الأربعاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم رواء الجصاني

أحدثكم عن بيت الجواهري

الأول والأخير في العراق

بعد كتابات ومطالبات وحملات اعلامية داخل البلاد وخارجها، أعلن أمين العاصمة العراقية صابر العيساوي، قبل فترة وجيزة قراراً باستملاك بيت الجواهري في بغداد، القائم – حتى الآن على الأقل - في منطقة القادسية - حي الصحفيين، لمنع دثره، باعتباره ارثاً ثقافياً ووطنياً، وبهدف تحويله إلى متحف يضم ما تبقى من مقتنيات وآثار لشاعر الأمتين، تناهبتها الأحداث، والمغتربات، وآخرها في العاصمتين التشيكية والسورية: براغ ودمشق...

وبعيداً عما نشر اخيرا بهذا السياق، في وسائل الاعلام العراقية، والعربية، من مقالات وتصريحات واستكتابات متنوعة ومتباينة، لنا عنها، وحولها، كثير من التساؤلات والتوضيحات المؤجلة لحين قريب كما نتمنى... بعيداً عن ذلك نقول: ان بيت الجواهري الوحيد، وهو الأول والأخير له في العراق، مبنى اعتيادي مع فضاءات خضراء، على مساحة اجمالية تبلغ 540 متراً مربعاً، وهي واحدة من قطع الأراضي التي وزعتها الدولة، ذات زمان، على الصحفيين... وانجز تشييد البيت أواخر العام 1971 بشكل متواضع، وغُطيت نفقاته بين تمويل ذاتي، وقروض، وديون شخصية... وقد سكنه الجواهري وهو رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين آنذاك، منتقلاً إليه من الدار التي استأجرها له نجله "فلاح" أواخر العام 1968 في حيّ الداوودي، عند عودة شاعر البلاد العراقية إليها، بعد "سبع عجاف" قضاها اضطراراً في اغترابه الأول إلى براغ بدءاً من عام 1961 حين "لم تكفل له الأوطان دارا"...

... وبيت "ابن الفراتين" الذي احدثكم عنه ليس سوى بيت تقليدي كما أشرت، يضم ثلاث غرف نوم، وغرفة استقبال وأخرى للجلوس، مع المرافق الضرورية... وقد شهد طوال عقد السبعينات الماضية أحداثاً ووقائع وتفاصيل متشابكة لمديات بعيدة في الشؤون والشجون الوطنية والثقافية والشعرية وما إليها، وما بينها.

... وذلكم البيت، الأول والأخير، والوحيد، على ما ندري ونؤكد بيقين، تملّكه الجواهري، ملكاً صرفاً بعد ترحال وإقامة واغتراب، وتغرب، وهو لا يحمل معه غير "منقار وأجنحة" على مدى نصف قرن... وفي ليالي ذلك البيت، ونهاراته، أينعت العبقرية الشعرية قصائد ومطولات عديدة... فيها ومنها الانساني، والوطني والاجتماعي والعائلي، ولافكاك بينها من التداخل والتلازم مع الهموم والانشغالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وما إليها...

وعلى مدى السنوات العشر – تقريباً - التي عاشها الرمز العراقي في بيته الذي نعني، عصفت بالبلاد وأهلها محن هنا، ومآسٍ هناك، تحت سلطة الحزب الواحد فالعشيرة، فالعائلة فالفرد... وقد كان الجواهري يعيش تلك الأجواء الأليمة، بكل صبر، وان تغلفت أحياناً ببراقع تفاؤل بها البعض، غير القليل، بآمال وتمنيات ولحد المبالغة في أحايين عديدة... وبهذه الحال كان ذلك البيت ذاته – لا غير – مزار أطياف ونخب سياسية متباينة الرؤى والمسؤوليات وحتى الوفاء احياناً، فبعضها صادق أمين، وآخر متزلف متدثر بألف زيٍ وزيّ... ولكنها كانت جميعاً، في حضرة الجواهري – على ما نشهد علناً - دعاة تآلف ومحبة، وان راحت احياناً في الأقوال وحسب...
... كما كان البيت الذي نعنى، ملتقى للنخب الفكرية والثقافية والشعرية، من كل النحل والرتب، تؤم مقام الجواهري: مودة وتلمذة وتباهياً، دعوا عنكمو الآخرين الذين كانوا يريدون صكوك الغفران... وكم يطول التعداد، ويعرض، ويعلو، لمن زار، وأحبَّ، وتبارك بزيارة أو لقاء أو حديث مع الشاعر الرمز...

... وإضافة لكل ما تقدم، شهد ذلك "البيت" التاريخي منح الجواهري جائزة اللوتس عام 1975، وولادة أول جمع وتدوين لتراث الجواهري الشعري في مجموعة هي الأهم – على ما نزعم – حتى الآن، ونعني بها الأجزاء السبعة (1973-1980) التي أشرف عليها: مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وابراهيم السامرائي ورشيد بكداش، مع حفظ الالقاب... كما راحت تترى من البيت ذاته مختارات الجواهري لعيون الشعر العربي، أواسط السبعينات لتنشرها صحيفة الجمهورية البغدادية بمتابعة محمد حسين الأعرجي... ذلكم إلى جانب ما شهده البيت من المقابلات والحوارات التاريخية مع الجواهري ومن أهمها على ما نزعم الحواران التي انجزهما محمد الجزائري عام 1975 وحسن العلوي عام 1979...

ومن ذلك البيت الذي نوثق له، وعنه، كانت انطلاقات الجواهري لعواصم عربية وعالمية عديدة: رئيساً لوفود أدباء العراق في مؤتمرات ومشاركات رسمية، أو ضيفاً أول على فعاليات ومهرجانات عديدة: شعرية وثقافية وغيرها، ومنها إلى دمشق وتونس وصوفيا وموسكو والدوحة والكويت وابي ظبي وعديد سواها... ذلك الى جانب " فراره " من البلاد لفترات متفاوتة، وذلك الى القاهرة والرباط واثينا، دعوا عنكمو براغ التي بقيت "جنة الخلد" عنده... مخاصماً وغاضباً ومغاضباً، مسؤولين وحساد وحاقدين، بل وحتى محبين " علهّم كانوا حيارى في مفترق الطرق "..
وفي ذلك البيت الذي نعني، اينعت روائع جواهرية، ومقطوعــــات وجدانيـــة ووطنية واجتماعية عديدة، نحصر منها: * مطولة "حبيبتي" عن زوجته آمنة... * مناجاة "يا فرحة العمر" عن شقيقتـــه نبيهة... * مقطوعة "ابا مهند" إلى نديمه مهدي المخزومي... * بائية "إلى وفود المشرقين" في تجمع عالمي ببغداد... * دالية "أزح عن صدرك الزبدا" المجللة في احتفاء اقيم له في النجف... * " فتى الفتيان" عن صديقه "المتنبي" في مهرجان مهيب ببغداد ... * " أم الربيعين" خلال احتفال تكريمي خاص به في جامعة الموصل...

كما وفي ذلك "البيت " ايضاً لا غيره، " نُظمت " قصائد مجاملة، كان بعضها استجابة لمناشدات – كنا شهود عيان على بعضها – وذلك من زعماء سياسيين، لكي يلقي شاعر البلاد ، ورمزها العظيم، بثقله، ويحاول تأخير انقضاض سلطات البعث - ولو لبعض الوقت - على الأحزاب والقوى الوطنية "المتحالفة" معها أو "المعارضة" لها... ومعلوم طبعاً ما جرى خلال عقد السبعينات الماضية من عسف وقمع وارهاب شمل الالاف ، ومن بينهم ً نجل الجواهري "كفاح" اعتقالاً وتعذيباً، وابنته الوسطى "خيال" احتجازاً وتخويفاً... ثم، ومن ذلك البيت الذي نؤرخ له، لجأ الجواهري إلى الاغتراب مجدداً، غضباً، وموقفاً من سياسات وتوجهات السلطات الحاكمة، فغادر إلى براغ أولاً مطلع العام 1980 ومنها إلى دمشق عام 1983 وحتى رحيله فيها عام 1997…

... اخيرا دعونا نوثق مما توفر لنا سريعا بهذا السياق، فننقل عن " أميرة " ابنة الجواهري الكبرى في حديث خاص معنا (آيار / مايو 2000): ان والدها لم يفكر يوماً بتملك بيت، طيلة أربعين عاماً تقريباً وحتى عام 1971... وكان التنقل في بيوت الايجار ( في الحيدرخانه، الجعيفر، الاعظمية، الكرادة... وغيرها من مناطق بغداد) سمة مميزة تنسجم ومزاجه المتمرد والكاره للرتابة.... وقد توفرت له فرص للتملك إلا انه "ضيعها" غير آسف عليها...."

... وفي الموضوع ذاته يقول حسن العلوي في كتابه "الجواهري رؤية غير سياسية" الصادر عام 1995: في العام 1979 اصطحبت معي الى بيت الجواهري بعثة صحفية لقضاء يوم كامل على غير موعد معه فسجلت عدسة المصور الفنان الراحل "محمد علي حسن" زوايا لم تكن مخفية على عيون زائريه... ودخل حتى غرفتي النوم والمطبخ... ولم يجد مكتبة، لكنه وجد رفوفاً. ولم يجد مطبخاً ولكنه وجد قدرين من الألمنيوم القديم... كما ولم تكن للجواهري غرفة نوم مستقلة، وكان يضع ملابس الشتاء في حقيبة تحت سريره، ويعلق على الحائط ملابس الصيف. ويفعل العكس في الشتاء....

... كما ونشير بهذا الصدد لما نشره فوزي كريم (الشرق الأوسط اللندنية 4/11/1991) في موضوع مسهب عن الجواهري في السبعينات، نقتطع منه: "كان بيت الجواهري متواضعاً، كنا نقتحمه احياناً آخر الليل، أنا وسعدي يوسف مدفوعين بأكثر من هاجس شيطاني، قراءة لبيت مثلاً:

الحمد للتاريخ حين تحولت …تلك المرافه فاستحلن متاعبا

او عبارة واحدة "با نبتة البلوى" يخاطب بها جياع الشعب. أو كلمة "تقحم" او "خسئوا". وكان الجواهري يستقبلنا دون ترحاب معظم الأحيان قائلاً: "الساعة الواحدة يا جماعة. ويتأمل ساعته ونحن نبصبص تحت الطاولة. لا تخلو طاولة الشاعر في الليل. كنا نعرف ولكن من يجرؤ في ساعة كهذه أن يسأل. ونسترضي ابا فرات، نقول: "أنت تعرف محبتنا " ونغني له طربين من شعره... فيستجيب..."

الأول والأخير في العراق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى