أبو فِراس الحَمْداني هل هو موسوعة شعرية؟
أن يكون بين أبي فراس الحمْداني والمتنبي قطيعة أو جفاء فأمر طبيعي، خاصة وأن أبا فراس شاعر له جولته وصولته في الدولة الحمْدانية، فهو ابن عم سيف الدولة أمير حلب، وها قد وفد إليها شاعرغريب حظي برضا الأمير سيف الدولة وإعجابه، فيستأثر بحبه، بل هو يجيزه بما لا يجيز غيره، مما جعل أبا فراس يخاطب ابن عمه، فيقول:
" إن هذا المتشدّق كثيرالإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينارعن ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره."
(انظر: البديعي: الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي ، ص 88- 92)
غمر المتنبي شعراء عصره وحجبهم إلا أبا فراس، فهو صاحب ملَكة شعرية ترفِدها مكانته فارسًا في الدولة الحمْدانية.
لكن الغريب، بل المدهش أن نرى في أبي فراس هذه الحافظة التي ذُكرت عنه، فالمتنبي ينشد قصيدته في عتاب سيف الدولة، وأبو فراس يتصدّى له بعد كل بيت ليثبت له وللمجلس أنه لم يأت بجديد، وكأنه قد أعد الردود مسبقًا.
اعترض أبو فراس المتنبي عدة مرات، واستوقفه وهو يلقي قصيدته التي مطلعها:
"واحرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شبِمُومَن بجسمي وحالي عنده سقمُ"
الشاعر الحمْداني يذكر المآخذ على هذا البيت أو ذاك، بل يتهمه بأنه طرق معنى تلو المعنى مما قاله غيره من الشعراء الأوائل.
يقرأ المتنبي قصيدته التي أعدّها، فيوقفه أبو فراس ليردّ عليه مما اختزنه في محفوظه، حتى البيت الذي أضافه المتنبي بعد أن أهين في مجلس الأمير:
إن كان سركم ما قال حاسدنافما لجرح إذا أرضاكم ألم
يجد هذا "الحاسد" الرد عليه، بأنك "سرقت" المعنى من شاعر قبلك، ولم يكتف بشاعر واحد بل أتى بشاعر ثان، وقد سبقا في المعنى نفسه.
لنقرأ هذه المسرحية الأدبية النادرة وقد أوردها البديعي (م.س):
"وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي، وانقطع يعمل القصيدة التي أولها:
وأحرَّ قلباهُ مّمن قلبه شَبِمُومَنْ بجسمي وحاليِ عنده سَقَمُ
وجاء وأنشدها، وجعل يتظلّم فيها من التقصير في حقّه كقوله:
مالي أكتَّمُ حُبًّا قد برى جَسديوتدَّعى حبَّ سيف الدّولة الأممُإن كان يجمعُنا حُبٌّ لغُرَّتهفليت أنَّا بقدر الحبّ نَقتسمُقد زرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغْمَدَةٌوقد نظرتُ إليه والسيوف دَمُ
فهمّ جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة؛ لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتيفيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصْمُ والحَكمُ
فقال أبو فراس: مسخت قول دِعْبِل وادّعيته وهو:
ولست أرجو انتصافًا منك ما ذَرَفَتْعيني دموعًا وأنتَ الخصمُ والحكمُ
فقال المتنبي:
أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةًأن تحَسَب الشحمَ فيمنْ شحمُه وَرَمُ
فعلم أبو فراس أنه يعنيه؛ فقال:
ومن أنت يا دعيَّ كندة حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟
فاستمر المتنبي في إنشاده، ولم يردّ إلى أن قال:
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنابأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُأنَا الذي نظر الأعمى إلى أدبيوأسمعتْ كلماتي مَن به صمَمُ
فزاد ذلك غيظًا في أبي فراس، وقال:
سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد في قوله:
أوضحتُ من طُرُق الآداب ما اشتكلتْدهرًا وأظهرتُ إغرابًا وإبداعاحتى فتحتُ بإعجاز خُصِصْتُ بهللعُمْي والصَّمّ أبْصارًا وأسْماعا
ولما وصل إلى قوله:
والخيلُ والليلُ والبيْداء تعرفنيوالحرب والضرب والقرطاسُ والقلمُ(في الديوان: الخيل والليل والبيداء تعرفنيوالسيف والرمح والقرطاس والقلم)
قال أبو فراس:
وما أبقيت للأمير، إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة، والرياسة والسماحة، تمدح نفسك بما سرقتَه من كلام غيرك، وتأخذ جوائز الأمير؟
أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسوَد النَّخَعي الكُوفّي المعروف بابن العريان العثماني، وهو:
أعاذلتي كم مَهمهٍ قد قطعتُهُأليفَ وُحوش ساكنًا غيرَ هائبِأنا ابن الفلا والطعنِ والضرب والسُّرَىوجُرْدِ المَذاكِي والقَنا والقواضَبِحليمٌ وَقورٌ في البوادي وهيبتي *لها في قلوب الناس بطشُ الكتائبِ
فقال المتنبي:
وما انتفاعُ أخيِ الدُّنيا بناظرهإذا استوتْ عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ
قال أبو فراس: وسرقت هذا من مَعْقِل العِجْلي، وهو:
إذا لم أُميَّز بين نورٍ وظُلْمةبعينيَّ فالعيَنان زُورٌ وباطِلُ
ولمحمد بن أحمد بن أبي مُرّة المكّي مثله، وهو:
إذا المرءُ لم يدركْ بعينيه ما يُرَىفما الفرق بين العُمْيِ والبُصَرَاء
فغضبَ سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال:
إن كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنافما لجرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ
فقال أبو فراس: أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتُمْ بأن نُجْفَى وسَرَّكُمُقَولُ الوُشاةِ فلا شَكْوَى ولا ضَجَر
ومثله لابن الرومي وهو:
إذا ما الفجائُع أكسبنيرضاك فما الدهرُ بالفاجع
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قاله أبو فراس، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي عنه في الحال، وأدناه إليه، وقَبَّل رأسه، وأجازه بألف دينار، ثم أردفهُ بألف أخرى.
كل ذلك لم يفتّ من عضد المتنبي، فالبيت الذي يقوله- حتى لو كان هناك ما سُبق فيه - بالمعنى نفسه، فإنه تظل له مكانته واشتهاره، فمثلاً في بيت أبي العتاهية:
ما كل ما يتمنى المر يدركهرب امرئ حتفُه فيما تمنّاه
فقد أورده المتنبي باختلاف العجز، وبتشبيه تمثيلي مبدع بارع:
ما كل ما يتمنى المر يدركهتجري الرياح بما لا تشتهي السفن
هذه مسألة تناولها النقاد بآراء متباينة، لكني هنا أتوقف عند أبي فراس متسائلاً:
هل حقًا كان بهذه الموسوعية؟
يرتجل الإجابة والأدباء في مجلس سيف الدولة ينصتون، وكأن المسرحية لعبة (بنغ بونغ)، يقول المتنبي، فيصده أبو فراس ويتحداه، وكأنك لم تقل جديدًا.
لقد بدا أبو فراس دارسًا خطيرًا للشعر، بل عارفًا بما يعنيه المتنبي، يردّ ردّه باندفاع، وكأنه على انتظار لما سيقال.
مسرحية جميلة، ولا ننس استمرار المتنبي في إلقائه، ومن جهة أخرى يقرأ أبو فراس في حماسة معينة الأبيات التي يراها أنها الأصل. وأمامنا مشهد الأمير المتقلب في التعامل مع المتنبي، ولنتخيل بعد ذلك الشعراء في المجلس وهم يستمعون إلى الشاعر وإلى أبي فراس!
هل نجد ذلك اليوم؟