الأربعاء ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

أحلام مبهمة

وضعت أحلام يدها على شعري برفق، تداعبه وتقول: ما أسعدني بك يا حبيبي؛ فقد أعطيتَ لحياتي طعماً، ولوناً، ورائحة، في زمن فقد كل شيء رائحته، ونكهته، حتى الخبز لم يعد له رائحة. أصبح كل شيء اصطناعيا، حتى العواطف، أصبحت تزرع في قلوب لا تشعر بها، كما الزرع في بيوت بلاستيكية. الجميع يتذرع بالسرعة؛ وبأن لا وقت للانتظار، لدرجة تبديل العواطف بأسرع من تبديل قصات الشعر أو المكياج، أو ربطات العنق. قالت لي: لا تنزعج من صراحتي، فأنت لا تشبه هؤلاء على الإطلاق، أنت من عصر آخر.

نظرتُ إلى صورتي في المرآة، وأنا أفك ربطة عنقي، فتسمّرتُ لبـُرهة أتأمل نفسي.. دُهِشت وكأني أول مرة أتعرف فيها على ذلك الشخص، حتى أني كدتُ أمد يدي مصافحاً، اقتربت من المرآة لأتمعن أكثر بصورته، فإذا هو يشبهني بكل تفاصيلي؛ وخصوصا ملامح الوجه، ألصقت وجهي بالمرآة ... يا إلهي إنه تطابق تام، تلفتّ حولي بذعر فلم أرَ أحداً، نظرتُ في مرآتي فرأيتُ جيشاً من نسخة صاحبي الذي أمامي؛ كلهم يشبهونني. شعرت بحزن دفين، لأن أحلام تظن أني الإنسان الكامل، الذي لا يشبه الآخرين، كيف إن عرفت الشبه بيني وبين جميع أولئك؟ هل أبرر موقفي قائلا: هم يشبهوني ولا أشبه أيا منهم؟ فركتُ عينيّ، علــّه يكون حلماً أو خداعاً بصرياً، لكن تيقنتُ من شكـّي، لأن الصورة ذاتها مازالت موجودة.

قلت في نفسي: سامحيني يا أحلام، إنـّي لم أدعي الفروسية يوما في حياتي، لكن حبك لي جعلك تريني؛ كالمتنبي في الفصاحة، وكعنترة في الشجاعة. أنا عشقتك كذلك يا أحلام، حتي إني عندما أخلو بنفسي أشم رائحة الأزرار في مسجل سيارتي لأن أناملك لامستها، كنت أشم عطرك، وأسكر بخمر معتق، لا أستفيق منه إلا عندما تتعالى أصوت أبواق السيارات من خلفي منذرة أن الإشارة أصبحت خضراء، وأوشك "اليخضور" على التلاشي، منذرة بالإغلاق مرة أخرى. أدقق في وجوه من حولي حينما نقف على الإشارات، فإذا بنا نتشابه جميعا، أتمعنُ في عيونهم، بعضهم يبتسم لي ببلاهة "لزوم الإتيكيت"، وبعضهم يشيح بوجهه عني.

قررت أن أصارح أحلام عمّا أعانيه، لكن خوفي من فقدي لها، أو أن ينهار صرح إعجابها بي جعلني أتردد، تغلب عليّ الشعور بالمصارحة؛ وأن الاعتراف هو أقصر طريق لراحة البال، قررتُ أن أقول لها كل شيء؛ الشبه الكبير بيني وبين الآخرين، وبساطتي في التفكير والعيش، وخوفي كباقي الناس من أشياء قد لا تقع أبدا.

ذهبتُ إلي بيتهم فور عودتي من الدوام، فتحت الباب والدتها؛ حيث أن والدها يعيش مع زوجته الثانية، ولا يزورهم إلا لماما، رحبت بي والدتها، وجلست في الصالون. جاءت أحلام يفترّ ثغرها عن ابتسامة كزهرة أقحوان، تلبس قميصاً خفيفاً، سماوي اللون، لامعا، يبرز نهديها، المتحديين، يعلوان ويهبطان بسبب مشيتها، فزادها ذلك تألقا، وزادني شقاء، مدّت يدها مصافحة، وضغطت على أصابعي، فأحسستُ كأنها ألقت بماء على سلك كهربائي مكشوف، فانتفضتُ، وسحبتُ يدي، وبعصبية أعطيتها المنديل من جيبي قائلا:

تفضلي، يا آنسة أحلام.

ما هذا منديل مستعمل؟

افتحيه.

خاتم خطوبتنا!! لماذا؟؟ ماذا حصل؟؟

يجب أن ننفصل يا أحلام.

لماذا؟؟ هل غررت بك إحداهن؟؟ أم أنك سئمت أحلام؟؟

لا هذا ولا ذاك. كل ما في الأمر؛ أدركت إني الشخص غير المناسب لك، وأني أخفيت عنك أشياء كثيرة.

ما هي؟ قل لي بسرعة، أرجوك.

أنا أشبه الآخرين يا أحلام لدرجة التطابق.

هذا الذي تقوله، يجعلك لا تشبه الآخرين أبدا؛ صراحتك المطلقة وعفويتك، وبساطتك.
ناولتني مرآة من حقيبتها على الكنبة، وقالت:

انظر.

نظرت فإذا بيّ أرى صورة والدتي، ورائحة الخبز تملأ المكان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى