الثلاثاء ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠

يوم أخضر

صالح البياتي

رغم ندرة المتع في ايّام حياتها، لم يبق للمرأة العجوز سوى متعة أخيرة..

النخلة العتيدة، وسط الحوش، الذكرى الحية الباقية من زوجها الراحل.

كانت حينما يبهت إيمانها، تستسلم لليأس، فينبهها زوجها لقدرة الله على تغيير المستحيلات الى ممكنات، وأنه القادر أيضًا ان يفعل العكس، فتهدأ نفسها ويقوى ايمانها.

كانت حواسها النائمة، تستيقظ مع طلوع الشمس، يملئ الضوء الدافئ روحها بطاقة خفية، تبعث الحياة في كيانها الهرم، ترى الشُعَاع متوهجاً كالنار، مبتدئاً برأس النخلة، يغشي عينيها ويخترق الحدقتين، فتحجبه بكفيها الموشومتين حتى الرسغين، بالوشم الأزرق، المائل للسواد مع تقدم العمر.

يرسم الشُعَاع بريشته لوحة رائعة، على خلفية خضراء داكنة، ذات لون ناري،
كانت بعد كل صلاة فجر، تقف امام النخلة بنفس لهفة الصلاة، تنتظر الدقائق الخاطفة، لترى النخلة مشتعلة بوهج الشمس المشرقة، اما في الظهيرة فكانت تجلس تحتها تستمتع بظلالها.

تحول حبها للنخلة الى شيء من الطقوس، جرف كيانها الضعيف، في تيار صاخب من الإثارة والجنون، ترى نفسها مقذوفة بقوة ريح، تلفها حول جذع النخلة، صعودا الى قمتها، المشتعلة بلظى شمس الجنوب، ذات الترفع والكبرياء العارم.

كانت الدقائق القليلة التي تقضيها امام النخلة كل صباح، تملأُ روحها شغفا وجنونا..
إبتدأت علاقتها الحميمة بها، ذات يوم ربيعي، لن تنساه أبداً، لأنها عَلَّمت عليه في ذاكرتها؛ بلون وعدد سعفات الفسيلة الغضة، فصار يوماً اخضراً مميزاً، في حياة العقم واليباس واليأس، التي عاشتها طوال حياتها الزوجية.

رأت زوجها يوما، يحمل شيئا ملفوفاً بقطعة ندية من الخيش، تخيلته أول وهلة يحمل طفلا بين ذراعيه، يحميه من الشمس والريح الشديدة الهبوب،إقتربت منه، وقفت فوق كتفيه المنحنيتين، وهو يضع الشئ بعناية على الأرض، سألته عن الشئ الذي يخفيه، أزاح طرفي قطعة الخيش، وأخرج الفسيلة بعناية كبيرة أمام عينيها المندهشتين، "هذه إبنتنا البتيلة، نجت من مجزرة فظيعة، طالت آلاف النخيل. أنظري اليها، ما أروعها.. جميلة وفتية."

رأت المرأة العجوز الفسيلة الصغيرة، ولمست قلبها الطري، من وراء النسيج الليفي، فعشقتها بجنون.

في تلك اللحظة، شعرت حقيقة، أن البتيلة إبنتهما، البديلة عن الطفل الذي حرما من انجابه.

في تلك الليلة.. بعد عودته من دفن إبن أخيه، الي سقط قتيلاً في الحرب، عاد حزينا منهكا، لم ينم تلك الليلة، كان يتقلب في فراشه، يرتعد جسده من شدة الحمى، ويكرر عبارة واحدة: "أرحام تدفع وأرض تبلع"

لم تفهم المرأة العجوز شيئا، اعتقدت أنه يهذي من الحمى، وهول الصدمة والحزن، ولكنها إستوعبت كلامه، وفهمت معناه، عندما بدأت جثامين الأبناء القتلى في الحرب، تزداد كل يوم، وتصل من جبهات القتال المحتدمة، دون إنقطاع، لتقوم المقابرالمنتشرة في ارجاء الوطن، بابتلاعها فورا...

عندها حمدت الله انه لم يهبها ابناً.

لقد شهدت في حياتها؛ موت الأطفال الرضع، رأت المهود الصغيرة التي ينامون فيها، خالية في الصيف، كانوا يموتون بسبب الإسهال الشديد، اكثر الأمراض فتكاً بالاطفال آنذاك، رغم التعاويذ والشرائط الخضر، المعلقة على الأقمطة، فصيف الجنوب قاس لا يرحم، يأخذ حصته كل سنة، ويبعثها الى قبور صغيرة، رأت ذلك يحدث امام عينيها كل صيف، ورأت الحرب بعد ذلك بزمن طويل، تقتحم بضراوة كل الحواجز، تقتلع الأبواب الموصدة، وتزرع الموت في كل الفصول.

في تلك الليلة همست في أذن زوجها الملتهبة بجمرة الحمى هذه الكلمات، سأرعى البتيلة ذكرى لإبن أخيك، حتى تكبر، ويرتفع رأسها الأخضرعالياً فوق جدران البيت،وسيأتي اليوم الذي نأكل من ثمرها، ونطعم الجيران، ثواباً على روحه.

أبتسم لها، وكف عن تكرار العبارة الوحيدة، التي كان يرددها تلك الليلة، التي أعقبت دفن إبن أخيه.

سألته عن معنى إسمها، فقال: " هي المستقلة، المستغنية عن أمها، لاتلتصق بها، ولا تبتعد عنها، تعيش معها، تحت ظلالها، دون أن تكون عالةً عليها، هذه هي البتيلةء"
إبتسمت لزوجها المحموم، فانطفأت نار الحمى التي تحرقه، عاهدته انها ستسقيها ماء عينيها حتى تكبر.

في البداية، كانت تخاف عليها من بائع الجمَّار، الذي كان يقطع بسكين حادة، اللب من قلب النخلة، ويبيعه في موسمه، فكانت حينما تسمع صوته، تهرع الى الباب للتأكد من إغلاقه، وتعود مسرعة لتعانق البتيلة.

مرَّ الزمن الجنوبي مشفقاً على البتيلة، فمدت جذورها عميقاً في التربة، وارتفعت قامَتها عالياً وسط باحة البيت؛ فكفت المرأة العجوز عن القلق، وصار من المستحيل، على بائع الجمَّار أن ينال منها، لكن خوفاً آخراً إعتراها فجأة، عندما تذكرت حديثاً، دار بين زوجها وابن أخيه، الذي قضى في الحرب قبيل نهايتها، حكى لعمه حين زاره، في آخرإجازة في الخريف، عن مجزرة رهيبة طالت آلاف النخيل، على ضفتي شط العرب، قُطِعت الرؤوس، مخلفة جذوعاً سوداء محروقة، كأنها أعمدة معابد وثنية، رُجِمت بالنار، بأيدي إلهة غاضبة، وحينما سمع العم بذلك، لعن الحرب ومن أشعل فتيلها، وأمدها بالحطب.

في تلك الزيارة الأخيرة، لجندي عائد من جبهة القتال الجنوبية، احضر البتيلة معه، وقال وهو يقدمها هدية لعمه:

"ازرعها في باحة البيت .. لقد وجدتها على مقربة من أمها المحترقة، أمنحها فرصة أخرى لتحيا."

رأت المرأة العجوز في المنام أن يد الحرب المجرمة، امتدت لإبنتها، فقطعت رأسها، ورمتها على قارعة الطريق، لتبول عليها الكلاب السائبة، ويلطخها الطين، وحينما إستيقظت، هبت مرتاعة، إحتضنتها وبكت، ونذرت صيام زكريا، وعند الغروب أخذت كربة من البتيلة، فأوقدت عليها الشموع، وألقتها في النهر، وأخذت تراقبها حتى اختفت، طافية بالنار فوق الماء، وعند هبوط الظلام، فقدت مياه النهر أضواء الشموع، وعم الظلام سطحة الهادئ، عادت المرأة العجوز لبيتها، بعد أن اوفت بنذرها.

في ذلك المساء، الذي أجتمعت فيه النسوة، عند ضفة النهر، كما إعتدن على ذلك كل سنة، للإيفاء بنذورهن، وأداء طقس قديم، تمنت لو كان زوجها حياً، فيرى البتيلة وقد صارت نخلة باسقة، وارفة الظلال.

في موسم التلقيح، استعانت بأحد من ذوي الخبرة، وراقبت ظهور أكواز الطلع، من بين فجوات السعف، انتظرت بصبر، إنفتاق الشماريخ، وحلمت بالعذوق المنحنية كالضلوع، مثقلة بالخلال الأخضر، الذي سيتغير لونه مع إقتراب الصيف؛ الى صفار زاه براق كالذهب، تحت أشعة شمس الظهيرة.

لم تيأس المرأة العجوز، آمنت ان انتظار طويل ينتهي بتحقيق الحلم خير من فقدان الأمل، وأنها في النهاية سترى البتيلة مثقلة وذات حمل، ولكن يبدو أن البتيلة كانت تعاند، تريد ان تواسي أمها المرأة العجوز، بالامتناع عن الحمل، مرت سنتان أخريتان، ولم يتغير الحال.

استدعت الصاعود في موسم التلقيح، فتسلق النخلة حتى وصل لرأسها، ونثر الغبارالذكري الذي يحمله في مقطف على ظهره، وربط الطلوع الذكرية مع الشماريخ الأنثوية المتفتحة، والمستقبلة للغبار الأبيض المصفر، ذو الرائحة النفادة المحببة.

وبعد أن انجز عمله الصعب، تمنى لها حظا سعيدا، اعطته المرأة العجوز اجره وشكرته، وعندما انصرف، وقفت رافعة كفيها للسماء، مبتهلة للخالق العظيم، متأملة روعة صنعه، حتى أنها كانت تتخيل، ان يديها إستطالتا الى العذوق الدانية، وأن أصابعها لامست قلب النخلة، تحسستها باناملها اليابسة، وسمعت نبضاته تخفق في كفها، تخيلتها عادت كما كانت فسيلاً، تحتويها بين يديها، بحنو الام لطفلها الصغير، وتهمس فرحاً، ها هي تعود صغيرة، كما كانت، حين جاء بها زوجها، ذات نهار ربيعي قديم..

تذكرت ما قالته جارتها أمس، أن تضرب النخلة بعصا، اذا ارادت ان تحمل، وأقسمت انها جربت ذلك فعلا، مع زوجة ابنها العاقر، ضربتها على عجيزتها فحملت وأنجبت لأول مرة، بعد خمس سنوات من الزواج، وشجعتها ان تجرب الطريقة نفسها على النخلة، فسألتها المرأة العجوز متشككة:" هل فعلا حملت زوجة ابنك لهذا السبب الذي ذكرتيه "فأجابت بثقة: " نعم"

كذبتها.. ان الأطفال لايأتون بهذه الطريقة المهينة لكرامة المرأة، وأن النخلة في خلقها تماثل المرأة في رقة مشاعرها، فضحكت جارتها، وسخرت منها.

هرعت المرأة العجوز الى النخلة، عقدت جديلتيها الشائبتين حول جذعها، وقالت:

"سامحيني لأَنِّي لم أضرب تلك الجارة الرعناء بعصاي هذه، إحتضنتها وذرفت على جذعها دموعاً سخية" وقالت:" لقد أوفيت الآن بوعدي لزوجي، وسقيتك بدموع عيني"
إبتهلت، وبهمس خافت، إرتجفت شفتاها بدعاء حار: الهي لقد فهمت حكمتك أخيراً، لقد اشفقت عليَّ، لعلمك ان الحرب قائمة، تتجدد كل عقد من الزمن، لذلك لم تهبن الأولاد، كي لا تخطفهم الحرب مني. لك الحمد والشكر، أتوسل إليك الآن.. أن تمنح بركاتك لابنتي..

في صباح اليوم التالي، أدت طقوسها امام النخلة، بعد صلاة الفجر، ومع أول شعاع سقط على جدائل النخلة، المنحنية كأهلة خضراء، رأت الثمار تطرز العراجين، كأنها قناديل تضيئ، لم تستطع احتمال فرحها، الذي غمرها من قمة رأسها حتى قدميها، شعرت انها تطير في الهواء، فهتفت: شكراً لك الهي.

صالح البياتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى