الثلاثاء ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

يُحظَّر بيعُه للرِّجال

أينَما تسيرُ بكَ شوارعُ المدينةِ، وأينَما يتَّجهُ بكَ ناظراكَ، فإنَّ أوّلَ ما تقعُ عليهِ العينُ لوحاتُ الدِّعايةِ ويافطاتُ الإعلانِ مزخرفةً بأبْهى حُللِ الإضاءةِ الحديثةِ، وهي تتراقصُ بألوانِها البرَّاقةِ وحركاتِها الآسرةِ، إضافةً إلى صورةِ الدِّعايةِ ذاتِها الّتي تثيرُ مشاعرَ الغرائزِ، وربَّما تثيرُ الاشمئزازَ حينَما ترى الدِّعايةَ لطبيبِ أسنانٍ قد حقَّقَ الوحدةَ العربيَّةَ في جمعِه أشتاتَ الأسنانِ المتفرِّقةِ لأحدِ الزَّبائنِ في وحدةٍ تَمَّحي بينَها الحدودُ، وتزولُ بينَها حواجزُ التَّفرقةِ الّتي رسمَتْها أيْدي المستَعمِرينَ، ورسَّخَتْها أذيالُهم.. فمَا بالُكَ بدعاياتِ الأطعمةِ والزِّيِّ وغيرِها؟! فحدِّثْ ولا حرجَ. ما يجعلُ الفكرَ أسيرَ الاستِغرابِ والتَّأمُّلِ..

كلُّ شيءٍ في هذا الزَّمنِ نشوانُ بخمرةِ الدِّعايةِ، حتّى ليَخالُ المرءُ أنَّ العالمَ بأسْرِه دعايةٌ، وأنَّ هذا الكونَ بكلِّيّتِه إنّما هوَ إعلانٌ، وحياةُ الإنسانِ والخلقِ لوحةٌ مزركشةٌ بالدِّعايةِ، والأرْدأُ من كلِّ هذا وذاكَ أنْ يُصبحَ لتسويقِ الفكْرِ ألفُ بهرجةٍ منَ الدِّعايةِ، وأنْ يغدوَ لتلميعِ سِيَرِ المجهولينَ فيتامينُ دالٍ يرفعُ من شأوِهم، ويُزيلُ الغشاوةَ عن عيونِ النّاظرينَ إليهِم، وأنْ تُلْصقَ على أغلفةِ مؤلَّفاتِهم إعلاناتٌ تجعلُ من كلِّ ممنوعٍ مرغُوباً فيه، ومن كلِّ مكروهٍ محبٌوباً تهفُو إليهِ النُّفوسُ، ومن أفولِ شيخوخةٍ ولادةً جديدةً في حاضناتِ الابتكارِ، ومن قردٍ مسخَتْه الذَّاكرةُ غزالاً تنسجُهُ أخيلةُ الشُّعراءِ ملاحمَ منَ الجمالِ والغزلْ، ورواياتٍ من الحبِّ ما قتلْ، وأساطيرَ من عضلاتِ عنترةَ وما فتَلْ!

ويُمكنُنا تعريفُ الدِّعايةِ اصطلاحاً بأنَّها: "التَّأثيرُ على سلوكِ الآخَرينَ ومُعتقداتِهم بواسطةِ الاستِخدامِ الانتِقائيِّ المدروسِ للرُّموزِ ونشْرِها سواءٌ أكانتْ الرُّموزُ لفظيَّةً أم سمعيَّةً، أمْ بصريَّةً أمْ إدراكيَّةً.." (عايدة فضل الشعراوي، الإعلان والعلاقات العامة دراسة مقارنة، بيروت - الدار الجامعية – 2006 )

كما تُعرَّفُ الدّعايةُ في دائرةِ المعارفِ الأمريكيَّةِ "بأنّها جهودٌ يتوفَّرُ فيها عاملُ التَّعمُّدِ والقصدِ في العرضِ والتَّأثيرِ، وهيَ جهودٌ منظَّمةٌ مقصودةٌ للتَّأثيرِ في الغيرِ وفقَ خطَّةٍ موضوعةٍ مسبقاً لإقناعِه بفكرةٍ أو سلعةٍ أو رأيٍ بهدفِ تغييرِ سلوكِه وتعمُّدِ إحداثِ تأثيرٍ على الآراءِ والاتّجاهاتِ والمعتقداتِ على نطاقٍ واسعٍ عن طريقِ الرُّموزِ والكلماتِ والصُّورِ وإيماءاتِها المختلفةِ، ولهذا التَّأثيرِ المتعمَّدِ جانبانِ: جانبٌ إيجابيٌّ يهدفُ إلى غرسِ بعضِ الآراءِ والاتّجاهاتِ، وجانبٌ سلبيٌّ يعملُ على إضعافِ أو تغييرِ الآراءِ والاتّجاهاتِ الأُخرى". (فؤاد عبد المنعم بكري، العلاقات العامة في المنشآت السياحية، عالم الكتب، 2004 ).

في أحدِ معارضِ الكتابِ تجوَّلْتُ مُنفرداً باحثاً عن كتبٍ كنتُ قدْ أعدَدْتُ أسماءَها في قائمةٍ، ولكنَّ مِحفظَتي كانتْ تشكُو من زمهريرِ الوحشةِ ومن أنينِ الوُريقاتِ النَّقديَّةِ الّتي تنتظرُها مشانقُ الجِبايةِ وخوازيقُ رغيفِ الخبزِ وصكوكُ غفرانِ العيشِ والإقامةِ الجبريَّةِ، وضريبةُ الدَّمِ على وُريقاتِ وثيقةٍ كحلاءَ تَنسبُكَ إلى وطنٍ بلا هويَّةٍ وإلى هويّةٍ بلا وطنٍ!

اشتريتُ كتاباً واحداً (مجموعةُ جبران العربيّة) واطَّلعتُ على سلسلةِ أعمالِ ميخائيلَ نعيمةَ الّتي تزخرُ مكتبتِي بعشرةٍ من أجزائِها، لكنَّني كنتُ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى بقيَّةِ الأجزاءِ، ولكنَّ محفظتِي ارتعدَتْ فرائصُها، وسمعْتُ خفقاتِ أنينِها، فعزفْتُ عنِ التَّأمُّلِ في مجموعةِ ميخائيلَ، لكنَّ عينِيَّ اللّتينِ تعشقانِ الألوانَ ويأسرُهما الحنينُ إلى الماضيْ سرعانَ ما وقعَتا على عنوانِ كتابٍ مثيرٍ (نِسْيان com) وصورةِ الغلافِ الّتي تُدخلُكَ في كهوفِ التَّاريخِ وسراديبِ الكهنوتِ المُزريْ، وإلى جانبِها اسمٌ يمتدُّ من حلُمِ اليقظةِ إلى أحلامِ المُجاهدينَ في جبالِ تورا بورا، لكنَّ المعالمَ تختفِي من ساحاتِ الذَّاكرةِ إلى مغاورِ النِّسيانِ حينَما تَرى ناظريكَ يدورانِ معَ ناعورةِ النِّسيانِ، فيَفيضُ من قلبِها النَّابضِ إشعاعٌ يأسرُ لبَّكَ، ويأخذُ بتلابيبِ مشاعرِكَ، ويخلطُ الأزمانَ كلَّها في لحظةٍ، لكنَّهُ سرعانَ ما يَفْصلُ أوراقَ الجنسِ البشريِّ، فتتمرَّدُ الأنوثةُ على الرُّجولةِ، وتثورُ الفُحولةُ في وجهِ تمرُّدِ الأنوثةِ، فمَن سيَشتري الكتابَ تكونُ لهُ الغلبةُ، فالكتابُ للنِّساءِ فقطْ، ويُحظَّرُ بيعُه للرِّجالِ؛ لأنّه ثورةٌ للنِّساءِ على الرِّجالِ، وعلى نساءِ الكرةِ الأرضيَّةِ شراؤُه وقراءتُه؛ لأنَّهُ المُخلِّصُ الأمينُ، والمُنقذُ منَ الضَّلالِ والباعثُ على الحقِّ والهَادي إلى الصِّراطِ المستقيمِ!!

لكنَّ الدِّعايةَ تدْعو الرِّجالَ من طرفٍ آخرَ إلى الشِّراءِ والاقتِناءِ، على مبدأِ "كلُّ ممنوعٍ مرغوبٌ".. كمَا أنَّ هذا الكتابَ يدعُو الرِّجالَ إلى التَّنافسِ في تسوُّقِه، خشيةَ أنْ يقعَ في أيديْ الزَّوجاتِ اللَّواتي ينتظِرْن وحْياً فكريَّاً يُحرِّرُهنَّ من قبضةِ الرِّجالِ الّذينَ لم تعُدْ لهُم اليومَ أصابعُ يتلمَّسُون بها مواطنَ الرَّحمةِ، فما بالُكَ وقدْ امتلكَتِ النِّساءُ أحلامَ الثَّورةِ والتَّمرُّدِ على الرُّجولةِ الّتي طالَما أضحَتْ مسلسلاً تاريخيَّاً في سراويلِ بابِ الحارةِ ومناشفِ حمَّام الهَنا.

فالدِّعايةُ على الرِّوايةِ تجتذِبُ الزَّبائنَ رجالاً وإناثاً، ومراهقينَ ومُراهِقاتٍ، لكنَّها تستوقِفُ المُفكِّرَ العاقلَ، وتجعلُه يترحَّمُ على زمنٍ أبدعَتْ فيهِ الأنوثةُ أدباً وتاريخاً وعلماً، وتاريخٍ نضحَتْ فيه كؤوسُ فحُولةِ الرِّجالِ فكراً نيِّراً وعلماً قيِّماً، دونَ أيَّة بهرجةٍ دعائيَّةٍ، ودونَ زخرفةٍ كلاميَّةٍ، ودونَ تلاعبٍ بمشاعرِ الألوانِ أو رسمٍ أفلاطونيٍّ لخارطةِ الأكوانِ والأزمانِ، ودونَ فيتاميناتِ النَّفخِ والنَّفجِ، ودونَ مقاهي الأدبِ ولا حاناتِ الخطابةِ، ودونَ نوادي التَّطبيلِ والتَّزميرِ، ولا مسارحِ الفروسيَّةِ والعَنترةِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى