الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم محمد نجيب عبد الله

أسطورة الزهرة البيضاء

ساكنة.. فى وقار.. نفس السكون الذى يعتريها فى لحظاتهما الخاصة.. الذى غلفها حين همس للمرة الأولى ((أحبك..)) حين أمسك يديها فى مبادرة اعتبرها فيما بعد اجتراءاً على قدسيتها..

فراش أزرق كسماء الفجر.. الجسد الراقد فى سكونه المهيب.. أغلال حريرية بيضاء تنطوى على المخلوق الطاهر.. ضباب خفيف يحيط الفراش.. يغلفها بمسحة لا واقعية.. رقيقة هى.. و ذات سطوة لا يمكن مقاومتها..

ما الذى جمّده فى مكانه لدقائق طويلة غير قادر على التقدم منها ؟!!.. ربما الهيبة.. ربما الشوق.. ربما.. هى.. بكل الغموض الذى يصم كل ما يتعلق بها.. بما فى ذلك قلبه.. تحرر.. ببطء.. تقدّم نحوها.. ترنحت عيناه على الوجه الملائكى.. أهدابها الطويلة.. وجنتيها الشاحبتين.. شفتيها المنفرجتين فيما يشبه ابتسامة.. هل تحلم ؟!!.. أما زالت تملك الحق فى الحلم حيث هى الآن ؟!.. فيما مضى.. علمته كيف يغمض عينيه.. يسلم نفسه لعوالم خفية.. تفتح مصراعيها فحسب.. لهؤلاء الذين يملكون المقدرة على الإيمان بالحلم.. شيئاً ما يشع جلالاً فى قسماتها.. يجبره على الركوع..

جثا على ركبتيه.. ماذا يبقى حين نفقد القدرة على الفرار ؟!.. حين نفقد حقنا فى البراءة.. و يضيع منا نصيبنا فى الطهر.. ماذا يحدث.. حين نصطدم بالدنس.. بالجمود.. بكل ما يحولنا من مخلوقات طفولية.. إلى آلات لا تملك حق الاختيار.. هل هكذا تكون النهاية ؟!!..

بتردد.. مد أنامله.. تحسس القسمات المرهفة.. كزهرة لوتس تفتحت تواً.. انزلقت دمعتان.. حفرتا أخدودين من النار على خديه.. حارقتان.. عذراوتان.. حين ودعها آخر مرة.. لم يذرف دموعاً.. نهرها حين أوشكت على البكاء.. يعرف تماماً متى توشك على البكاء.. اختلاجة شفتيها.. أجفانها المرتخية.. بريق يتزايد وميضه على أحداقها.. و يديها.. تتعلقان به فى استجداء.. تسلط.. و حنين تعجزه عن الرحيل.. مست أصابعه أطراف أهدابها.. سرت فى جسده قشعريرة..

عطرها يعبق المكان.. يخترقه.. ينسيه القرارات بالغة التعقل.. يجعل فراقهما مسرحية عبثية مؤلمة..

تكثف الضباب حولهما.. العالم الخارجى يتسرب بسرعة من وعيه.. الضجيج يخبو.. يحتاجها.. يحتاج الآن أن يلجأ لمحرابه.. يتلو صلاة استغفار.. ربما تصفح عنه.. شيئاً فى الكون لا يستطيع اقناعه أنها لا تسمعه.. أو لا تشعر بوجوده.. نعم.. يرى الوجه الشاحب.. العيون المغمضة ترفض النظر إليه.. قلبها الصامت فى كبرياء.. لكن شيئاً لا يحول بينه و بين إحساسها بقربه.. بإصرار.. توجه مخلصاً لهيكله.. لكفيها..

رسالة مطوية.. زهرة بيضاء.. أشياء استبقتها لأجله.. و أناملها تقبض عليها فى رفق.. فض رسالتها..

(( - لست أودعك.. الوداع لهؤلاء الذين يؤمنون بجدوى الفراق.. أما أنت و أنا فلم نعرف يوماً معنى الابتعاد.. لست أعبأ بكل ما حال بينى و بينك.. كل ما يضنينى.. أنى غير قادرة على أن أضمك لقلبى و قت اكتئابك.. و لا أنام على كفيك حين يطردنى العالم.. و أن الفاصل بيننا سيبقى كذلك حين يطوينا الموت.. لكننى لا أحتمل مزيداً من الانتظار.. أجل اتفقنا أن ننصت قليلاً لصوت العقل.. أن نقلع عن الجنون.. سامحنى.. لأنى لم أستطع الوفاء بوعدى.. شيئاً لم يعذبنى مثلما عذبتنى عيونك و هى تحتوينى للمرة الأخيرة.. لا أستطيع أن أتركك وحيداً.. و أن أتعود غيابك.. ما فائدة وجودى إن لم أهبه لك ليخفف قسوة الليالى الموحشة ؟!..

هذه هى وسيلتى الوحيدة كى أعود إليك.. أن أصبح روحاً.. القيود التى كبلت جسدى لا تملك تحجيم روحى.. و الأقدار التى جعلت انتمائى إليك خطيئة بلا غفران.. لم تعد قادرة على تشريدى من موطنى ثانية.. أنانية أنا فيما يتعلق بك.. لذا آثرت أن أبقى معك إلى الأبد.. ))

رفع كفها إلى شفتيه.. طبع قبلة طويلة فى راحتها.. إنهار.. لماذا يقاوم ضعفه الآن ؟!.. أغرق وجهه بين أصابعها.. جرت الدموع الغزيرة على كفيها أنهاراً.. يتماسك !!.. ما تفيد الدنيا بأسرها هذه اللحظة.. الكبرياء.. العزة.. عيونه التى تبخل بالعَبَرات.. كلها.. هراء..

توسل إليها.. أن تنظر له مرة أخرى.. أن تبتسم له مرة ثانية.. ثار عليها.. نعتها بالخيانة.. طالبها بمواثيق الهوى التى قطعتها على نفسها أمامه ألا تتركه.. أمرها أن تتحدث إليه.. استعطفها أن تفعل.. دون جدوى..

هل نضبت دموعه فجأة.. كما انفجرت ؟!!.. هل سلبه الموت حياته ؟!.. و سلبه حقه فى النواح عليها ؟!..

تذكر الزهرة البيضاء.. هى الأخرى مثلها.. تفتحت توّاً.. آهة شقّت أعماقه.. دامية.. رفع رأسه للسماء.. القمر منكس الرأس.. النجوم المثقلة بالشجون.. يرثونها.. تضرع.. بكل اللوعة التى تهتك صلابته.. أن تعود إليه.. ابتهل.. بكل ذرة إيمان.. بكل لمحة حزن.. أن تعود إليه.. صفعه الصمت.. بينما حملت الرياح صدى ابتهالاته لمكان بعيد.. و بقى جسدها مسجى فى هدوئه الأبدى.. أحكم قبضته على زهرتها.. طعنته الأشواك.. أراقت دمه.. صبغ البتلات بلونه الأحمر القانى..

شبح الابتسامة على وجهه يدعوه.. أصداء صوتها العابثة فى الذاكرة.. أمواج الحنين المتهادية على قسماتها.. تناديه.. ذلك النداء الذى لا يملك له غير الاستجابة..

بعناية.. ثبت الزهرة الحمراء بخصلات شعرها.. تلونت وجنتاها قليلاً بلون الحياة.. علت شفتيه ابتسامة ارتياح..

غمس قلمه فى الدم النازف.. ليخط على ظهر رسالتها..

((رائعة هى أقدارنا رغم قسوتها.. لأنها كتبت لنا اللقاء.. والآن تجبرنا على التحرر من قيودنا البشرية التى حددت لمشاعرنا بداية بالميلاد.. و نهاية بالموت.. لتلبسنا أكاليل الحرية.. لتدخل بنا مملكة الحلم.. حيث أنت أميرة.. لا راد لقضائها.. حيث عشقى لك ممتد من قبل الأزل.. باق ما بعد الأبد..

إننى أجعل دمى مداداً.. لا لأكتب عنا.. لا أحد ينسج الخلود بكلمات.. و لا لأنتهك قدسية حبى لك بكلمات الهوى المبتذلة.. إنما فحسب.. لأقول لكل الأشياء التى باعدتنا كم كانت تافهة و عقيمة.. و لكل الذين سخروا منا.. كم كانوا من الحمق حتى أنهم لم يصدقوا أن امتزاجنا قدر.. انصهارنا.. مصير لا سبيل للخلاص منه.. إن قوتى تتلاشى الآن.. سألقاك فى لحظات.. لننعم معاً بالسكينة التى حرمنا منها طويلاً.. و نبقى إلى الأبد.. أسطورة..))

الضباب يزداد تكثفاً.. يصنع حائلاً سميكاً حولهما.. القمر يرفع هامته.. يرسم لهما ابتسامة.. حفيف النسيم يصدر انغاماً عذبة.. زهرته الحمراء فى شعرها.. الرسالة ترقد كالوليد على صدرها.. احتواها بين ذراعيه.. بالقرب من قلبه الواهن.. كما تمنى دوماً.. تصاعدت النغام.. اتسعت ابتسامة القمر.. نامت الرسالة بينه و بينها.. أغرق وجهه فى شعرها.. أغمض عينيه.. أخيراً استعاد قدرته على الحلم.. حيث للفناء وجه آخر...

- تـمّّّّّّـــت -


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى