الجمعة ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم محمد خليل

آمال عواد رضوان: عطاء إبداعي متميز

أنوه بدايةً إلى أنه من الصعوبةِ بمكان، في هذه العجالة، الإحاطةُ بالديوان من كافةِ جوانبه، ثم أبادرُ إلى القول :
من جديد، تطلُّ علينا الشاعرة آمال عبرَ مجموعتها الشعرية الجديدة "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن" التي جاءتْ بعدَ ثلاثةِ إصداراتٍ شعريّةٍ سابقةٍ لها، هي : "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج" صدر العام 2005 و "سلامي لكَ مطرًا" صدر العام 2007، والإصدار الشّعريّ الثالث "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ" صدر العام 2010، وأخرى في القراءاتِ النقديّةِ واالتوثيق والبحث والمقالات والتقارير الأدبية، ولها إصداراتٌ مشتركة مع آخرين! ولو تتبعنا مسيرةَ عطائِها من خلال محطاتها الإبداعية تلك، لتأكَّدَ لنا بأنَّ دالَّةَ نتاجِها الشعري شكلاً ومضمونًا، تسير من حسنٍ إلى أحسن وفي تصاعدٍ مستمر! وفي الحق، يمكنُ القولُ : إن هذا الكتابَ يعدُّ إضافةً نوعيةً في مشهد حركتنا الإبداعية المحلية والشعريةِ منها تحديدًا وفي الوقت ذاته، هو رفدٌ وإثراءٌ يصبُّ في نهر حركتنا الأدبية المحلية المتنامي! في السياقِ ذاتِه قد يكونُ من الإنصافِ أن نذكرَ أنه إذا ما ألقينا نظرةً ثاقبة على الساحة المحلية لرأينا أنها تشهدُ، لاسيما في الآونة الأخيرة، حراكًا أدبيًا وثقافيًا ملحوظين! علمًا أنَّه ليس كلُّ ما يُنشرُ لدينا، يرقى إلى المستوى الإبداعي والفني الحقيقيينِ! الأمرُ الذي يدعونا إلى مضاعفةِ الجهد أكثرَ فأكثر، وذلك بالمزيد من القراءة والثقافة والتجربة والوعي لتُصبحَ المخزونَ الذي نمتحُ منه إبداعاتِنا، وتُشكِّلَ، في الوقتِ نفسِهِ، رافعةً قويةً لوجودنا ولثقافتِنا في بلادنا!

وبعد، لا يساورني أدنى شكٍّ بأننا في حضرةِ شاعرةٍ مختلفة، لغةً وجرأةً وفنيًا، لذلك تستحقُّ الاحتفاءَ والتكريم! ومعروفٌ أنَّ الاحتفاءَ بالمبدعاتِ والمبدعينَ هو احتفاءٌ بالإبداع في أبهى صوره، كما يُعدُّ من أهم عوامل النجاح والإبداع والتميُّز، فلأجل ذلك جئنا والتقينا هنا، ولأجل عطائها الإبداعي المتميز في مجال الشعر، جنبًا إلى جنب سائرِ نشاطاتها الأدبية والثقافية والاجتماعية المستمرة. وقد لا أراني مبالغًا إذا قلت : إن أسلوبَ آمال في تعاملها مع شعرها أشبهُ ما يكونُ بأسلوب النحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة لتجنيَ منها رحيقًا تُحيلُه إلى شهدٍ خالص! خاصةً في تخيُّرِها للألفاظ والمعاني. وهي حين تصنعُ شعرًا نراها تبذُلُ قُصارَى جُهدِها، مراعاةً والتزامًا بالمعايير الأدبية والفنية والإنسانية في آن! مع ما فيه من محاكاةٍ لذاتها، أو لما تبوحُ به من بعض ملامحِ شخصيَّتِها كإنسانةٍ بكلِّ ما تحملُه الكلمةُ من معانٍ إنسانيةٍ سامية قبلَ كلِّ شيء وكشاعرةٍ مرهفَةِ الإحساس والوجدان! الشعرُ، في بعض جوانبه، لم يزل منذ الأزل، يحكي ويحاكي شخصَ الشاعرِ نفسِهِ في الحياة! مما يؤكد المقولةَ : بأنَّ الفنانَ لا يبتدعُ أسلوبَ حياتِه بل يعيشُ بالأسلوبِ الذي يُبدعُ فيه. كذلك فإنها، حينَ تستحضرُ بناتِ أفكارِها وتحرِّكُ خَلَجاتِ نفسِها، عبرَ رؤيتِها للواقع والتأمُّلِ في الحياةِ من حولِها، ثُمَّ تترجمها إلى صورٍ فنية آسرة إنما تلامسُ ذاتَها وتبثُّ أفكارَها، تمامًا مثلما تلامسُ أفكارَنا وتداعبُ مشاعرَنا نحن القراءَ أيضًا، وذلك من خلال تجلياتها الصوفية المُحِبَّة والعاشقة التي تعيشُها، وصولاً إلى حالتَيْ الحلول والإتحاد (طبعًا مع الشعر)! فالكتابة هي الكاتب والشعرُ هو الشاعر وكلُّ أثرٍ يدلُّ على صاحبه! وفي مثلِ ذلك يقول الناقد السوري نبيل سليمان : في النص "من تكوين المبدع النفسي وحياته الشخصية ما فيه. في النص من ذات منتجه، من شعوره ولا شعورِه، من سيرته ما فيه. لكن في النص أيضًا من فكرية منتجه، ومن وعيه، ومن رؤيته، ما فيه. أخيرًا، في النص أيضًا من اللاوعي الجمعي والوعي الجمعي ما فيه" (نبيل سليمان، في الإبداع والنقد، ص28، اللاذقية : دار الحوار للنشر والتوزيع، 1989)!

أما جاك دريدا صاحبُ نظرية "التفكيكية" أو بالأحرى القراءة "التفكيكية" فيقول : لا شيءَ خارجَ النَّص! كما سوف نلحظ ذلك، من خلال مقاربتِنا لِـ "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين"! من آلهة الأساطير القديمة. فدُموزي لدى السومريين أو تموز كما يسميه الأكاديون هو إله الذكورةِ والخضرةِ والإخصابِ والحياة. وقصةُ خيانةِ زوجتِهِ عشتار له وتسليمِهِ إلى شياطينِ العالم السفلي ليقتلوه معروفة! أما عشتار فهي ربَّةُ الخصبِ والأنوثةِ والحبِّ والجنسِ لدى البابليين، سكانِ وادي الرافدين القدماء وهي أعظمُ الآلهة وأسماهُن منزلةً! إنَّ أولَ ما يستوقفُنا من الديوان هو العنوانُ الموسومُ بـ "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين"! وبمعزلٍ عن مدى تذوقِ المتلقي وتقبُّلِهِ لهذا العنوان، فهو عتبةُ النصِ الأولى التي تشكِّلُ حمولةً دلاليةً مغرية وجريئة! إذ نرى هنا في ما اختارته الشاعرة عنوانًا للديوان أنها تشتقُّ كلمةً من أخرى بتغيير ما، مع التناسب في ما رمت إليه من معنى، ففي الجزء الأول من العنوان نقرأ : أُدَمْوِزُكِ من دُموزي (الرمز الذكري)، وفي الثاني : تتعشترين من عشتار (الرمز الأنثوي)! وليس هذا من النحت كما ذهب بعضهم لأن النحتَ في الاصطلاح عندَ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيدي "أخذُ كلمةٍ من كلمتين متعاقبتين، واشتقاقُ فعلٍ منها"! وقال آخرون : بل اشتقاقُ كلمةٍ أي بإطلاق من دونِ تقييد أو تحديد! أما لجهةِ المعنى الذي تعنيه الشاعرة أو تُلمحُ إليه، كما يبدو، فيظنُّ المرءُ أنها حين جمعت بين دُموزي وعشتار في تكاملٍ رومانسي واتحاد جنسي، لقولها "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين" كنايةً عن رغبتها أن تقولَ : أُخصبُكِ فتحملين! ومتى حدث الإخصابُ وتمَّ الحملُ، لم يتبق لنا نحن القراءَ إلا أن ننتظر المولودَ والأصحُ المولودةَ وهي القصيدة! وعليه فإنَّ عنوانَ الديوانِ، من حيثُ الدلالةِ والمدلول، يشي بأنَّ الشاعرةَ، من خلالِ توظيفِها للأسطورة والخيال، إنما تتوسَّلُ الهربَ من عالمٍ واقعيٍ سوداوي، ملؤُه الضَّجرُ والغربةُ والرعبُ والفراغُ والتشظِّي، إلى عالمٍ افتراضيٍ أجملَ ملؤُهُ الحبُّ والعشقُ والانعتاقُ والخلاصُ! إنها محاولةٌ مُتخيَّلةٌ للتغيير إلى الأفضل والأجمل، محاولةٌ تحملُ في طياتها أفكارًا لها أجنحة قد تحلِّقُ إلى آفاق بعيدة، والفكرةُ أساسُ كلِّ عملٍ! يقول ابن سينا (370-427ه) رافضًا أن يَعُدَّ الشعر شعرًا إذا كان خلوًا من التخييل "إن كلَّ كلامٍ غيرَ مخيَّلٍ ليس شعرًا، وإن كان موزونًا مقفَّى، وإنَّ الشعرَ يراد فيه التخييل لا إفادةَ الآراء"! وقد وافقَهُ الرأيَ على ذلك من بعدِهِ، غيرُ ناقد أو كاتب. أما أينشتاين فينسبُ إليه القولُ "إنَّ الخيالَ أهمُّ من المعرفة" لأنه أساسُ كلِّ إبداع! لذا، فالتخييلُ عمليَّةٌ يقوم بها الشاعر ويقع تأثيرُها على المتلقي!

لكن في المقابل، أرى أنه لكي يكونَ توظيفُ الأسطورةِ ناجحًا، يجبُ عدمُ الاكتفاءِ بمجرد المفردات والتعابير الأسطورية، إنما يجب توظيفُها كقيمةٍ فنيَّةٍ في سياقٍ متناسقٍ ومنسجمٍ بحيثُ يتمُّ تحويلُها إلى طقوسٍ أسطورية تتعالقُ مع واقعنا وحياتنا من خلال النَّص! فالأسطورةُ، كما يُفترض، وسيلةٌ فنية يتوسَّلُ الفنانُ من خلالها الكشفَ عن تناقضات الحياة وسوداوية الواقع! أو كأنْ يُعيدَ إلى الإنسان بعضَ ما يفتقدُهُ من الانسجام والتوازن والقيمِ كالحبِّ والسمو، على سبيل المثال لا الحصر، في واقعه المعاصر الذي يبدو منغمسًا بالمادية وأبعدَ ما يكون عن الروحانية! وعليه فإنَّ توظيفَ الأسطورةِ يحتاجُ

إلى جهد مضاعف!

في نفسِ السياق، نحن لا ننكرُ على الديوان احتفاءَهُ اللافت بالصورة الفنية التي يترجمها خيالٌ محلِّقٌ في فضاءات اللغة والدلالات، هذا صحيح! لكنْ ما يلحظُهُ القارئ أنَّ الديوانَ يقيمُ بناءَهُ الشعري على اللغةِ فقط، وهذا وحده لا يكفي! أضف إلى ذلك، لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ أيُّ نص أدبي خلوًا من الفعل الدرامي بما يتضمنُهُ من فعلٍ وحركة! كذلك، من الضروريِّ أيضًا أن يُفضيَ الشعرُ إلى حالة من التفكير أو التساؤلِ في أقلِّ تقدير! فالإبداع الشعري تجربةٌ روحيةٌ عميقة! لا يمكن أن يترسخَ إلا من خلال ما يطرحُه من الأسئلة والرؤى والأفكار! وعليه فإنَّ أهميةَ الشعرِ وكلِّ فنٍّ آخرَ إنما تكمنُ بما يتركُه في نفس المتلقي من قوةٍ في الأثر والتأثير والتفكير والتفاعل والانفعال!

وبالنظر إلى نصوص الديوان الخمسين نجدُها أقربَ ما تكون إلى النثر الشعري، أما مضمونُها ففي غالبيته العظمى متشابهٌ إلى حد كبير، شكلاً ومضمونًا، والكلام فيها آخذٌ بعضُه برقابِ بعض، مع ما فيها من ترابطٍ شعوريٍ وثيقِ الصلة! هي بوح ذاتي أو قل هي رسائلُ عشقٍ، أو كما أسمتها عشقياتٍ حمَّالةَ مستوياتٍ دلاليةٍ متعددة، تُرسلها شاعرتنا المسكونةُ بهاجسِ الحبِّ، بسمو روحٍ وعلو نفس لافتين إلى جمهور القراء بُغيةَ أنسنةِ الإنسانِ وتحقيقًا لسعادته، ومشارَكةً له في همومه في رحلة هذه الحياة قصيرةً كانت أم طويلة! وفي أجواءٍ احتفاليةٍ عارمة تصل حدَّ الشبقية أحيانًا، تبلغُ تلك التجلياتُ ذروتَها حين تكتبُ بالحبِّ سفرَ خلاصِنا الموعود، بُغيةَ تغييرِ الواقعِ المنتشر بين ظهرانينا ولا تترُكُنا حتى نفتحَ نوافذَنا في وجهِ تلكَ الرسائلِ! فالحبُّ وحدَه مِفتاحُ كلِّ الأقفال، مِفتاحٌ واحدٌ ليس أكثر! ليصبحَ شرطًا وجوديًا في بحرِ الحياةِ، وقد ترامت أطرافُه واتسعت شطآنُه لكلِّ البرايا والمخلوقات! ويثبتُ واقعُ الحال بأننا حقًا نفتقدُ الحبَّ قولاً وفعلاً، وفي مختلف مجالاتِ حياتنا الفردية والجمعية على حد سواء! وأحسبُ أن الشاعرةَ، وفي رؤيةٍ متبصرةٍ قد نجحت في نقل صورةٍ حقيقيةٍ نابعةٍ من واقع الحياةِ والظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمعِ من حولنا جميعًا! المقياس الحقيقي للشعر الجديد هو مدى الإحساس بالوجود الإنساني ارتيادًا وكشفًا على المستوى الفردي والكوني في آن.

ومن جميلِ ما قرأتُ، مبنىً ومعنىً وصورةً فنية، من قصيدة عنوانُها "غِمارُ أُنوثتكِ الـْ أشتهي" ص32 "غماري.. في تمامِ نُضجها/مثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المشتهاةِ/ تشققتْ.. مُولعةً بِنُضْجِكِ/وإني لأبدوَ للناظرينَ.. كبساتينِ نخلٍ/أنهكها ثِقْلُ تُمُورِها.. أما حانَ القِطافُ" ؟ فالصورة الفنية جميلةٌ وهي تشكيلٌ إبداعيٌّ أشبهُ ما يكون بالرسم التشكيلي مع فارق الأدوات! لكنَّ دخولَ الكافِ على البساتينِ أفقدها، كما يبدو، بعضَ رونقِها! وأرى أنَّ دخولَها جاءَ مُقحَمًا إذ جعلت التشبيهَ عاديًا ولو جعلَته بليغًا لكان أفضلَ وأجملَ! ذلك لأنَّ لغةَ الأدبِ أو البلاغةِ والمبالغةِ، كما يُفترض، هي لغةُ النص الشعري تحديدًا! مثلما هي لغةُ الإشارة والتلميح لا لغةُ الإيضاح والتصريح! ثمةَ إشارةٌ أخرى يمكنُ أن تستوقِفَنا ألا وهي قولُها ص70 "أفسحي لرئتيَّ.. ينابيعَ إيمانِكِ/لتنموَ آفاقي.. ولِيشيبَ ثلجي"! تُرى هل الشائبُ يشيبُ!؟ كما نجد لديها دخولَ ألـ التعريف على الفعل المضارع، وهو غيرُ محبَّذ، مثالُ ذلك : ص31 "غمارُ أنوثتِكِ ألـْ أشتهي" وص106 "أيا منفايَ ألـ يتوارى" وص108 "طيفُكِ ألـْ يتلوَّنُ"، وعلى شبه الجملة ص66 "ألْـ لها"! كما نجد لديها اهتمامًا بتقطيع الكلمات إلى حروفها، ربما تأكيدًا لدلالة معينة أو لإيقاع معين، وتلك من المميزات الحداثية في الشعر العربي المعاصر! الأمر الذي يتطلب قارئًا جديدًا متمكنًا، وبقدر تمكنه تكون قدرته على كشف أبعاد النص ودلالاته. أيضًا نجدُها تتحدث بلغة المذكر وتلك من الأنماط التقليدية في الشعر العربي، وحبذا لو تمردت عليها!

في الأخير، قد يطول الكلامُ ويطول، لكن بما أننا محكومونَ دائمًا بالأمل وبالوقت أيضًا فلا يسعُني إلا أن أقولَ للزميلة والصديقة آمال : لا جفَّ مدادُ يراعِكِ ولا نضبَ معينُ إبداعِكِ ودمتِ متألقةً كما أنت دائمًا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى