الجامعة، ثم تتم دراسة الخطط، ومن تفُزْ خطته يصبح رئيساً للجامعة مدة أربع سنوات.

هل أصبحت الندوة من ذكريات الأمس؟ وبالأمس كنا في حديقة كلية الآداب في جامعة ابن طفيل، نتمشى مع الأساتذة والطلاب في سهوب خضراء واسعة، وتحت أشجار كبيرة وارفة الظلال، وأبنية الكلية تتناثر مثل الكواكب الزاهرة، والفرح باد على وجوه الأساتذة والطلاب، وشعور ينداح في الأعماق يعطيك الإحساس بالرحابة والانفتاح والانطلاق، هل أصبحت الحوارات الغنية التي دارت في مدرج الندوة من ذكرى الأمس؟ والدكتور محمد احميدة رئيس الجلسة يحدد لي الوقت بعشرين دقيقة وأنا أقول له: «أمضي من حلب إلى القنيطرة أربعاً وعشرين ساعة من السفر والترحال، ثم تحدد لي عشرين دقيقة فقط للكلام على الإنسان والمكان في قصة حي بن يقظان؟».

الدكتور محمد احميدة يقود بنا في سيارته إلى المطار من الرباط إلى الدار البيضاء ليجتاز مئة كيلو متر، هي مئة كيلو متر من الوداع الصامت المقدس، وفي السيارة تشدو لنا أم كلثوم، ونطرب لها، ثم نفاجأ بها تصرخ: «وأفقنا ليت أنا لا نفيق، يقظة طاحت بأحلام الهوى، وتولى الليل والليل صديق، وإذا الدنيا كما نعرفها، وإذا الأحباب كل في طريق»، لا أعرف كيف تنشدها، لا أعرف كيف أسمعها، كل شيء مشتت، حتى السمع والبصر، وتمر بنا سيارة مسرعة، تكاد تطوح بنا عن الطريق.

بالأمس كنا في زيارة الجامع الكبير المطل على المحيط، روعة عمرانية، مذهلة، جوهرة على المحيط، منارة تعلو أكثر مئتي متر، مصلى يتسع لخمسة وعشرين ألف مصلٍّ، زخارف هندسية دقيقة الصنع، ستة أعوام استغرق بناؤه، أنجز مع نهاية القرن عام 1993، ليكون كالعرش على الماء، هل ننساه اليوم في لوعة الفراق، لا يمكن أن ننساه، ولكننا الآن لم نعد قادرين على تذكره، وفي ساعة زيارته كان هناك أكثر من عشرة أفواج سياحية في زيارته متناثرة في أرجائه الفسيحة ولا يقل عدد أفراد الفوج الواحد عن مئة.

ونقترب من المطار، وأتذكر جواز سفري، أبحث في حقيبة يدي فلا أجده، أبحث في جيوب معطفي فلا أجده، وننزل من السيارة، على جانب من الطريق أفتح حقيبة سفري الكبيرة، أفرغ على الرصيف كل محتوياتها، أبحث في جانبها، أبحث في الأوراق والملفات وأتصفح الكتب لعل الجواز فيها، هل نسيته في الفندق؟ ويقول لي الدكتور محمد احميدة يمكن في حال فقده أن نقصد فوراً السفارة السورية في الرباط، سنعود إلي الرباط، يمكن أن تحصل من السفارة السورية على بطاقة مغادرة، هناك لي أصدقاء، وأتذكر، أقول لأخي بشير دحدوح:" جواز سفري معك، ضممته إلى جواز سفرك ووضعته معك في حقيبة يدك الصغيرة"، ويفتح حقيبته الصغيرة، فيجد جواز سفري لصق جواز سفره.

ونتابع الطريق إلى المطار، نتابع الطريق إلى حلب، هي بضع خطوات، هي بضع ساعات، هي طرفة عين، بين اللقاء والفراق، ويتصل بنا مصطفى يعلى، العم الأكبر، يتصل بنا عبد الله بن عتو، يتصل كل منهما بنا بالهاتف الجوال للاطمئنان، وهذا العم محمد احميدة يودّعنا، وهو الذي اتصل بنا ونحن في حلب بالهاتف الجوال عشرات المرات، اتصل بنا قبل أن ندخل إلى الطائرة في دمشق، وهو الآن يودّعنا، يناول كلاً منا لفافة وهو يقول: «لكل منكما برنس مغربي هدية».

هل نعود ثانية إلى المغرب، خبّرني أيها البشير، يا رفيق العودة؟؟ رحمك الله يا جدتي، لقد التقيت الأعمام والأخوال، وبنات العم وبنات الأخوال، سعدت بلقائهم، حقيقة جذورنا واحدة، وهي ضاربة هنا وهناك.

في قاعة الانتظار قبل الدخول إلى الطائرة يقعد إلى جواري شاب مغربي، أسأله: «إلى أين أنت قاصد؟» يقول: «لي عمّ في دمشق، يعمل في سوق الحميدية، غادر مراكش قبل ثلاثين عاماً»، ويصمت ثم يضيف: «زوجته شامية، وعنده ابنة جميلة، هكذا حدثني أبي، كان في زيارته قبل عامين». ويعلق أخي البشير: «وأنت ذاهب للزواج من ابنة عمك الشامية»، فيجيب: «نعم»، ويغمغم أخي بشير: «وأنا سأرجع ذات يوم إلى الرباط لأتزوج ابنة عم لي هناك»، وأعلق: «أو لعلك ترسل ابنك للزواج منها».

وتقلع بنا الطائرة، يقول لي أخي بشير دحدوح: «جئت إلى القنيطرة، وأنا مقتنع طوال الطريق الاقتناع كله بأن الإنسان بحاجة إلى جزيرة معزولة، مثل حي بن يقظان، كي يعي ذاته، ويعرف العالم، ويؤمن بالله، ويحقق ذاته طاهرة نقية، بعيداً عن الناس، ولكن الآن، بعد لقائي القوم في القنيطرة والرباط والدار البيضاء، وأنا عائد بالطائرة أنا مقتنع الاقتناع كله أن حي بن يقظان كان على خطأ، فلا بد للفرد من المجتمع والناس، كي يعرف ذاته من خلالهم، وليتعرف إلى الكون، وليزداد إيماناً بالله، ولكي يحقق ذاته طاهراً نقياً، بين الناس، لا بعيداً عنهم، وهذا ممكن حقاً لو التقى بمثل أولئك الأعمام والأخوال، بل لا يمكنه أن يحقق ذاته من غير اللقاء بهم، لقد تغيرت أفكاري مئة وثمانين درجة».

وأقول له: «تجربة حي بن يقظان هي دعوة إلى ضرورة المجتمع للفرد، وتأكيد لأهميته، وليست نفياً لأهمية المجتمع، وما حي بن يقظان إلا حالة تجريبية».

اليوم نحن في حلب، افترقنا بعد لقاء، مصطفى يعلى، العم الأكبر، ومحمد احميدة، وعبد الله بن عتو، بين ثلاثاء وثلاثاء آخر التقينا وافترقنا، بين المشرق من الوطن والمغرب، التقينا وافترقنا، ليت أنا نلتقي ثانية، ولو كنا نعلم أنا سنفترق.

تنويه من الدكتور فلاح جاسم

الأستاذ الكبير ؛ الدكتور أحمد زياد محبك - حفظه الله - ، أشكرك على هذه القصة العربية بحق ، بل الملحمة ، والله جعلتني اتشوق لقراءة كلماتك بنهم أكثر من نهم من تناولوا أفراخ السمك على شاطيء المحيط .. ياصاحب القلم الجليل ،في كلماتك روعة وعذوبة وخفة ، جعلت تنساب الى قلبي كما ماء الفرات ، والله لقد بكيت وأنا أقرأ كلماتك ، لقدرتك الرائعة على التنقل السلس والوصف ، تخيلت بسمتك وبهاء وجهك الوضاء ، وكأننا في كلية الآداب ، مقابل دوار جامعة حلب ، لاأدري لماذا ، فكل مافي كلامك يجعلني أحس بالزمان وينقلني إلى المكان.
أستاذي الكبير بعلمه وبقدره ، والله جعلتني احس بأن المسافة بين الرباط وحلب كـ " الواو " بين هنا وهناك ،قدرتك الفائقة على الوصف جعلتني اتابع سطورك باهتمام بالغ ، واتنقل بين كلماتها التي تشبه عربات القطار القادمة من بلاد السند محملة بما لذ وطاب من البخور والعطور.

كعادتك انت واخوانك يسري الحس العروبي في عروقكم، بل هو هواء تتنفسونه،وقد انتقل لنا ذلك الشعور منكم بالعدوى ،ياصاحب القلم الجليل دمت بخير ودام اليراع مادمت انت سيده...
كنت اعتقد بأن البحاثة غير قادر على أسر ألباب القراء بكتابته ، وذلك يرجع لاهتمامه بالمعنى اكثر من المبنى ، لكن في قصتك العربية ، لااستطيع المفاضلة بين المبنى والمعنى، أحسست بأننا نرتشف الشاي على طاولة رصيف قلعة حلب.

لك عظيم شكري وتقديري الكبير يامعلمنا الأكبر

دمت بخير

الدكتور فلاح جاسم- الرياض

ملاحظة:كنت أود ارسال التعليق عن طريق المجلة ، لكن يقول لي : " تحذير ، التعليق طويل ، وحاولت اختصاره قدر الامكان ، لكن لايمكنني اختصاره أكثر من ذلك "

شكرا لكم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى