الأربعاء ١٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم رحمان خليفة بشار

وصف الطبیعة في الثقافة العربیة

الموجز

الوصف غرض من أغراض الشعر القديمة، حيث واكب الإبداع الشعري منذ الجاهلية، ولا يزال غرضا مطروقا حتى اليوم. إن الوصف يسير في مسلكين اثنين، فهوإما أن يكون ممتزجا مع غيره من الموضوعات الأخرى كالمدح والرثاء والغزل وما إليها حيث أننا إذا مدحنا فإنما نصف محاسن الممدوح، وإذا رثينا فنحن نصف مناقب الفقيد، وهكذا.....، وإما يكون غرضا مستقلا بذاته لم يقصد به سواه.
وبما أن الطبيعة كانت ملهمة للفنون المختلفة دائما خاصة للشعراء وفضلاعن ذلك ترافق الشاعربجمالها ومظاهرها طول حياته، ويستوحي الشاعر منها عناصر تجربته الشعرية كان وصفها منذ القديم عنصرا مهمّا طرقه کثیرون من الشعراء واتسع المجال فيه ولم يخل منه ديوان أي شاعر منه.
عالج الشعراء وصف الطبيعة في القرون المختلفة وأمعنوا في مظاهرها بالأوصاف المتنوعة، وتخللت أبياتهم لوحات جميلة من الصور التشبيهية والإستعارية التي استمدوها من الطبيعة.
وهذا المقال يهدف ذلك من خلال أشعار الجاهلييين والأمويين والعباسيين مع شيئ من المقارنة في هذه العصور.

الکلمات الدلیلیة: الوصف، الإبداع الشعري، وصف الطبیعة، الصور التشبيهية، أشعار الجاهلييين.

المقدمة

الوصف في اللغة هو:" وصَف الشيءَ له وعليه وصْفاً وصِفة ً: حَلاَّها [1] "والوصف جزء من منطق الإنسان،لأنَّ النّفس محتاجة من أصل الفطرة الی ما یکشف لها من الموجودات ویکشف للموجودات منها، ولایکون ذلك الاّ بتمثیل الحقیقة وتأدیتها إلی التصوّر في الطریق السمع والبصر والفؤاد " [2] .وقد تعرض ابن الرشيق في أثناء حديثه عن الوصف الذي قال عنه بأن أكثر الشعر يرجع إليه إلى تفاضل الناس في الوصف وإلى أهم موصوفاته أوموضوعاته على عهد المولدين فقال: " الأولى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما مشاكلها وما كان مناسبا لهما كالكؤوس والقنان والأباريق ،وباقات الزهر، إلى ما لابد منه من صفات الخدود والقدود و... ، ثم صفات الرياض والبرك والقصور وما شاكل المولدين ، فإن ارتفعت البضاعة ، فصفات الجيوش وما يتصل بها من ذكر الخيل والسيوف والرماح والدروع والعصي والنبل ، إلى نحوذلك من ذكر الطبول والبنود وليس يتسع بنا هذا الموضوع لإستقصاء ما في النفس من هذه الأوصاف " [3] .ویشیرأحمدالهاشمي في کتابه عن الوصف ،"الوصف،هوشرح حال الشيء وهیئته علی هوعلیه في الواقع لإحضاره في ذهن السامع کأنّه یراه أویشعربه". [4] وأیضاً یقول:"الوصف،عبارة من بیان الأمر بإستیعاب أحواله وضروب نعوته الممثلة له وأصوله ثلاثة: الأول:أن یکون الوصف حقیقیتاً بالموصوف مفرزاً له عمّا سواه،الثاني: أن یکون ذا طلاوة ورونق. الثالث: أن لایخرج فیه إلی حدود المبالغة والإسهاب ویکتفي بما کان مناسباً للحال وأنواعه کثیرة ولکنّها ترجع إلی قسمین وهما وصف الأشیاء ووصف الأشخاص أمّا الأشیاء الحریّة بالوصف فهي کالأمکنة والحوادث ومناظرالطبیعة. أمّا وصف الأشخاص فیکون بوصف الصّورة أوبوصفهما معاً." [5]
هناك تعریف آخر عن أنواع الوصف ،"والوصف في کلّ شيء نوعان : خیالي وحسيّ . فالوصف الخیالي یعتمد التشبیه والإستعارة ویحاول أن یستحضر الموصوف من الذاکرة . أما الوصف الحسي فهوتصویر للموصوف .

ولاریب في أنّ الوصف الحسي أبلغ وأجود وأندر وأکثر صعوبة من الوصف الخیالي" [6].

وقد عُرف الوصف منذ عُرف الشعر العربي ، وفي رأي صاحب العمدة نرى أن "الشعر إلا أقله راجعٌ إلى باب الوصف" [7] والشاعر الذي يُظهرمقدرة فنية في نقل صور موصوفه وتجليتها وتوضيحها للسَّامع يكون ذلك دليلاًعلى تفوّقه وبراعته ، ومدى دقّته ومهارته في فنّ الوصف "فأحسنُ الوصف ما نُعت الشيءُ حتى تكاد تُمثله عينًا للسامع" [8] كما قال حنّا الفاخوري:
" والوصف هوذکر أقسام الشي ء وشرح هیئته لإحضاره فـي ذهن السامع " [9]
فالوصف في المعجم العربي هوالتجسيد والابراز والإظهار وفي التراث النقدي العربي يقول قدامة بن جعفر في الوصف: "إنما هوذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات" [10]

إن كل الأجناس الأدبية كالقصة والرواية والشعرلم تستغن عن الوصف.فالأدب العربي منذ القديم عرف الوصف، وشعراء الجاهلية مارسوا الوصف في نظمهم لقصائدهم سواء وصف الحبيبة أووصف الأطلال أووصف المعارك و... إلخ.
قال ابن رشیق : أبلغ الوصف ما قلب السّمع بصرا والشعراء يتفاوتون في مقدار براعتهم في الوصف ، فهناك من يستطيع إجادة الوصف غير أنَّه يشتهر بوصف شيء بعينه، وذلك لعلمه به وشدة اتصاله منه . يقول الرافعي في هذا المنطلق:"وقد يُشارك في أوصافٍ كثيرة لكنه ينفرد بالشهرة في بعضها ، من جهة العلم لا من جهة الصناعة، فكلما کان أعلم بأجزاء الموصوف وحالاته، وأقدر على استقصاء هذا العلم في شعر، إنه أبلغ في الوصف وأولى بالتقديم [11]
"یقسم الأدباء الوصف الی قسمین :وصف الظواهر الطبیعیة التي هي من خلق الله القادر المبدع ، ووصف الآثار الإنسانیة التي هي من صنع الإنسان الحاذق المخترع ،ومن إخراج الید الصّناع ، ثمّ هم یتناولون الظواهر الطبیعیة فلا یجدونها متماثلة في جمیع الخصائص، فیعقدون بینها موازنة تنتهي إلی تقسیمها قسمین : الظواهر المتحرّکة، وهي کل ما یجري فیه ماء الحیاة وینبض بالحرکة: من حیوان أليف کالناقة والفرس، والکلب والمعز والغنم، أووحش مفترس کالأسد والذئب والحشرات والهوام.

والظواهر المتحرکة إمّا خارجیة کهذا الّذي قدمنا أمثلة له، ویسمیه الغربیون الوصف الموضوعي، وإمّا داخلیّة، فهي تلك التي تمثّل أحوال قاتلها، فتصف خواطر نفسه، أوخفقات قلبه، تقرّح کبده، أوتحرق فؤاده، أوهجسات وجدانه، أوهمسات شعوره، أولمحات أفکاره، أوومضات إنسانه، إلی آخرما یصوره من تلك التموجات النفسیة، والإهتزازات العاطفیّة، وهوالوصف الذاتي . والظواهر الساکنة، وتنصرف إلی کلّ ما تشتمل السموات والأرض من أجرام وکواکب ، وجبال وصحاري، ووهاد ونجاد، وبحار وأنهار، وما ینشأ عن هذه وتلك من مد وجذر، وبرق ورعد، وغیث ومطر، وزلازل وبراکین، وزعازع وأعاصیر " [12].

إن الوصف أثر الطبیعة في النفس ، وتصویر فعل الظواهر في الخاطر ، فلابدّ أن یکون بلغة أرقی، أسلوب أکثر اتساقا ، وأعظم إنسجاما من سواه ، وهوالشعر" [13]

وصف الطبیعة في العصرالجاهلي

الوصف أحد الأغراض التي برع فيها الشعراء الجاهلیون في أکثر أشعارهم. فالشاعر الجاهلي یرحل فيصف الرحلة وصفاً دقيقاً، وهويمر بالصحراء الواسعة فيصورها تصويراً بارعاً، يصف حرارتها في القيظ وما فيها من السراب الخادع، ويصف برودتها في الشتاء، ويركب فرسه للنزهة أوللصيد فيصفه. أغراض الوصف في الشعرالجاهلي کثیرة منها [14]

1- وصف الأطلال: یأتي الشاعر لزیارة حبیبته فیجدُ أهلها قد رحلوا بها عن المکان الّذي عهدهم نازلین فیه، فیقف علی طلل الخیمة (المکان الّذي کانت الخیمة منصوبة فیه) فیصفه ویصف ماحوله وینسِب بالحبیبة ویتوشق الیها.

2-وصف الراحلة: وکذ لك یصف الشاعر الراحلة أوالمطیة (الناقة أوالفرس) الّتي یرکبها للوصول إلی الحبیبة أوالمدح.

3- وصف الصید: وتصید الجاهلیین لسببین: إمّا طلباً للمعاش کما کان یفعل الصعالیك العرب ،أوطلباً للهوکما کان یفعل امرؤالقیس، أولأنّه کان یخرج في حاشیة الملوك الـّذین یذهبون إلی الصید کالنابغة .
وقد برع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس وإعداده للصيد، ونجد ذلك عند امرىء القيس وأبي دؤاد الأيادي، يقول أبودؤاد:

فلما علا مَتـْنَتَيْهِ الغُـلامُ وسَكَّن من آلهِ أن يُطـَارا
وسُرِّ كالأجْدلِ الفَارسـ يِّ في إثْرِ سِرْبٍ أَجَدَّ النَّفَارا
فـَصادَ لَنَا أَكحَلَ المُقْلَتَيْـ ن فَحْلاً وأُخْرى مَهَاةً نَوارَا

وقد رسّم الشعراء المعارك التي تحدث بين كلاب الصيد وثيران الوحش وبقره وحمره، ووصف الليل، طوله ونجومه وقد برع في ذلك امرؤ القيس، كما وصفوا الأمطار والبَرَدَ وشدة البرد نجد ذلك عند النابغة وأوس بن حجر الذي يقول [15]

دَانٍ مُسِفٍ فُوَيْقَ الأرْضِ هَيْدَبُهُ يَكَادُ يَدْفَعُهُ من قَامَ بالرَّاحِ

وقد وصف الشعراء الرياض والطيور وقرنوا الغراب بالشؤم وما ترکوا شيئاً تقع عليه أبصارهم إلا وقد أبدعوا في وصفه. وهذا هوعنترة يصف ذباباً في روضة: [16]

وخَلاَ الذُّبَابُ بِهَا فَلَيْسَ بِبَارِحٍ غَرِداً كَفِـعْلِ الشّـارِب المُتَرَنِّـم

هَزِجاً يَحُكُّ ذِرَاعَهُ بذرَاعِهِ قَدْحَ المُكِبِّ على الزّنادِ الأجْذَمِ

والشاعر في هذا البيت:يشبه الذباب عندما يقع على الروض برجل أجذم يحاول إشعال النار بيديه.
ومن الشعراء الذين برعوا في شعر الطبيعة امرؤالقيس، طرفة بن العبد وزهير بن أبى سلمى. هذا هوامرؤالقيس الذي یرسم مشهد السرعة في فرسه لیصوّر شدّة سرعته ويجعلنا أمام جلمود من الصخر دفعه السيل من أعلى الجبال ویندمج الكر بالفر والإقبال بالإدبار معتمدا على الانفعالات الحسية:

مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل

لكن هذا الوصف ظل حسيا جزئیّا على المشاهدات والمرئيات دون أن یمتزج الشاعر فيما يصف وتخطلت إحساساته بما یشاهد ويعيش بوجدانه فيما حوله، ورغم هذه المادة التصويرية المكثفة لا نجد مشاركة الطبيعة في أحاسيس الشاعر مشاركة وجدانية صادقة.

فغرض الوصف في هذا العصر غرض ليس مقصوداً لذاته وإنما يأتي في عرض القصيدة ليتوصل الشاعر إلى أغراضه الرئيسة من المدح أوالهجاء أوالرثاء أوالفخر.

والبیئة من العوامل التي تثير قريحة الشاعر، وتحثه علی الإبداع، يروي ابن قتيبة «أنه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمکان الخضرالخالي» [17]. الشعراء الجاهليون ذکروا النبات، وکثرة الماء فی أشعارهم، وکان الشاعر الجاهلي يبدأ قصيدته بالأطلال، ويذکر الرحلة التي يصف من خلالها کل ما يراه فی طريقه، وکأن هذه الرحلة کانت وسيلته للخلوة والاندماج مع الطبيعة لإتمام عملية الإبداع بأحسن صورها.

وبدا الشعراء الجاهلیون بوصف الرياض والأزهار والبساتين وأفردوا بابا خاصا بشعر الطبيعة وکثر وصف الطبيعة وتغيرت النعوت التي استخدمها العرب في‏ أشعاره.

نذکر هنا بعض الأعلام والأوصاف الطبیعة کالریاض والأزهار في الشعر الجاهلي، یذکر یاقوت [18] مائة وست وثلاثين روضة واسترعی الجاحظ ذکر الشعراء لرطوبة النبات وما یجري في دیارهم من خصب بعد مطر نزیر، [19] وکانت بعض الریاض تشیر إلی المواضع أوالأقوام، والشعراء یذکرون بعضها في أشعارهم. یذکر طرفة روضة دعمي. [20]

لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح کباقي الوشم في ظاهرالید
فروضة دعمي ّفأکفاف حائل
ضللت بها أبکي وأبکي الی الغد
وقد قال الأعشی في روض التناضب [21]
 
ملیکیــّة جاورت بالحجا
زقومـــا عداة وأرضا شطیـــــرا
 
بما قد تربع روض القطــا
وروض التناضب حتــی تصیـــرا
یذکر لبید ریاض الأعراف [22]
هلکت عامر فلم یبق َ منها
بریاض الأعراف إلاّ الدیار

لم یذکر الشعراء الأزهار في أشعارهم إلّا قلیلا منها لقلتها في جزیرة العرب وأیضا بسبب العوارض الطبیعیـة القاصیة التي تمرّ بها بهذا السبب. تصویر الأزهار في أذهان الشعراء لیس واضحا، یصوّر الشعراء الأقحوان بالثغور، بسبب بیاضه، وقد یقترن وصفهم للثغوربصورة الإبتسام والضحك. وکثیرا ما کانت تندمج أوصاف الثغر والأسنان والبیاض في تشبیهاتهم وقال طرفة یصف ثغر صاحبته: [23]

تضحك من مثل الأقاحي حوی
من دیمة سکب سماء دلوح
كما یقول الأعشی: [24]
 
وتضحك عن غرّ الثنایا کـأنـّه
ذُرَی أقحوان نبتُهُ متناغم ُ

وصف الطبیعـــة في صدر الإسلام والثقافــة الاُمویــّة

نظرا لنزوح العرب من حياة الصحراء وحياة الحضارة الجديدة فقد بقي عالقا في أذهان الشعراء مجال الصحراء وما تحمله من ذكريات بما فيها من خيام ونوق وخيول وحيوانات ونجوم. وبقي كثير من الشعراء يفضل حياة الصحراء على حياة المدن كما عند الفرزدق عندما قارن بين طبيعة الصحراء ونهر وجبل وبين الناقة في تلك الصحراء والسفينة في نهر: [25]

لفلح وصحراواه لوسرت فيهما أحب إلينا مــــن دجيل وأفضل
وراحلة قد عوّدوني ركوبهـــــا وما كنت رعابا لها حين ترحل
قوائمها أيدي الرجال إذا أنتجت وتحمل من فيها قعودا وتحمل
إذا ما تلقاها الأواذي شقهــــــــا لها جؤجؤلا يسترع وكلكـــل
إذا رفعوا فيها الشراع كأنهـــا قلوص نعام أوظليم شمردل

ويعد الشاعر ذوالرمة من أكبر الشعراء الذين عشقوا الصحراء وأيامها وما فيها ورأى ما في الصحراء مسلاة في إطار ذكره لمية تلك المرأة التي أفلتت من يده فجعلته يذوب في رمال الصحراء، يقول ذوالرمة في وصف حيوان الصحراء بظبية وابنها عاكسا عواطف الإنسان عليهما :

إذا استودعت صفصفا أوصريحة تنحت ونصت جيدها بالمناظر
حذارا على وسنان يصرعه الكرى بكل مقيل عـن ضعاف فـواتـر
وتهجره إلا اختلاسات نهارهـــــــا وكم من محب رهبة العين هاجر [26]

اهتم الأخطل الشاعر الأموي بتصوير الروضة في أشعاره: [27]

ما رَوْضَةٌ خضراءُ، أزْهَرَ نَوْرُهَا بالقَهْرِ بيْنَ شقايقٍ ورِمَالِ
بَهِجَ الربيعُ لها، فَجَاد نَباتُهَا ونَمَتْ بأسْحَمَ وابِلٍٍ هَطّالِ
حتى إذا التفّ النباتُ، كأنّهُ لَوْنُ الزّخارِفِ، زُيّنتْ بصِقَالِ
نَفَتِ الصّبَا عَنْها الجَهَامَ وأشرقَتْ للشّمْس، غِبّ دُجُنّةٍ وَطِلاَلِ
يَوْماً، بأمْلَحَ مِنْكِ بهجة منطقٍ بَيْنَ العَشِيّ وساعةِ الآصالِ

إنّ حديث الروضة في الشعر الأموي يكاد يكون بعامة متشابهاً وإن اختلف في تفصيلاته بين زيادة ونقصان تبعاً لعدد الأبيات التي ابتناها التشبيه الدائري، فالشاعر يصف الروضة ويذكر مكانها وزمان الحديث عنها، والعناصر التي تسهم في إبراز جمالها، ثمّ يقيم المقارنة بين طرفي التشبيه فيما اصطلح على تسميته بـ(القفل). إلاّ أنّ بعض الشعراء یتکلّمون عن الروضة، مكتفياً بوصف نباتها وذكر مكانها والعناصر التي أسهمت في إخصابها، ثمّ يأتي إلى القفل مقارناً بين طرفي التشبيه، وبهذا يكون قد أسقط زمان الحديث عنها.

وصف الطبیعـــة في الثقافة العباسیة

أصبح الوصف في هذا العصر فنا مستقلا بفعل الطبيعة الغنية بالجمال، وإضافة إلى المظاهر الحضارية التي عنى بوصفها الشعراء كالمطر والسحب والحدائق والقصور والبرك والطبيعة في فصل الربيع ووصفوا المعارك الحربية خاصة مع الروم .
إن التطور الذي عرفه الوصف في العصر العباسي استهدف أسلوبه ومعناه ولفظه، إلا أن هذا لا يعني أن موضوع الوصف قد تخلص كلية من الطريقة التقليدية، بل لبث في بعض نواحيه يساير مواضيع الوصف القديم كوصف الإبل والنياق والذئب والطير والبقر الوحشي وغيرها .

والشاعر في هذا الغرض بعد أن كان يحلق ببصره في ربوع تهامة ونجد والجزيرة وما تحويه من فيافي وقفار ووهاد موحشة ومظاهر أخرى هي وليدة البيئة العربية الخالصة كالخيام المضروبة هنا وهناك، وما كان يحيط بها من شياه وخيول،أصبح بعد التحول الذي طرأ على المجتمع العربي المتنقل من حياة البداوة والترحال إلى حياة التمدن والاستقرار، يرفل في ألوان المدنية وينعم بضروب الترف والبذخ ، ويلهوبمسرات الدنيا وطيباتها.
من الموضوعات التي دار حولها الوصف عند أكثر من شاعر في هذا العصر وصف الخمر والغناء ووصف مجالسهما وآلاتهما، وجاهروا بالدعوة إلى ممارسة ذلك وبالغوا في الأمر مما نجم عنه الاستهتار بالدين .فأبونواس جاهر بالخمر والدعوة إليها فيقول [28]

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة فإن طال هذا عنده قصر العمر
وما الغبن إلا أن تراني صاحيا وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
فبح باسم من أهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
وقال في قصيدة أخرى [29]
لا تبك لیلی ولا تطرب إلى هند واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت من حلق شاربها أجدته خمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة من كف لؤلؤة ممشوقة القد
تسقيك من طرفها خمرا ومن يدها خمرا فمالك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي

وأخذ الشاعر العباسي يصف الطبيعة في الحاضرة ببساتينها ورياحينها، وقد أخذ يخص هذه الطبيعة بمقطوعات وقصائد كثيرة حيث أصبحت موضوعا جديدا واسعا، وكان يمزج نشوته بها في بعض الأحيان بنشوة الحب أونشوة الخمر وسماع القيان وفي كثير من الأحيان كان يقف عند تصوير فتنته بها وبورودها ورياحينها من مثل قول إبراهيم بن المهدي في النرجس:

ثلاث عيون من النرجس على قائم أخضر أملس

يذكرنني طيب ريّا الحبيب فيمنعنني لذة المجلس

وقد أكثروا من وصف الأمطار والسحب ووصف الرياض خاصة في الربيع، وعبروا عن أحاسيسهم ومشاعرهم أحيانا خلال هذا الوصف ، ومن خير ما يصور ذلك مخاطبة مطيع بن أياس لنخلتي حلوان [30]:

أسعداني يا نخلتي حلوان وأبكيا لي من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل رق بين الألاف والجيران
ولعمري لوذقتما ألم الفر قة أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني وأيقنا أن نحسا سوف يلقاكما فتفترقان
كم رمتني صروف هذي الليالي بفراق الأحباب والخلاّن

يعالج الصنوبري الطبيعة وأوصافها باللون والحركة واستنطاق مشاهدها بصور رائعة وكلمات جميلة في التعبير وهوفي روضياته يرسم معرضا فنيا بتشخيص المشاهد وإحياء المرئيات.
يقول الصنوبرى واصفا معركة الأزهار: [31]

خجل الورد حين لاحظه النرجس من حسنه وغار البهار
فعلت ذاك حمرة، وعلت ذا صفرة واعترى البهار اصفرار
وغذا الأقحوان يضحك عجبا عن ثنايا لثامهن نضار

ونرى شعراء كثيرين يعنون بوصف مظاهر الحضارة العباسية المادية وما يتصل بها من الترف في الطعام والتأنق في الملابس والثياب ووصف القصور وما حولها من البساتين وما يجري فيها من الظباء والغزلان. وأكثروا من وصف الحيوان والطير والحشرات، واشتهر بذلك خلف الأحمر وجهم بن خلف وفي كتاب الحيوان للجاحظ من ذلك مادة وافرة .

وفي العصر العباسي، تحول الشاعر في وصفه عن البداوة والصحراء إلى وصف مظاهر الحضارة، كالرياض وبرك الماء، وموائد وصنوف الطعام والشراب المستحدثة، والملابس والقصور وانصرف الشاعر العباسي عن وصف الظباء والغزلان في بيئاتها الصحراوية، إلى وصفها في بيئات متحضرة، كالقصور والبساتين. ولا شك أنَّ ما أوتيه الشاعر العباسي من ثقافات، فضلاً عن اتساع آفاق الحياة، قد أمدّه بقدرة أكبرعلی التخيّل والتصوير.
الوصف یمثل دوراً اساسیاً في الشعر العباسي ،لأنّه عمود الشعر في أدب هذا العصر،"بل إنّ کلّ أغراض الشعر وصف، فالمدح وصف نبل الرجل وفضله ، والرثاء هووصف محاسن المیت، وتصویر آثاره وأیادیه، والهجاء وصف سوءات المهجوّ، وتصویر نقائصه ومعایبه، وهکذا نستطیع أن ندخل جمیع فنون الشعر تحت الوصف، فهوعلی هذا الوضع کالدوحة المتفتة الأغصان، الفارعة الأفنان، المترامیة الظلال ،ولکننا نریده مستقلا بذاته،محدود المعالم عن سواه. [32]

وأخيرا لابد من القول أننا إذا حاولنا أن نلقي نظرة على الوصف في الشعر الجاهلي وجدناه منصرفا إلى مظاهر الطبيعة الخارجية سواء كانت هادئة كالصحراء والرمال والجبال وما شاكل ذلك، أوكانت حية متحركة كالإبل والخيل التي كان الجاهليون يركبونها ويولونها أهمية كبرى، نظرا لأنها دواب كانت ترافقهم في السلم والحرب والسفر، وكانت مطيعة خاضعة لرغباتهم وإرادتهم، كما نقرأ في قول عنترة:

سلس العنان إلى القتال فعينه قبلاء شاخصة كعين الأحول

ويستمر الوصف على هذا المنوال، بعد مجيء الإسلام وفي عصر الأمويين، حتى إذا كان العصر العباسي وتنوعت مظاهر الحضارة والترف، اتجه الوصف إلى هذه المظاهر الحضارية فوصف الشعراء القصور والسفن والمنشآت المختلفة، كما ركزوا على وصف المعارك التي أبلى فيها المسلمون بلاء حسنا، وتمكنوا بها من قهر أعدائهم والتنكيل بخصم الديانة الإسلامية. كما تطور في هذه المرحلة وصف الخمرة والعناصر التي تستخرج منها كالعسل والنخل والكرم. ولعل من أشهر الأسماء في هذه الفترة أبا تمام والمتنبي وأبا نواس والبحتري وأبا فراس وابن الرومي والصنوبري .

اتسع مجال الشعر والنثر في العصر العباسي،اتّساعا واسعا في هذه الفترة المتألقة من حضارة العرب. فتكاثرت الموضوعات التي تناولها الشعراء فضلاً عن الأغراض الشعرية التي نظموا فيها. من ذلك توسعهم في وصف مشاهد الطبيعة المختلفة، مثل وصف الربيع لأبي تمام : [33]

رقتْ حواشي الدهرُ فهيَ تمرمرُ وغَدَا الثَّرَى في حَلْيِهِ يَتكسَّرُ
نَزلَتْ مُقَدمَة ُ المَصِيفِ حَمِيدة ً ويدُ الشتاءِ جديدة ُ لا تكفرُ
لولا الذي غرسَ الشتاءُ بكفهِ لاَقَى المَصِيفُ هَشَائِماً لاتُثْمِرُ
كمْ ليلة ٍ آسى البلادَ بنفسهِ فيها ويَوْمٍ وَبْلُهُ مُثْعَنْجِرُ
مَطَرٌ يَذُوبُ الصَّحْوُ منه وبَعْدَه صَحْوٌ يَكادُ مِنَ الغَضَارة يُمْطِرُ
غَيْثَانِ فالأَنْوَاءُ غَيْثٌ ظاهِرٌ لكَ وجههُ والصحوُ غيثٌ مضمرٌ
وندى ً إذا ادهنتْ بهِ لممُ الثرى خِلْتَ السحابَ أتاهُ وهومُعَذرُ
أربيعنا في تسعَ عشرة َ حجة حَقّاً لَهِنَّكَ لَلرَّبيعُ الأزْهَرُ
ما كانتِ الأيامُ تسلبُ بهجة ً لوأنَّ حسنَ الروضِ كانَ يعمرُ
أولا ترى الأشياءَ إنْ هيَ غيرتْ سَمُجتْ وحُسْنُ الأرْضِ حِينَ تُغَيَّرُ
يا صاحِبَيَّ تَقصَّيا نَظرَيْكُمَا تريا وجوهَ الأرضِ كيفَ تصورُ
تريا نهاراً مشمساً قد شابهُ زهرُ الربا فكأنما هومقمرُ

الصنوبري من الشعراء الّذین أمعنوا بوصف الطبیعة في العصر، ومن روائع شعره في وصف الربيع
قوله: [34]

ياريم قومي الأن ويحك فانظري
ماللربى قد أظهرت اعجابها

كانت محاسن وجهها محجوبة
فالآن قد كشف الربيع حجابها

ورد ٌبدا يحكي الخدود ونرجس
يحكي العيون إذا رأت احبابها

وفي هذة الفترة من تاریخ الأدب العربي ازدهر الشعر الوصفي في مصر والشام أيضا، حيث اتـّسع فن وصف الطبيعه، وكانت الصياغه الفنية تعتمد اعتماداً كلياً على المحسنات البديعية وإهتمّ الشعراء العباسیون بتصوير الجانب المادي من الثقافة الحدیثة، وکثرت الموضوعات الوصفية فشملت جميع مظاهر الحياة عندهم، حتى إننا نرى الشعراء يسجّلون الحياة داخل البيوت والقصور وما فيها من وسائل اللهووالتسلية، بل انهم يصفون وسائل الثقافة والمدنیــّیة في عصرهم .

فهرس المصادر والمراجع

  1. .الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة العاشرة، دار العلم للملايين، بيروت، 1992 م .
  2. الاغاني،لابي الفرج الاصبهاني ،تحقیق ابراهیم الأبیاري ،دار الشعب ، 1969م ،بمصر.
  3. تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي،الطبعة الثانیة (1394ه-1974م)، دار الكتاب العربي بيروت-لبنان،الجزءالثالث.
  4. تاريـخ الأدب العربي ، حنّا الفاخوري، 1951 الطبعة الأولى - دراسة فنون المعلومات، جلال يونس الخوالدة، 2008.
  5. تاریخ الأدب العربي، عمر فروخ الجزء الأول، عدد المجلدات 1.
  6. تاریخ الادب العربي، الدکتور شوقي ضیف، دار المعارف، عدد المجلات 1.
  7. جواهرالأدب في ادبیات والإنشاءلغة العرب، لأحمد الهاشمي ،الطبعة الثالثة عشرة (1341ه- 1923م)،مطبعة المقتطف والمقطم بمصر.
  8. الحیوان، للجاحظ، تحقیق عبد السلام هارون، ط ،الحلبي، القاهرة 1943 .
  9. الديوان، لإمرءالقیس، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ، ط ، دار المعارف،1958.
  10. ديوان الصنوبري أحمد محمد بن الحسن الضبي تأليف: أحمد بن محمد بن الحسن بن مراد تحقيق: محمد نبيل طريفي.
  11. الدیوان، لأبي تمام، شاهین عطیة، طبع في المطبعة الأدبیة في بیروت سنة 1889.
  12. الدیوان، لأبي نواس،شرح ضبطه،الاستادعلي فاعور، الطبعة الثانیة ،(1414هـ- 1994م) دار الکتاب العلمیة، بیروت ،لبنان.
  13. الدیوان، للأعشی، شرح وتعلیق للدکتور محمد حسین ، ط ،القاهرة،1950 .
  14. الدیوان،لأوس بن حجر،تحقیق وشرح محمد یوسف نجم، ط،بیروت ،1960 .
  15. الديوان، لذي الرمة، غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي،1919.
  16. الديوان، للفرزدق، همام بن غالب بن صعصعة ت114ه)، دار صادر، بيروت، ج 2.
  17. الدیوان، للطرفة بن العبد، تحقیق الدکتور علي الجندي ،ط، الرسالة – 1958، الدیوان ضمن مجموعة الأعلم الشنتمري.
  18. الديوان، للعنترة، تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م.
  19. الدیوان، لللبید، تحقیق الدکتور إحسان عباس ، ط ، الکویت ،1962.
  20. الشعر والشعراء، ابن قتيبه،أبومحمد عبدالله بن مسلم الدینوري ،ط ، بیروت، 1964.
  21. العمدة في صناعة الشعروآدابه ونقده، لابن الرشيق ج2، تحقيق محمد محييالدين عبدالحميد، بيروت، دارالجيل، الطبعة الرابعة.
  22. معجم البلدان،أبوعبدالله یاقوت بن عبدالله الرّومي، ط ، لایبزیک، 1866.
  23. الوصف في الشعر العربي، عبدالعظيم قناوي، نشر مكتبة مصطفى الحلبي، الطبعة الأولى، 1368هـ- 1929م .
  24. نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، ط3، القاهرة1979م.

بسم الله الرحمن الرحيم

إعداد: رحمان بشـار

الماجیستیرفي قسم اللغة العربیة وآدابها

بجامعة آزاد الإسلامیة - کرج .


[1لسان العرب،لابن منظور،مادة وصف

[2تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، ص119

[3العمدة في صناعة الشعروآدابه ونقده، لابن الرشيق ج2، صص295-296

[4جواهرالأدب في أدبیات وإنشاء لغة العرب، لأحمد الهاشمي ،ص343

[5المرجع نفسه ص 265

[6تاریخ الأدب العربي،عمرفروخ ،ج1 ص 81

[7العمدة في صناعة الشعر وآدابه ونقده،ج2 ص295

[8المصدر السابق،ج2 ص294

[9تاريـخ الأدب العربي، حنا الفاخوري ، ص 41

[10قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص- 118- 119

[11تاريخ آداب العرب،ج ٣، صص121-122

[12الوصف في الشعر العربي، عبدالعظيم قناوي، ص54

[13المرجع نفسه، ص 43

[14تاریخ عمر فروخ ،الجزء الأول، ص 80

[15ديوان أوس ابن حجر، ص 15

[16شرح القصائد التسع 2/477

[17الشعر والشعراء، ابن قتيبه، ص 38

[18معجم البلدان ،2 /840

[19الجاحظ ، الحیوان ،3/ 119- 122

[20طرفة، الدیوان، 169

[21الأعشی، الدیوان / 85

[22الدیوان، ص44

[23الدیوان / 169

[24الدیوان، ص 77

[25الديوان، للفرزدق، ج2، ص 85

[26ديوان ذي الرمة، ص 98

[27شرح ديوان الأخطل، ص 550

[28انظر الدیوان، لأبي نواس، شرحه ضبطه،الأستاذ علي فاعور، ص 201

[29المرجع نفسه، ص 149

[30الأغاني 12/ 86

[31ديوان الصنوبري أحمد محمد بن الحسن الضبي تأليف: أحمد بن محمد بن الحسن بن مراد تحقيق: محمد نبيل طريفي

[32الوصف في الشعر العربي، عبدالعظيم قناوي، صص42-43

[33دیوان، ص 139- 14

[34شعر الطبیعة، سید نوفل، ص204


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى