الاثنين ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
قراءة نقديّة تحليلية، استطرادية
بقلم كريم مرزة الأسدي

وصيّة أبي تمّام لتلميذه البحتري

الشعر لسان، واللسان عنوان؛ لِما في النفوس من كتمان، سلاح ذو حدين، إمّا أنْ يرتفع به الشأن، أو يزري بصاحبه للذل والهوان، وكم رأس حصيد هذا اللسان، إذا ما سلـّط الله عليه السلطان أو الأعوان عندما يخلع الإنسان من ضميره الوجدان، والشعر طبعٌ وصنعٌ، وإذا غلب الطبع قد تزل به قدم في وقت لا ينفع به الندم، وربّما يأتي ركيكاً فيُهمل، أو أحمقاً فيقتل، يرتفع على كتفه اسم، ويغيب من أفقه نجم، تعقد لأجله المناظرات والنقائض والمعارضات في مجالس الخلفاء والملوك، وتقام له الأسواق كعكاظ والمربد و ذي المجاز و مَجنَّة وهجر، يحضرها الفحول للاستماع إلى الناشئة الصاعدين، والتحكيم بين المتسابقين في دواوين شعبية، تحتضنها القبائل العربية،فكان للشعر دور لايشق له غبار، إلا من قبل الكبار، ومن هنا يجب علينا التأمل والتمعن وأنْ نرى لِما روى أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي البحتري (ت 284 هـ/ 897 م)عن وصية أستاذه أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 228 هـ / 843م) قائلاً:
"كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي: يا أبا عُبادة؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا، والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ. فإذا أَخَذْتَ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِ. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ ترشد إن شاءَ اللهُ. قالَ: فأعملتُ نَفْسي فيما قالَ؛ فوقفتُ علَى السياسةِ.".(1)

مما نستشفّ ُ من الوصية الطائية اللؤلؤية أنّ البحتري من المطبوعين يعتمد على موهبته الخالصة في نظم الشعر ابتداءً، وأستاذه أبو تمّام يميل إلى الصنعة والتأمل والزخرفة وتحكيم العقل تجربة ً، فأوصاه بها لكي لا ينحدر الشاعر للهاوية دون قيدٍ يقيه، أو سدٍّ يحميه، وأقرّ الموصى له بعمله بها حتى وقف على السياسة، والسياسة تقتضي اختيار الوقت المناسب للإبداع بحيث يكون الشاعر متهيّئاً نفسياً وفكرياً وخلقياً لصبِّ خوالج وجدانه العاطفية، وخالياً من انفعالاته النفسية الشخصية؛ إذ هو"قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُموم"، وبالتالي لا تطغي سوداويته على الوجه الأبيض المنير للشعر السليم، ثم يتطرق الأستاذ الشاعر الناقد إلى ضوابط غرضين من الأغراض الشعرية، وهما الغزل والمدح، وتغاضى أبو تمام عن الهجاء والرثاء، ففي الهجاء منافرة لا مقاربة، والرثاء فراق لا يأمل اللقاء، والشاعر يكون أقرب إلى الصدق فيهما من الكذب، والشعر يغني كذبُهُ عن صدقه، كما يقول البحتري نفسه!!
يجرّني السيد البحتري البرجوازي الارستقراطي الانتهازي إلى كذب الشعراء في مديحهم والحديث شجون!!

يقول عبدان بن عصمان العاطفي السلـّمي في هذا المعنى:

وقالوا في الهجاء عليك إثم
وليس الإثم إلا في المديح
لأني إن مدحت مدحت زوراً
وأهجو حين أهجو بالصحيح (2)

ومن غرائب شعر ابن زيدون (ت 463 هـ) قوله في هذه القصيدة الفريدة التي يهجو بها أبا الحزم بن جهور مؤسس الدولة الجهورية، والشاعر من أركانها، وباني ملكها، ولكن عندما خلعه الأمير من كرسي الوزراة الأولى، و أودعه السجن، قال فيها:

قل للوزير، وقد قطعت بمدحه
زمني فكان السجن منه ثوابي
لا تخش في حقي بما أمضيـتـه
من ذاك في، ولا توق عتابي
لم تخط في أمري الصواب موفقاً
هـــــذاجزاء الشاعر الكذاّبِ

و ابن الرومي (ت 283 هـ) قد تجرأ في لحظات سخط على هجاء السيد البحتري بقصيدة بائية مطولة (86 بيتاً)، منها:

البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُـــــــهُ
وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أدبِ
أَنَّى يقولُ من الأقوال أَثْقَبَهَـــــــا
من راح يحملُ وجهاً سابغَ الذَنَبِ
أوْلى بِمَنْ عظمتْ في الناس لحيتُهُ
من نِحلة الشعر أن يُدْعَى أبا العجبِ
وحسبُه من حِباءِ القوم أن يهبــــــوا
له قفــــاهُ إذا ما مَرَّ بالعُصَبِ
ما كنت أحسِبُ مكسوَّاً كَلحيتــــــه
يُعفَى من القَفْدِ أو يُدْعى بلا لقبِ

الله الله يا ابن الرومي، كم أنت مسكين في حياتك البائسة:

هذا الكلام لا يصل إلى باب بيتكم، و لا إلى باب جيرانكم الأحدب، ولما سمع البحتري هذه الملحمة الهجائية الرومية بحقه، كل ما فعله بعث إلى ابن الرومي تخت طعام وملابس، وبه كيس دراهم، ووضع بداخل التخت ورقة، تحمل بيتين من الشعر، تقول:

شاعرٌ لا أهابهُ
نبحتني كلابهُ
إنّ من لا أحبّهُ
لعزيزٌ جوابهُ

هذا هجاء مقذع بما فيه من ألم نفسي، وعقاب للذات الشاعرة، وقد سبق ابن الرومي ابن الزيدون بهذا المعنى، إذ يقول:

إذا ما مدحتُ المرءَ يوماً ولم يثبْ
مديحي، وحقّ الشعر في الحكمِ واجبُ
كفاني هجائيهِ قيـــــــامي بمدحهِ
خطيباً، وقول النـــــــاس لي أنت كاذبُ

وابن الرومي مثله مثلي، قد يكرر نفسه أحياناً لتأكيد المعنى، إذا ارتأى مرّ عابراً، وهذه ما تسمى بظاهرة التعويض في الأدب، مهما يكن قال في مكان آخر:

كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِ
فأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ

نعود للبحتري، والعود أحكم!! أمّا الفخر فالبحتري قليل الفخر، وهذا أمر يخصّه شخصياً - ربّما لأنه جليس المتوكل، وما أراد أن يؤلب على نفسه، أحقاد الخلفاء ومن حولهم، وهذا عقل وحكمة - و إنْ كان الرجل يزهو بنفسه مترنحاً متمايلاً عند الإلقاء، ولله في خلقه شؤون، والحديث شجون وشجون!!

يبقى لدينا - من الوصية - المدح للسادة النجباء، والزعماء والخلفاء، فالرجل يترك للرجل اختيار الألفاظ، فلكلّ مقام مقال، ولكلِّ جسدٍ مقدار، ولكن لابدّ من إشهار المناقب والفضائل والمعالم بإنتقاء الألفاظ الحسنة، وتنضيد المعاني الخيرة دون غلو ٍمحرج، ولا لبس ٍمزعج باجتناب تأويل المعنى المجهول الذي تمتطيه الظنون لتقلب المدح ذمّاً، والخير شرّاً، ومن أراد أنْ يستأنس برأيٍ آخر في توجهاته عن الوصية عليك بمقالة الدكتور عبد الكريم محمد حسين(3)

ومن هنا نفهم تمام الفهم أن جذور تبعية الثقافة للسياسة، والقلم للسيف في بلاد العرب منذ العصر الجاهلي حتى يومنا الحالي، فلا عجب أن نرى أبا تمام ينصب السيف على صدر مطلع قصيدته الرائعة إبان فتح عمورية المعتصم...!!، رغم تفهمي للبيت الذي ورد في المكان المناسب، والزمان الملائم، ولكن يبقى السيف سيفاً، وتبقى الكتب!!:

الـسَيفُ أَصـدَقُ أَنـباءً مِنَ الكُتُبِ
فـي حَـدِّهِ الـحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

ومثله ذهب المتنبي في رفع شأن مجد السيف الخامد على حساب مجد القلم الخالد:

حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي
المجد للسيفِ ليس المجدُ للقلم ِ

ولا أخالك تحسب إن السيف في كلا البيتين موجهاً للداخل، كما هو الحال في أيامنا البائسة، وإنما للدفاع عن الأوطان، وحفظ كرامة الإنسان، لردّ الضيم بالضيم، وهكذا كان ردّ وا معتصماه في عصر الأقوياء...!!

ومهما يكن من أمر، فكرة الخوف من سلطة السيف والتهيب منه مختمرة في عقول سلاطين القلم...!! وإنّ أبا تمّام بقى تابعا لسيف معتصمه، بل أوصى تلميذه الانتهازي المسكين البحتري - وما هو بمسكين...!!- أن يسلك الدرب نفسه، وليترك معاصره البائس ابن الرومي إلى جهنم وبئس المصير...!! لذلك لا تتعجب من البحتري أن يجيب ابن الرومي بالبيتين السابقين (شاعرٌ لا أهابه...)، والتخت وكيس الدراهم الصدقة!!

والمتنبي (ت 354 هـ) ظلَّ تابعاً في مسيرته لسيوف سيف دولته وكافور أخشيده وعضد دولته... وإلا ما هو تعليلك لقوله في مطلع قصيدة، تُعد من أروع قصائده:

واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِـمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُــــبٌّ لِغُرَّتِــــهِ
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ

هذ ه الأبيات قد تبعث على التخيل، أنّها مؤلمة للكرامة الإنسانية، لأنّها جاءت من مأمورٍ لأمير، وليس من صديقٍ قادرٍ مقتدر لصديقٍ يقف معه على قدر الاستواء والمنصب، والأمر والنهي، ولكن هذا - أيضاً - يجب أنْ لا ينسينا أنَّ المتنبي نفسه انتفض على المتنبي قوله، فقلب الطاولة على الأمير وجلسائه بعد عدّة أبيات:

يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَــةً
أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ
وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ
إِذا اِستَوَت عِنــدَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا
بأنني خيـــرُ مــن تسعى به قَدَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبــــي
وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني
وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

كرامة ما بعدها كرامة، ثأر المتنبي العظيم لنفسه، والقصيدة - كما أرى - ولدت هكذا دون تصنعٍ أوتكلف، وإنّما خلجات نفس إنسانية كبيرة، تمتزج فيها تيارات الطبع والتطبع، والثقافة المكتسبة، وتجارب حياة عصرها بكل مثالبها ومحاسنها، ولا أقول بما يُقال: إن سيف الدولة سخط على المتنبي من هذا الشموخ المرتفع بعد مطلعٍ مرتجف، فرأى فيه اضطراباً نفسياً، أو سلوكاً غير سوي من المتنبي، والمتنبي قد عوّده - لكلّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا - أن يفخر بنفسه، ويشمخ في كلّ قصائده التي مدحه فيها، أو قد تأثر هذا (السيف) بما ألّبه عليه مَن في المجلس، فرماه بدواة، وشقّ فمه، فارتجل المتنبي هذا البيت:

إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِــدُنا
فَمــا لِجُــــرحٍ إِذا أَرضــــاكُمُ أَلَــمُ

كلّا هذه الرواية - على أغلب ظنّي - موضوعة، ولا أساس لها من الصحة، لا الأمير يفعلها، ولا المتنبي يقبلها، بدليل عندما توفيت خولة أخت سيف الدولة (352 هـ)، نظم في حقّها قصيدة رائعة، وأرسلها إليه من الكوفة - وكان قد رجع من مصر - من أبياتها الشهيرة:

يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ
كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَـيْ مُؤبَّنَــةً
وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَــرَبِ
غدَرْتَ يا مَوْتُ كم أفنَيتَ من عدَدٍ
بمَنْ أصَبْتَ وكم أسكَتَّ من لجَبِ
وكم صَحِبْتَ أخَاهَا في مُنَازَلَــــةٍ
وكم سألـتَ فلَمْ يَبخَلْ وَلم تَخِبِ
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَـبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشـرَقُ بي

لو كانت ضربة الدواة، لما ولدت هذه القصيدة المعاناة، ولله في خلقه شؤون وشؤون، والحديث شجون وشجون وشجون... لعلكم تتذكرون...!!

(1) (في محاسن الشعر وآدابه ونقده): ابن رشيقٍ القيرواني، تحقيق. محمد محيي الدين عبدالحميد، ط 4، 1972م ج2، ص 114 - 115 - دار الجيل. وراجع: ج1 ص 152 زهر الأداب.

(2) (محاضرات الأدباء): الراغب الأصفهان - 1 / 175 - موقع الوراق - يذكر البيتين، وقبلهما (عبدان) فقط دون ذكر اسم أبيه ولقبه.

(3) راجع للتفصيل مقال"وصية أبي تمام للبحتري"الإسناد والتوثيق، الدكتور عبدالكريم محمد حسين، المجلد 19، العدد (3، 4)، 2003، ص: 21 - مجلة جامعة دمشق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى