الجمعة ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم محمود إستنبولي

وداعاً جينكيز أيتماتوف

مات صاحب (وداعاً. غولساري)

لقد توفي منذ فترة. لم يحظَ في وسائل الإعلام العرب مكتوبة ومقروءة سوى بالقدر اليسير.. وهوالذي كان يحظى بإعجاب لافت القراء في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي في عالمنا العربي عامة وفي سوريا بشكل خاص حين كان الاتحاد السوفييتي يشكل قطباً عالمياً.. وظننت أن إعلامنا الثقافي قد تأخر في تغطية خبر وفاة كاتب بهذا الحجم إلى البطء المعتاد لديه.. وبما أنني كنت حبيس البيت عند وفاته فقد سارعت إلى إعداد مادة عنه بمناسبة رحيله.. ونويت أن أبعثها بقصد النشر في إحدى الصحف الرسمية ظناً مني بأنني أسد فراغاً في شريطها الثقافي.. لكن قيل لي أنهم اتخذوا قراراً بعدم نشر أية مادة تخص هذا الكاتب وذلك لأنه كان قد زار يوماً ما إسرائيل واعتمر العمامة " اليهودية " مما استدعى وضعه على قائمة الكتاب المحظور التعامل معهم.. وربما كانوا على حق في ذلك. وقد يكون ثمة مَن دفعه إلى هكذا خطوة عن طريق إغوائه بإمكانية حصوله على جائزة نوبل للآداب ( كما كان ولازال يظن الكثير من الكتاب والمثقفين العرب بأن الطريق إلى نوبل تمر عبر زيارة الدولة العبرية ) ..

إنه الكاتب السوفييتي – القرغيزي المعروف جينكيز ايتماتوف الذي توفي قبل حوالي أسبوعين ولذلك فإن الكاتب سوف يغيب عن عامه – عام جينكيز أيتماتوف الذي تقرر الاحتفال به هذا العام في جمهورية قرغيزستان – الجمهورية المستقلة حالياً والسوفييتية سابقاً – حيث ولد وترعرع الكاتب الراحل عام 1928 في قرية شيكر الواقعة في وادي تالاس الذي يعتبر واحداً من أهم المراكز الحضارية للشعب القرغيزي. وهذا ما سوف يشير إليه أيتماتوف لاحقاً في معرض حديثه عن طفولته قائلاً : ليست الطفولة مجرد مرحلة مهمة وحسب بل إنها تشكل نواة الشخصية في المستقبل.
وبالفعل. لقد تزامنت طفولة جينكيز أيتماتوف مع السنوات الصعبة من تاريخ وطنه الكبير آنذاك - الاتحاد السوفييتي – مع مرحلة الحرب الوطنية العظمى التي خاضها الشعب السوفييتي بأسره ضد جحافل الفاشية. فالتقت الحرب أيتماتوف في عام 1941 وهوما زال فتياً لتودعه في عام 1945 وقد صار شاباً مكتملاً أنضجته تجارب الحياة المختلفة في قريته البعيدة التي كانت خالية من الرجال حيث كانوا يقومون بواجبهم في الجبهة.. وقد وجدت مشاكل الحرب وسنوات ما بعدها لاحقاً انعكاساً لها في إبداع صاحب قصة " جميلة " و" المعلّم الأول "...

وكان موضوع الحرب أول ما ظهر عند أيتماتوف في قصة " وجهاً لوجه " التي نشرها عام 1957 باللغة القرغيزية.. ومع أن أحداث القصة تدور في قرية جبلية بعيداً عن الجبهة. إلا أن أصداء الحرب تحضر بقوة في القصة : القطارات تنقل قوات الاحتياط متوجهة نحوالغرب إلى الجبهة. لم يكن وارداً أن يفكر أحد بالهروب خلال توقفات القطار.. لكن اسماعيل قرر الهروب.. ليعود إلى بيته قبل رفاقه. ومع أنه عاد حياً سليماً معافى لكنه ميت أخلاقياً..
نعم. يعود الجندي الفار إسماعيل لزوجته ولأبنه.. في البداية تستقبل سعيدى زوجها إسماعيل بفرح غامر بعد أن فرقتهما الحرب قبل أن يقضيا معاً وقتاً كافياً.. لكن الفرح سريعاً ما يخبوليخيم بدلاً منه على العائلة ظل أسود ثقيل.. إذ كان إسماعيل مضطراً للهروب والتخفي بعيداً عن الناس ليجد نفسه خارج المجتمع.. ثم ليصبح غير قادر على المحافظة على إنسانيته.. ويتحول بالتدريج إلى شخص متوحش تماماً.. وتحلّ اللحظة التي تشعر فيها سعيدى بأن زوجها مذنب وأنها هي أيضاً مذنبة تجاه الناس.. فتقرر ترك المنزل بعد أن تأخذ معها ولدها الصغير.

كما استقبل القراء بحماس وباهتمام كبير قصة جينكيز أيتماتوف التالية " جميلة " ( 1958 ).. ولشدة إعجابه بالقصة فقد قام الشاعر الفرنسي الشيوعي الشهير لويس أراغون بترجمتها إلى الفرنسية بعد عام فقط من نشرها قائلاً : إنها أجمل قصة عن الحب.. ثم تتوالى ترجمة القصة إلى عدد كبير من لغات العالم. تدور القصة حول امرأة قرغيزية شابة تلبي نداء القلب فتمشي للقاء الحب بالرغم من الأعراف الاجتماعية البالية.. فتؤكد حقها في بناء سعادتها الخاصة. فنجد أن استقامتها وصراحتها إلى جانب محبتها للعمل وحزمها إنما هي نتاج التربية في ظل النظام السوفييتي.

أما رواية " وداعاً غولساري " ( 1966 ) فقد شكّلت نقلة نوعية جديدة في إبداع أيتماتوف.. بطل القصة هوالراعي الشيوعي تَنَاباي الذي لم يشغل أية مناصب في حياته ولم يجر وراءها.. بل كان مكافحاً حقيقياً في العمل لا يخشى تحمل المسؤولية وقول كلمة الحق في أية ظروف. هكذا جعل منه الحزب شخصاً قوياً مقداماً ومحباً للخير ومكافحاً ضد التملق والطفيلية والخداع. وكذلك هوحصان تناباي - غولساري العزيز الذي كان مفعماً بروح السباق والتحدي والذي كان صدره منفتحة لريح السهوب بكل ثقة واطمئنان.. لذلك نجد أن الكاتب قد عنَونَ القصة باسم الحصان وذلك لأنه أحس بوجود صفات مشتركة بين تناباي وصديقه غولساري – نفس النبل والوفاء والشجاعة والتفاني...

باختصار. ونحن نقرأ قصص وروايات أيتماتوف فإننا نرى أهميتها الفنية والتربوية كما ونلاحظ كيف إن موهبة الكاتب تتطور وكيف إن إبداعه يصبح أكثر عمقاً ومتعدد الأوجه.

ما يميز البطل في روايات وقصص أيتماتوف أنه موجود بالقرب منا نحن الناس العاديين وفي أننا نكتشف أشياء كثيرة مشتركة بيننا وإياه... فهوطيب ومتسامح. قلبه منفتح للمحبة والتعاطف.. لكنه تعاطف المكافح ومحبة المناضل وتسامح القوي.
لم يكن درب الإبداع عند جينكيز أيتماتوف سهلاً. بل كان مليئاً بالجهد المتواصل وبالدراسة المستمرة لحياة الناس من حوله.

كان إبداع أيتماتوف يتميز بمقدرته على الغوص في أعماق العالم الروحي للإنسان واهتمامه بما هوأسمى مما يجري في الحياة اليومية.. وقد كان محقاً رسول حمزاتوف حين قال أن إبداع جينكيز أيتماتوف ذوصبغة عالمية. وهنا لا بد أن نشير إلى أن كلاً من حمزاتوف وأيتماتوف قد تمكن من اكتساب العالمية انطلاقاً من الموضوع المحلي ولكنه المحمول على سمات إنسانية عامة قوامها الخير والجمال والمحبة. تلك السمات التي لطالما دأبت الدعاية في الاتحاد السوفييتي السابق على رفع رايتها في وجه الدعاية الرأسمالية المشبعة بالجشع وبالأنانية... ولعمري إن هذا ما يلمسه البشر والحجر في وقتنا الحاضر بعد غياب مجتمع الاشتراكية ونزعتها الإنسانية.

ونظراً للشعبية الكبيرة التي كانت تتمتع بها قصص وروايات أيتماتوف فقد تم تحويل معظمها إلى أفلام سينمائية لاقت رواجاً هائلاً عند المشاهدين.. كما تم إخراج بعضها على خشبات أفضل مسارح الاتحاد السوفييتي السابق..
لقد نال جينكيز أيتماتوف عن جدارة أرفع الأوسمة لقاء أعماله الإبداعية.. ولكن الكاتب كان يعتبر محبة الناس والقراء الوسام الأغلى على قلبه..
لقد أقيمت للكاتب مراسم تأبين شعبية وحكومية حضرها قادة الدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية وجماهير غفيرة من القرغيزيين... وراح الناس يتدفقون بكثافة إلى الصرح الكبير بالقرب من العاصمة القرغيزية بيشكيك حيث كان مسجى جثمان الكاتب لكي يلقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة. نعم لقد بادل الناس أيتماتوف المحبة التي انعكست مشاعر وعلاقات إنسانية رائعة في مجمل أعماله الأدبية التي تمت مضاعفة تأثيرها مرات ومرات من خلال نقلها إلى المسرح وشاشة السينما.

يبقى أن أشير إلى أنه كان من الأجدى والأكثر عقلانية أن يشير إعلامنا ومثقفونا إلى خبر وفاته وأن يناقشوا ويحللوا أدبه وإبداعه. وأن يستغلوا رحيله لكي يثيروا موضوع زيارته لإسرائيل.. فينتقدوه في السياسة بعد أن يكونوا أعطوه حقه في الأدب والإبداع.

مع العلم أننا كثيراً ما نطبل ونزمّر لكتاب غربيين دون أن نعرف عنهم إلا ما تنشره وسائل إعلامهم.. التي لا نلبث نكرر أنها تحت سيطرة رأس المال الصهيوني !!

ولله في خلقه شؤون وشجون.

مات صاحب (وداعاً. غولساري)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى