الأربعاء ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم رشا السرميطي

أتراني أفهم لغة الغيم؟

أتراني أفهم لغة الغيم؟

نعيشُ وتُعلِّمنا الحياة بأيَّامها المتغيّرة، تتنقّل فينا بعجلاتِ الزّمن البطيئ، مسرعةً نحو فصولِ السَّنةِ العُمُرية، بل عمرنا، نقفُ مذهولين بزحمةِ مُجرياتها، نُطبِّق فيها قانون المفاجئة اللُّغوية:« لكل حدثٍ وحادثٍ زمنيّ تأثير علينا، ولكلٍ أثر، قد يكون مشابهاً لمِا تمنيناه وتنبأنا له أن يكون أو معاكساً لرغائِبِنا». نرضى بما يجُريهِ اللهُ علينا بحكمتهِ وتقديره، سبحانهُ العالمُ بمقادِيرنا الغيبيةِ التي كنَّا بها في الأمس، والحَكَمُ بما يكونُ في أيامنا، والعدلُ بما سيكونُ في مستقبلنا.

لا شيء في مختبرِ عمرنا الحياتيَّ ثابت، ومشاعرُ الناسِ غالباً ما يطرأ عليها التحوّل. من كتابةٍ لأخرى، نظنُ بأنَّ العمرَ قد انتهى، وعندما لا يأتينا الموتُ كما توقعناه أكانَ حلولهُ قضاءً بنا أو بغتةً، نتعلّمُ أكثر مما يطرأ علينا من حوادثِ الزمان، وبُعدِ الأجلِ عنَّا، ومن الوقتِ الذي يبقينا على قيدِ الحياة حريٌّ بنا التَّعلُم، لكي نستغلَّ فرصةَ بقائِنا أحياءَ بأملٍ وعملٍ، لنصبحَ من ذوي النُهى. نكبُر وتكبُر أحلامنا، ثمَّ نُصغِّرالأحداثَ من حولنا بيقينِ صبرِنا عليها، وبما أعدّهُ الله جزاءً لعبادهِ الصَّابرين، نُلغي الكثيرَ من آثارها، فلا يبقى لنا سوى الذِّكريات، وظلالُ الآمالِ عن الأطلالِ لا تغيب، كذا الابتسامةِ التي تنتظرُ ميقاتَ فرحٍ لِتلدَ على شفاهِنا السعادةَ الأزليةَ التي لطالما كنَّا لها حالمين. نبكي، فتسقطَ آلامنا دمعاً مُؤمناً تكتسي بهِ قلوبنا بخيرِ ما كُتبَ لنا في صحائفِ أعمالنا، بالحزنِ والفرحِ نتعلم أكثرَ من هذه الدنيا، والآخرة خيرٌ لنا وأبقى.

بالرُّغمِ من غيابِ الدفءِ الذي كان يضمّنَا، وما أصابنا من حزنِ الأمسِ بغيابِ ضياءه، مضينا بمعيّة اللهِ معاً، فرادى سائرين، بعدما كنّا زوجينِ ونصفينِ مقسومينِ ومتطابقينِ لا يصلحانِ بلا بعضهما، واللهُ لم يزلْ الرفيقَ الشاهدَ علينا، والمطلِّعُ الذي لا تَفوتهُ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ عن أحوالنا، أصبحَ الفراقُ حُكماً وحَكماً وحاكِماً علينا، وأيُّ الأحكامِ قد ترضينا! اقتطعَ كلٌ منَّا قَسْراً تذاكر رحيلهِ عن الآخر، وعن زورَقِ أحلامهِ المعقودةِ على أملِ البقاءِ الخالد. بدأ كلانا يتجرَّع مرارةَ الابتعادِ والاغترابِ عن ذاته، وتمادت الأيَّام من حولنا لتقصينا عن مرآة أنفسنا، وتسلب أفراحنا المغمورة بدفء الحنين. لاحت مناديل الوداع مآقي كلينا بألمٍ وشوق، بعدما أضحى كل منّا في محطة آهاتٍ جديدة توقف عمره السعيد، أُذرف الوجع منِّا أملاً بعودتنا كما كنَّا في سابق عهدنا المتين، رفضاً باقصائنا عن بعضنا، رحلنا، والصقيعُ الكئيبُ يغمر قلوبنا بمفردات الزَّمان وقسوة الحرمان، وكلٌ منَّا يُردِّدُّ في نفسه التي ما فتئت تمقتُ الانتظارَ أمامَ سطوةِ الأشواقِ التي تغتالنا: يارب؛ إلى اللِّقاءِ والبقاءِ واللِّقاءِ الآخرنظلُّ معاً.

أفلتْ شمسُ اليومِ، وما اعتدتُ الغيابَ عن شمسي ! أهيمُ في غياهبِ التّمني والرّجاء، وأحرُفي دائرةٌ حولَ سطورِ كلماتي، تصنعُ منها جُمَلاً حائرة، ثائرة، تُفتَّشُ عن الورق. مُنازلةٌ تتكسرُ على مرأى الزّمنِ المتثاقلِ بنا، المائل نحوَنا وفينا، تُفشَّي صفحاتٍ من أسرارِ العمرِ طويناها معاً، كلٌ لوحده قد آثرَ غُربةَ شمسِ روحهِ عن الآخر. تكادُ تُطوى أحلامُنَا الزرقاء، لولا تمسُّكِنا فيما بيننا، وقوة إيمانِنَا بما نُضمِرُهُ في وَجْدِنَا، دُمنَا معاً، وحبالُ الثقةِ باللهِ تجْمعُنا، كنَّا ومازلنا بذاتِ ضراعتنا للهِ أنْ يهبَ لنا مزيداً منَ الفرحِ والحبِ والحياة. أصبحَ حبرُ أقلامنا مَشُوباً بالأحزانِ، مملوءاً بالمآسي من كثرةِ الحداد، نحو الأسود صار مائلاً، كما الأشياءُ من حولنا لم تغدُ صافية.

حدّثتُ قمرَ السماءِ، بعد أن صارت أفكاري مزجاً من تشاؤمٍ وتفاؤل، وليلتي اكتملت بدراً، عندما آنَ لكلماتي أن تشتقّ الأسطرَ لـتشهدَ فجراً جديداً يعزفُ لحنَ الفرحِ بعبيرِ الأمل، قد أعلنها قلمي بدايةً أخرى على أطرافِ حكايتنِا النبيلة. سنابلَ قمحٍ أخضرٍ تنمو في الطريق، وتشربُ المطر بنَهَمِ ظَمئِنَا إلى لحظاتِ رجوعنا، إنْ كنَّا لدربِ الرّجوعِ نَسلُكْ، وأيُّ طريقٍ إلى الربيعِ يسلُكهُ شتاءُ آمالِنا وأحلامِنا الأصيلة ؟ في موسمِ شتاءٍ غابَ فيهِ المطر وغبنا معاً، كان طارئاً مفاجئاً، ثم صار بقربنا أو أصبح بعيداً عنّا، ونحن منغمسين فيه حدّ الغرق.

تكبرُ الرّقيع في عيني وتتوسعُ كلما نظرتُ إليها طويلاً، كفوهةِ الحُلمِ تزدادُ اتساعاً، والنُّجومُ تصغرُ ثمَّ تضمحلُّ حتى ينطفئَ نورُها، الليلُ صارَ أكحلاً بعنوانِ واقعٍ مزعجٍ صيّرَنا معاً في بوتقةٍ ضيِّقة. السماءُ مليئةٌ بالغيومِ، كما رأسي محشوٌ بالأفكارِ الجميلةِ والقبيحةِ في آن، أشعرُ بروحِي تصعَدُ عالياً حيناً، وأحياناً أخرى أشعرُ بها تهبِطُ دانيةً جداً، بذاتِ الثانية، والأقلِّ منها، ينقلبُ الحال. عينايَّ تتنقلان بين أكوامِ الغيمِ النَّاصع البياض والأقل بياضاً، حتى أصلَ إلى ما تلوّن بالرّماديّ، فأزداد تألقاً ورهبةً. من على شرفةِ البقاءِ أطلُّ آملةً لفهم الأضواء، أنصتُ للغيوم مطوّلاً، حتماً – في موسمِ الشِّتاءِ سيهطل المطر- كأنّها تحدثني بشيءٍ ما سيحدث، أو ربما تنبؤني وتذيعُ لي خبراً عن أشياءَ كثيرةٍ آتية، الأمرُ أعظمُ من مشهدٍ رومنسيٍّ يشدّني إليها، ويأسِرُني شوقاً لِما تُكوِّنه السُّحب حولَ الغد، وأسرار اليوم الحاضر، وما عصيَّ عليَّ حلّهُ من تلكَ الأُحجية.

لا أملك شيئاً سوى الصوّر التي تعتملُ داخلي، وأصداءُ مَنْ حولي تردّد العبارات التي كانت بيننا، جُمَلاً كتبناها، أو رسائلَ أرسلناها. كأنني في حلم، أغمضُ عينايّ بحزن، وأطلب من الله أن يرزُقَنا الخير، فيسقط اللؤلؤ منهمراً على دفتري، وعقد الحب انقطع، قد تناثرت حباته حولي متبعثرة، كما أنا كذلك في تلك اللحظة، تنظر إليّ وتنتظر مصيرها، وأنا على مقعد انتظاري خائفة من القادم، وحيدة مستوحشة، أشعر بهمسي المرتعش كيف صار قارصاً، أضمُ أملي بين أضلعي، وأدعو الله بأن يجمعنا في الغد، ويكون القادمُ لنا أجمل ممَّا مضى، ثمَّ أرفعُ بنظري إلى السماء، وأرجوهُ أن يزيحَ الغيمَ عن أُفقِنا، أقولُ مرددةً بصوتٍ يهزّ ما في داخلي وداخله: «اللهم إنّي أسألك الخير لنا». وبعد برهةٍ، أهبط من جديد بنظري من علوٍّ شاهقٍ إلى الأرضِ لأشاهدَ التراب، أفكِّر بما سيكون عليه حالنا عندما نعودُ إليه ! أترانا سنكون فيه معا ً؟ ونمرّ على الصراط بسلام، حتى نصل باب الريّان معاً، فندخل من ذات الباب فرحين مستبشرين ببعضنا !

طيورٌ من التساؤل الضبابيّ تحلِّقُ فوق رأسي، من لا شيءٍ ولا جديدٍ حادثٍ، أجدُني أُحلِّق بعينِ خيالي والتساؤلُ قابعاً أمامي، باعثاً في نفسي قلقاً وتوتراً غامضاً، وكأنَّه سؤالاً حارقاً يغلي داخلي، يفورُ في أعماقي باحثاً عن منفذ: أين أنا ؟ أين هو؟ بل، وأين نحن ؟ عدت إلى جلستي أتأمل ذات المشهد الذي دعاني لكي أكتب، أحاور ذاتي حديث الروح للروح، وأقاسم عقلي بفكرٍ منهمر، ولكن دون جدوى من الحصول على إجابة لتساؤلاتي التي تتأجج داخلي.

لا أعلم شيئاً، وبعد الآن صرت لا أفهم شيئاً، الغيم تكدَّسَ أمامي، والنور ينسله الليل القادم، قد حلّ الظلام متفشياً، قاتماً، يمحو جميع الأضواءَ حوله، تلاشى كلُ شيء، وأنا وحدي أنظرُ إليه، ولهيبُ شمعةِ انتظاري يتمايل مع الريحِ العابرةِ من نافذةِ تأملاتي الظمآى لارتواءٍ يُحقِّقُ الموازنةَ الأصعبَ نحو بلوغِ سعادتنا، كلّما هبَّتْ عالياً لتُطفئها، أخذتُها بين أضلعي، كأمٍ تضمُّ وليدها ذي الأيام عمراً، تغلغلَ الدفء المؤقت قليلاً في صدري، حتى إذا ما سكنتْ أفلتَّها متوجِّهةً إلى الله بقلبي الذي يقبع في كفي سائلةً إياه بقولي: ياربي؛ أسألك أن تغيّر تقلّبات دهرنا إلى أفضل مآل، يا الله، أفرغ على قلوبنا من لذَّةِ الإحساسِ بالطمأنينةِ والأمنِ والسلام، واجعل أيامنا نبعاً عامراً، دافقاً، زاخراً، بالحبِ والدفءِ والعطاء.

سكونٌ قاتل، وأصواتٌ مختلطة تحملُ البُشرى من كل مضرب. أجولُ بذاكرتي المهجورة من أسعد اللَّحظات والأوقات، وأقلِّب الثواني الجميلة بحثاً عن الأمنيات، لا أجدُ شيئاً من أغراضي وآمالي، وكأنّ إعصاراً قد هبَّ مؤخراً فأصابَ النّفسَ بشتاتِ الوتر. لم أعدْ أعزفُ الكلماتِ لحناً متماسكاً، النوتةُ لم تكتمل بعد، والروحُ تسأل مرآة الروح: أتراني أفهمُ لغةَ الغيم؟

من مذكرات أبو حنين وأم حنين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى