الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
قصة قصيرة :
بقلم أحمد الطيب اسماعيل

آمــــال

كانت واقفة منتصبة تنظر بعينين مترقبتين إلي طفلتها " آمال " في أول يوم لها بالمدرسة ، كانت تقريباً شبه ملتصقة بنافذة الفصل المنخفضة المطلة علي الشارع العمومي .

عيناها تحادثان عينى الطفلة الخائفة المرتبكة ، أصوات الأطفال تأتي من كل مكان ممتزجة بضحكاتهم العالية المجلجلة .
ابتسمت حين رأت فتاة صغيرة تقترب من ابنتها لتحادثها و" آمال" تبتسم ثم تشاركها الحديث . لم تفكر الأم أن تذهب من مكانها حتى لو اطمأنت إلى هدوء ابنتها ، لديها رغبة أن تبقي هكذا معلقة بجوار النافذة ، تري حوائط الفصل الملصوق عليها بقايا أوراق قديمة والمقاعد الصفراء الباهتة والسبور الأسود الكبير ، حتى حين دخلت المعلمة ، اكتفت بأن تبتعد بجزعها قليلا ً، بينما عيناها مندفعتين إلي داخل الفصل ، كانت المعلمة تبدو جميلة ذات قوام ممشوق وملابس زاهية تنبعث منها رائحة زكية وابتسامة تلقائية تملأ وجهها ، نظرت الأم إلي ابنتها الجالسة :
ـــ ربما سيأتي يوم تكونين جميلة هكذا .
ظلت واقفة طيلة اليوم بجوار النافذة ، أحست وكأنها تجلس في الفصل على نفس المقعد ...
حين ذهبت إلي المنزل استلقت علي فراشها تتأمل صورة زوجها الراحل ، تمتزج في ذهنها ذكريات الماضي ، أفاقت علي صوت ابنتها ، وقد نثرت ألوانها وكتبها فوق الفراش ، تسأل أمها بعينين ملؤها الحيرة ، عما ستفعل بكتب المدرسة ، فكرت الأم قليلاً ، ثم تذكرت أن عليها أن تلون كل شىء بلونه ، كما سمعت من المعلمة .

ــ الموز باللون الأصفر ، التفاح لونه أحمر ، والأرنب اتركيه كما هو باللون الأبيض الجميل .
استغرقتا وقتاً طويلاً في التلوين ، ثم فتحتا الكتاب الآخر ، لم تتذكر الأم ما قالته المعلمة ، لم تفهم ما عليها أن تفعله ، عليها إما أن تتذكر أو تقرأ الكلمات المكتوبة ، حاولت ولكنها فشلت ، ليلتها ظلت تتقلب في الفراش شاعرة بالذنب . قررت أن تركز في كل كلمة تقولها المعلمة غداً.
فى اليوم التالي ، وقفت بجوار النافذة ، ظلت مركزة انتباهها ، فهمت كل شيء ، وحين جاء المساء عّلمت طفلتها ما استطاعت فهمه ولم تفهمه الطفلة الصغيرة .

كل يوم كانت الأم تقف بجوار النافذة ، تعلمت كيف تنطق " أ . ب " ، حفظت أشكال الحروف ، اشترت كراساً مثل كراس ابنتها ، كتبت الحروف بخط متعرَِّج كبير ، اعتاد المعلمون أن يروها دائماً معلقةٌ بجوار النافذة ، و كل يوم كانت تعرف شيئاً جديداً ..

في كل عام تنجح " آمال " كانت الأم تغير النافذة إلي نافذة فصل جديد ومع كل نافذة جديدة تتعلم أشياء جديدة ، تعلمت الجمع والطرح ، وأصبحت تقرأ جملاً كاملةً وتفهمها ، وكعادتها تساعد آمال .
حين ذهبت " آمال" إلي المدرسة الكبيرة ذات الفناء الواسع المحاطة بسور كبير ، لم تستطع الأم الوقوف في نافذة الفصل ، جلست في البيت مهمومة حزينة والوقت يمر متباطئاً ، حين عادت ابنتها احتضنتها بلهفة وشوق .

وفي المساء أخرجت " آمال " الكتب الجديدة اللامعة :
ــ الآن جاء دوري لأشرح لك ، كما كنت تفعلين معي يا أمي العزيزة .
أصبحت لا تعتمد علي ما تقوله ابنتها فقط ، تعودت أن تعرف الكثير وفي كل مرة تشعر بأنها أصبحت أكثر رضاً عن نفسها...
نفضت الأم دمعة واقفة عند طرف عينيها ، عاودت النظر إلى ابنتها التي تستعد لزفافها ، لم تعرف لماذا تذكرت كل ذلك في هذه اللحظة وبعد هذه السنوات الطويلة.
تأبطت ذراع ابنتها وهما خارجتان من الحجرة ، أجلستها بجوار عريسها ، ناظرةً إليها ، رأتها جميلة ، بقوام رائع ، وملابس جميلة تنبعث منها رائحة زكية وابتسامة تلقائية تملأ وجهها ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى