أبو العـلاء المعـرى رهـيــن المحـبسيـن
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعى التنوخى، ولد عام 363هـ، فكانت ولادته بعد رحيل المتنبى بتسع سنوات. ولد أحمد بن عبد الله ببلدة المعَرَّة، والمعَرَّة فى أصل اللغة تعنى الشدة، وهى قرية من أعمال حلب. والمعرى كنيته أبو العلاء، وإلى بلدته نُسب فصار"أبو العلاء المعرى"، وإليها أيضا كانت نسبة ألقابه: حكيم المعرة، فيلسوف المعرة، شيخ المعرة.
واشتهر أيضا بلقب"رهين المحبسين"، فالمحبس الأول هو إصابته بالعمى فى سن مبكرة، والمحبس الآخر هو بيته الذى التزمه بعد رجوعه من رحلته إلى بغداد سنة 400هـ، وقد قرر أن يعتزل الناس فظل يعكف فى بيته على التأليف والتصنيف حتى توفى عام 449هـ، أى أنه ظل ملازما بيته تسعة وأربعين عاما، فهذان هما المحبسان الذى صار بهما"رهين المحبسين".
كما لـُقب بـ"صائم الدهر"لأنه استغل رقة حال عيشه فى أن يكثر من الصيام، أو يمكن القول بعبارة أخرى إنه استثمر رقة حال عيشه استثمارا إيجابيا.
كان المعرى قد قرر أن يعتزل الناس قبل سفره إلى بغداد عام 398هـ، لكنه أجـَّل تنفيذ قراره إلى بعد عودته من رحلته التى قضى فيها عامين، التقى خلالها علماء بغداد وحضر الكثير من دروسها. وكانت هذه هى السَّفرة الأولى والأخيرة فى حياته، لم يرتحل عن المعرة إلا هذه الرحلة، ومن العجيب أنه حتى بعد مماته قد دُفن فى بيته، فصار بيته يضم جسده حيا وميتا.
وهذا البيت الآن هو"المركز الثقافى العربى بالمعرة"بسوريا، فى شارع سُمِّى شارع أبى العلاء، هذا المركز الثقافى هو من اقترح إنشاءه الدكتور طه حسين، وأصبح يضم ضريح أبى العلاء ومكتبة ضخمة وقاعة للمحاضرات واللقاءات الثقافية.
كانت أسرة المعرى أسرة مرموقة تنتمى إلى قبيلة تنوخ، وهى من أكثر قبائل العرب شرفا وحسبا، ويصل نسبها إلى يعرب بن قحطان. ولم يشفع هذا الأصل والحسب ورفعة الأسرة فى أن يحرك شيئا فى نفس المعرى تجاه الإقبال على الحياة، فقد كانت آلامه كفيلة أن تدفعه إلى العزلة وشىء من النقم على الحياة، فكما نقلت إلينا المصادر أنه كان دميم الخلقة، مجدور الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدرى الذى كان السبب فى فقدانه البصر وإصابته بالعمى. لكل ذلك رأى أن قدومه الحياة ما هو إلا جناية ارتكبها أبوه، فصاغ ذلك شعرا فى بيته الشهير:
هذا ما جناه أبى علىَّ
وما جنيتُ على أحد
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أوصى أن يُكتب هذا البيت على قبره. وكان هذا البيت فلسفة عملية عند المعرى، فمن أجل رؤيته هذه فإنه لم يتزوج، فلم يترك ذرية، لم يرد أن يجنى على أحد مثلما جنى عليه أبوه أن أنجبه إلى الحياة.
المعرى حفظ القرآن الكريم ودرس علوم اللغة والأدب والحديث والفقه والتفسير على يد أفراد من عائلته، وقرأ النحو على نفر من أصحاب خالويه، بالإضافة إلى ما حصله فى بغداد، ثم طالع الفلسفة والأديان والمذاهب المختلفة وفرق المتكلمة. كل ذلك مما أهلـَّه أن يكون نادرة ليس فى عصره فقط، بل نادرة فى كل العصور، فكان من الأفذاذ المعدودين فى اللغة والأدب والفلسفة والمعارف. ومن هنا كانت غزارة نتاجه الذى تجاوز مئة مؤلـَف، وذكر آخرون أنها وصلت إلى مئة وتسعة.
وتنوَّع هذا النتاج والكم الهائل بين لغة وفلسفة ومعارف وأخبار وأدب وغير ذلك، وكان من هذا النتاج شعره الذى حملته دواوين"سقط الزند"وبه ثلاثة آلاف بيت وهو أول ما قاله من شعر وسماه بذلك لأن السقط أول ما يخرج من نار الزند،"لزوم ما لا يلزم"أو"اللزوميات"، "الألغاز"، "جامع الأوزان"وبه تسعة آلاف بيت، "استغفر واستغفرى"، وبه تسعة آلاف بيت. وله من النثر كثير لم يصل إلينا بالكلية أو وصلنا منه جزء لم يصلنا بقيته، ضاعت تلك النفائس بالطامة التى حلت بالمكتبة العربية على أيدى التتار وما فعلوه بالكتب والمكتبات العربية وخصوصا ما كان فى بغداد.
ومن العجيب أنه لم يفتأ القدماء يتقولون على المعرى وينسبون إليه ما ليس فيه، حتى يأتى المحدثون بأعاجيبهم، فذهب بعضٌ إلى أن المعرى كان"نباتيا"أى لا يأكل اللحوم والبيض والألبان، بل عدُّوه من أشهر النباتيين فى التاريخ. وهذه طرفة غريبة، حقا ً إن المعرى كان لا يأكل أى لحم ولا أى نتاج حيوانى أو ما شابهه مثل البيض، لم يكن يعيش إلا على البقول وغيرها، وذلك لم يكن منذ طفولته لكى نقول إنه كان نباتيا، وإنما كان ذلك الامتناع مواكبا لعزلته فى داره.
ولم يترك المعرى مجالا للمحدثين أن يقولوا إنه كان نباتيا، فقد أفصح عن السبب، قائلا (ومما حثنى على ترك أكل الحيوان أن الذى لى فى السنة نيف وعشرون دينارا، فإذا أخذ خادمى بعض ما يجب بقى لى ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن وما لا يعذب على الألسن، ولست أريد فى رزقى زيادة ولا لسقمى عيادة).
ولم يقل المعرى سبب امتناعه عن أكل ما سبق لمدة وصلت إلى خمسة وأربعين عاما، لأنه يعلم أن المحدثين سيقولون تلك الطرفة. وإنما ليدفع عن نفسه ما اتهمه به معاصروه، فحتى فى امتناعه عن أكل اللحوم والطيور وكل ما نتج منهما، لم يتركه معاصروه هكذا يمر مرور الكرام. بل اتخذوا من امتناعه هذا مطعنا فيه. فقالوا إنه يمتنع عن هذه الأشياء لأنه على عقيدة البراهمة وأنه ليس مسلما سَوى الفطرة.والبراهمة كان من المعروف أنهم فى عقيدتهم يحرمون أكل اللحوم ادعاء الرحمة والشفقة بالحيوان والطير.
ومكمن الزهد فى حياة المعرى ليس أنه عافى أكل اللحم، مكمن الزهد أنه عاش خمسة وأربعين عاما راضيا مرضيا بحاله، لم يفرض نفسه على أهله وأقربائه، لم يتكسب بمدح هذا أو ذاك مع أنه كان بمقدوره ومستطاعه وعن غير كلفة فى نظم أو صياغة. حتى أنه لم يطلب من أحد من أهله أن يقيم مع الضرير الأعمى ليقوم باحتياجاته، أو أن يأتوا له بخادم، بل اتخذ له خادما من ماله اليسير الذى يأتيه، ومن الواضح أنه كان نصيبه المستحق من بيت المال، ليست زكاة فقد يتوهم البعض ذلك، وإنما هى نصيبه فى بيت المال مثلما كان لكل واحد نصيبه.
ولم تكن عزلته إلا أنه عزل نفسه هو عن الناس، لكنه لم يكن يعزل عنه الأفاضل من الناس وأهل العلم وطلابه وتلاميذه من كافة الأنحاء، كان يفتح باب بيته لكل هؤلاء أما هو فلا يخرج لأحد. وفى النهاية المحتومة، اعتل المعرى أياما ثلاثة، وبعدها أسلم الروح فى الثالث من ربيع الأول سنة 449هـ، عن عمر ناهز السادسة والثمانين.
مشاركة منتدى
31 تموز (يوليو), 21:33, بقلم هبه محمد السيد محمد
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا على هذه المعلومات المفيدة.. اختيار موضوع جيد وعرض مميز للمعلومات
5 آب (أغسطس), 15:59, بقلم د أيمن عيسى
وافر الشكر والامتنان لسيادتكم أستاذة هبة