الاثنين ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٢١

واحة «أبو سالم»

راضي شحادة

غسيلُ الاحتلال العَفِن:

أريحا أمّ المدن. إنّها اول مدينة ظهرت منذ بداية التّاريخ البشري والمدني. بقيت أريحا جزءاً رئيسيّاً من التّاريخ ومن الأرض المقدّسة، يؤمّها السّيّاح من كلّ أصقاع الأرض، وبرفقتهم مرشد سياحي "إسرائيلي" متخصّص في مهنته، ومدعوم من قبل وزارة السّياحة، ومزوّد بشهادات "راقية" لإيصال حقائق جديدة تئنّ أريحا عند سماعها ولا يئنّ لها السّياح، لأنّ غالبيّتهم مقتنعون بقدسيّة أريحا، وأنّ ما يقوله الـمُرشِد من حقائق هو مُنزَل ومُقدَّس، ويجعل مِن رحلة الأسبوع والشَّهر جولةً في "غسل الدّماغ" السّياحي، لإقناعه بواقع جديد وتاريخ "معاصر"، والذي أصبحت أريحا جزءاً منه.

ولكي تتمّ عمليَّة الغسل الدّماغي على أتمّ وجه، فإنّه لا بدّ من التّوجّه الى واحة العمّ "أبو سالم"، وهي ليست منطقة أثريّة تابعة لأريحا، بل إنّها واحة شبيهة بالفردوس، فيها نبعُ ماءٍ صافٍ نمَتْ من حوله أشجار البنسيان والكينياء والسّرو التي تَطَال بعملاقيّتها السَّماء، ناهيك عن الخُضرة التي تَبعث من الأرض رائحةً طبيعيّةً خالية من تلوّثاث العصر الحديث.

أمّا هذا الفردوس السّياحي الطّبيعي الجميل فقد كان يديره بفطرة وبراءة العمّ "أبو سالم"، وهو عجوز ضرَبته الشّمس، فجعلت من بشرته لوناً قريباً الى لون تراب أرضه الأمّ، وجعل "أبو سالم" من واحته مكاناً يستقبل فيه السّياح الذين تعبوا من جولة الآثار القديمة، وفضّلوا أخذ قيلولتهم تحت شجر نبعه، ويقومون بتغطيس أرجلهم في مياه النّبع الـمُنعِش، ثم يقودهم أبو سالم الى داخل بيّارة متواضعة من بيّارات أريحا الجميلة لكي يقدّم لهم تشكيلة من حبّات الحمضيّات اللذيذة، ثمّ يُلَمِّح لهم بإشارة خفيفة وبشكل مهذّب، لكي يعطوه شيئاً ما مقابل إرشاداته السّياحية، أو يتحيّن الفرصة التي يشعرون بها بجهده ويقدّمون له بعض المال تقديراً لجهوده بدون أنْ يطلب منهم ذلك صاغراً. ولكّنه اليوم قال لي: "يوم نحس، جميعهم يأخذون ولا يعطون".

لقد وعَدَته إحدى السّائحات أنْ ترسل له ساعة يد لأنّه أفهمها بالإشارة أنّه بحاجة الى ساعة، فلَا يثق بكلامها لأنّ سابقيها من السُّياَّح كانوا دائماً يَعِدون ولا يوفون بوعودهم، فحال خُروجهم من الواحة ينسونه.

وأبو سالم لا يتحدّث في السّياسة، ولا يستطيع أنْ ينقل لسيّاحه أيّة تفاصيل تاريخيّة أو حضاريّة، لأنّه لم يدرس فنّ الإرشاد السّياحي في وزارة السّياحة، لأنّه لم تكُن في حينه وزارة سياحة فلسطينيّة في منطقته المحتلة، ولا يلبس بدلة وربطة عنق كمرشدي وزارة السّياحة الإسرائيليّة الرسميّين، ولا يعرف من اللغات سوى العربيّة العاميّة لأنّه لم يتعلّم في المدرسة، فَظُرُوفُه منذ سبعين سنة، وهي مدّة سنيّ عمره المديد، لم تسمح له بالتّعلم وإتقان اللّغات، والفرق بينه وبين الـمُرشد المتخرّج من المؤسّسة الإسرائيليّة أنّه يشرح لسّياحه بالإشارات، ولهذا لا يستطيع أنْ يحدّثهم عن عِلم النّفس والتّاريخ وغسل الأدمغة، ولكنّه يستطيع أنْ يستعمل الإشارات بيديه ورأسه وتعابير وجهه وكلمتي"Come here" ، مرشداً إيّاهم الى مكان صالح للتّصوير، أو الى مكان المياه العذبة الصّالحة للشُّرب، أو الى مكان تغطيس الأرجل في ماء النّبع الصّافي الـمُقدَّس، ويحتضن الصّبايا والعجائز بمودّة ولطف ليتبارك معهم في صورة من كاميراتهم، وليمتّع جسده وروحه بلمسهنّ، وهنّ دائماً يقتربن منه بتودّد أشدّ حماساً من تودّده، ما يُحدِث انسجاماً فيما بينهم يختلف ويتناقض مع لغة الـمُرشد الرّسمي المـُحترف من المؤّسسة السّياحيّة الإسرائيليّة.

أمّا الدّور الذي يؤدّيه المرشد الإسرائيلي، فإنّه يُبقي أثراً لغويّاً في الدّماغ، بينما يترك أبو سالم في دماغهم أثراً انطباعيّاً، تماماً كفارق الأثر الذي يحدثه المسرح الإيمائي عن المسرح الـمَحْكي.

يدرك أبو سالم خطورة ما يتركه الـمُرشد الإسرائيلي في أدمغة سيَّاحِه، فهو يربط الماضي بالحاضر ليتناغم ويتطابق مع مصالح الاحتلال، فالبلاد المقدّسة تأخذ مفهوم إسرائيل الكُبرى، والاحتلال يتحوّل الى وجه حضاري ليس بعيداً عن الشّكل الذي يتخيّله الإنسان الغربي.

يبقى أبو سالم جزءاً من الواحة ومن النّبع، ومن لون التُّراب، ومن الصّورة التي يلتقطها السّياح، وللأسف فإنّه يبقى في إطار الصّورة التي يصفها الـمُرشد الإسرائيلي طبق معلوماتٍ مدروسة من المؤسّسة الكُبرى، ويصبح هذا العجوز جزءاً من طبيعة إسرائيل الكبرى "الحضاريّة!؟"، وقد استولوا عليه مع الأرض ومع أريحا أولى المدن عبر التّاريخ.

غسيلُ الأدمغة هنا يتناقض مع غسيل الأرجل والوجوه في مياه نبع "أبو سالم"، لأنّ غسيل الأدمغة "الحضاري!؟" يؤثّر على داخل السّائح، بينما غسيل الأرجل والوجوه في مياه نبع "أبو سالم" يغسل الجسد من الخارج فقط.

يبقى كَرَم "أبو سالم" على سيّاحه كرَماً عربيّاً بلا مُقابل، وهو أشدّ النّاس حاجة للمقابل، بينما يبقى الـمُرشد "الحضاريّ!؟" المدعوم من المؤسّسة والـمُتَخرِّج من المعاهد العصريّة الحديثة هو "القابض" المنتفع الأكبر مقابل استعماله لكلامه "الحضاري!؟" "العصري"، الغاسل للأدمغة وللتّاريخ الـمَدروس حسب خطّة سياحيّة مُفصّلة تضعها المؤسّسة لكي تلائم عقليّة السّائح المـُحِبّ للأراضي المقدّسة التي أصبحت بقدرة قادر مُلكاً للدّولة اليهوديّة.

هاجس مسرحيّ: راضي شحادة

هاجس كاريكاتيريّ: خليل ابو عرفة

راضي شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى