أحمد مالية و «آخر أعواد البخور»
لكلِّ شاعر موقف ورؤية حول الشعر، فما الذي يراه أحمد مالية في القصيدة، وهدفها عند مبدعها، نقرأ هذا في قصيدة (بيت القصيد) في مجموعته (آخر أعواد البخور) الصادر عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع/بغداد - شارع الرشيد - عام 2024:
في كلِّ قصيدةٍ أرواحٌ مغلفةٌ
ومحطاتُ ضياعٍ
وضجيجٌ وأجراسٌ مدويّة
يختصرُ وجعَ الشاعرِ
الشعر عنده معبِّر عن وجع الشاعر، فالقصيدة مجموعة أرواح ومحطات ضياع، وتجارب يجتمع فيها ضجيج أجراس تدقُّ لتثير انتباه المتلقي بما في نفس الشاعر من ألمٍ وجرح، وأحاسيس موجعة، تنطلق من خلال التعبير الحارّ بما يتأجّج في نفسه التوّاقة الى الصراخ بقصيدة تختصر كلَّ مواجعه الداخلية:
مثقب بشظايا الخذلان
لم امتْ من الجروح
متُّ حزناً
أنا شهيدُ البداياتِ
في صدري صرخةٌ خرساء
اختزلتْ الوجعَ بالإشارات
وحزن عتيق
آمالٌ معلقة على الجدران
ومرآة مشوهة
في داخلي غربةٌ
(من قصيدة مرايا مشوهة)
هنا تجسيدٌ واختزال فنيٌّ لكلِّ ما ذكره في قصيدة ((بيت القصيد)) عمّا يرى في تعريفه للشعر ومهمته. في صدره صرخة خانقة مكتومة، محبوسة تريد الإنطلاق، فوجدت في التعبير بالكلمات لا الصوت منفذاً للخروج، والتعبير عما تحمل داخلها منْ أحاسيس مكبوتة متراكمة عبر تجاربَ، وأحداث ومشاعر في مخزن النفس، وهو ما يدفع الشاعر الى قلمه وانامله والكلمات المجتمعة في جمل وتعابير وأسلوب، وصور في لوحات من البلاغة التشكيلية في رسم مسارها لتصل الى ذائقة المتلقي، لتخرج الصرخةُ من مكامن الصدر، فتلقي ثقلها الخانق، وحينها يشعر براحةٍ وخفة في المشاعر والأحاسيس المتأجّجة. فالتجربة صخرةٌ سيزيفية ثقيلة على نفس الشاعر، وحين يرفعها عن كاهله يحسّ بخفةٍ، لذا سميت ولادة القصيدة بالمخاض الصعب الذي يستلقي المبدع بعد ولادتها على سرير الراحة النفسية والانتشاء، وكأنه يطير في الهواء ريشةً.
يضع الشاعر أحمد مالية في قصائد المجموعة أمام المتلقي كلَّ صرخاته وأوجاعها، وما تمرّ به من مشاعر ونبضات وتأملات؛ ليغترف منها ما يملأ كأسه بجماليات ولذائذ فنيّة، وما تحمله ممّا يمتاز يه الشاعر، ويغذّي فضوله وأحاسيسه. ومنْ قصائده التي تنبضّ بما يموج في نفسه من إحساس ورغبة في التحرر والحركة دون الجمود والثبات مثلما هي الحياة في سيرها النابض بالحركة والتطور وتجاوز الثابتين الخشبيين، وهي قصيدة (الصبر على الطين):
"أنا من طينٍ وماء
لن أقتربَ من النار
لا أريد أن أصير فخاراً
لا أريد أنْ ابقى صغيراً
أريد أنْ أكبرَ
كبرتُ وما زال هذا الطفلُ
صغيراً...
لم يكبر
لم يحترق...."
فهو في نصه هذا يستلهم من القرآن الكريم قصة إبليس وخلق الإنسان:
"قالَ ما منعَكَ الّا تسجدَ إِذْ أمرتُكَ قالَ أنَا خيرٌ منهُ خلقْتَني مِنْ نارٍ وخلقْتَهُ مِنْ طين" الأعراف 12
إذ يقول الشاعر بأنه الإنسانُ الذي لا يريد أنْ يتحوّل فخاراً جامداً منْ غير إحساس، باقياً على صغرٍ، فالنار هنا هو الشيطان الغاوي، الذي يحوّلُ مشاعر الإنسان وأحاسيسه الرقيقة البريئة الطاهرة الى سكون وجمود، فيبقى عالقاً في مكانه لا يكبر، بينما الشاعر يريد أن يكبر وهو مازال ذاك البريء البعيد عن الاحتراق بالنار، ليبقى طاهر النفس، نظيف القلب، نقياً من الأدران. وهو ما جهد على أنْ تكون نصوصه نقية صافيةً، رصينةً، لا تشذُّ عن اللغة المستقيمة الصافية والأنيقة، والأناقة صفة ملازمة للغته، خاصةً في غزلياته الرقيقة الجميلة، التي تذكرّنا بالغزل العذري في شعر العرب. فلْنقراْ معاً بعضاً منها:
ماذا لو جمعتُ آهاتِ العاشقين
وصنعتُ منها قصيدةً ودمعةً
أمرُّ برجالٍ
التحفوا الصمتَ
فأنثرُ آمالهم التي شاخت
في أرضٍ سقيت بقطراتٍ من أملٍ
(قصيدة أماني)
ويقول في قصيدة ((روح القمر)):
يليق بكِ السوادُ
ذلك اللون
الذي أحاط القمر
كما عينان تجوبان قلقي
فتحيلانه مستقراً
كتلك الشامة ِ المسجاة
بين كاعبيكِ
كما شعرك المتدفق
كشلال قهوةٍ
ينساب على كتفين منْ فضةٍ
نقرأ في ثنايا النصّين -كما في غيرهما من غزلياته - لغةً عذبة رقيقة أنيقة أناقةَ الشاعر نفسه، لأنَّه كما يقال "الأسلوب هو الرجلُ نفسه". حتى في اعتذاره هو أنيق اللفظ والبوح، مثلما ورد في قصيدة ((اعتذار أنيق)):
اللونُ الأبيضُ
الذي بدأ يتزاحمُ في رأسي
مستمدٌ من لون قلبي
والدمُ الذي ينزفُ
دمُ القصيدةِ
والغروبُ الذي سيحلُّ قريباً
يشبه الخشبَ
صار رماداً
ورحيلُ النارِ
اعتذارٌ أنيق للموقد
قلبُ شاعرنا أبيض، وذلك باعترافه في النصّ أعلاه! وهذا تأكيد آخر وتجسيدٌ لما ورد من أنه يحبُّ أنْ يبقى بريئاً حتى في كِبره، كما قال في قصيدة "الصبر على الطين".
يحتوي ديوان ((آخر أعواد البخور)) جملة من الأغراض والمضامين الشعرية، فالى جانب البوح بأوجاعه وغزلياته، نلتقي بالفكر والتأمل والحكمة، يقول في قصيدته الومضة ((لغة الألوان)):
من قال إنّ الصمتَ أخرس
إشارات المرور بلا صوت
لكنها ترشدُ المارينَ
فلكلِّ لونٍ معنى .. واتجاه
وحدهُ الواهمُ
مَن تختلطُ عليه الألوان
الختام
في استقراء قصائد مجموعة أحمد مالية يمكن لنا أن نوجز ما تمتاز بها، وما خصائص شعره وأسلوبه ولغته، ومضامينه:
1. معمار نصوصه محكم أنيق، وموسيقاها الداخلية عذبة عذوبة أساليبها ولغتها الصافية الرقيقة.
2. غزلياته رصينة رقيقة مترفة، فيها الأحاسيس والعواطف تسير بهدوء وانسيابية تلائم الغزل والحبّ العذري.
3. هندسة القصائد خفيفة بخطوط دقيقة، مرسومة بعفوية وطبع فنيٍّ، وسلاسة دون صنعةٍ ميكانيكية جامدة لا حياة فيها، فهي حيّة نابضة بالحركة والوهج والبريق، مصداقاً لرغبة الشاعر كما ورد في قصيدته ((الصبر على الطين)).
4. ذوق فنيٌّ رفيع في اختيار الألوان اللغوية والبلاغية المعبرة، ورسمها بتشكيلية تحيلها الى لوحاتٍ خاطفة للأبصار والذوق.
5. الملاحظ أنّ أحمد مالية يميل الى الومضات الشعرية، بعيداً عن الترهّل والإطناب والاسترسال الفائض عن حاجة النصّ، والذي يحيله جسداً شكلياً بلا روح جذّابة، بحيث يلقيه في غيابة الإهمال، وعدم جذب اهتمام المتلقي الباحث عن الجمال والإثارة الحسية.