الاثنين ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم رانية عقلة حداد

أسلوب لمقاربة علاقات أسرية آيلة للسقوط

شخوص تصخب عوالمها الداخلية بالهواجس والهموم والرغبات والانكسارات، بينما يثقل الصمت قبضته جيدا ما بينهم، فلا يقوى أي منهم على البوح بمكنوناته للآخر... وتزداد المسافات رغم قربهم، ثم تزداد للحد الذي تصاب فيه أوصال العلاقة الأسرية التي تجمعهم بالوهن وتصبح قابلة للكسر، فيتحول معها المرء إلى غريب في بيته، هذا هو حال شخوص الفيلم الأردني القصير "قابل للكسر" انتاج 2008، للمخرج الشاب أحمد أمين.

غياب التواصل

كان المخرج موفقا في اختيار شكل غير تقليدي للسرد يلائم الفكرة، ويساهم في تعميق الاحساس لدى المشاهد بالمسافات التي تفصل أفراد العائلة عن بعضهم، فقدم كل منهم بلوحة أو منمنمة منفصلة، فلا يظن المشاهد أن ثمة أي رابط يجمع هذه الشخصيات، إلى أن يراهم في المشهد قبل الأخير مجتمعين معا حول مائدة يتصدرها الأب يتناولون طعامهم... فيفهم حينها أنهم أفراد أسرة واحدة، لا يجمعها إلا طاولة وصمت ثقيل...، إذ أن حتى الحوار البسيط الذي يدور على الطاولة حول جودة الطعام، هو حوار يشبه الصمت.

صخب داخلي وصمت خارجي

الصمت والعلاقات الأسرية الواهنة والمضطربة، هما الخيط الذي يجمع الشخصيات ويعبر عن عالمها الخارجي، فاختار المخرج أن يعكسهما - كأسلوب يوحد الفيلم - من خلال الكاميرا المهتزة المحمولة باليد، بالإضافة إلى تقديم بعض الشخصيات في أول ظهور لها بمشهد صامت خالي من الصوت؛ كما في مشهد الزوجة وهي وحيدة في المطبخ في حالة انتظار، ومشهد الفتاة وهي تنزل الدرج نحو الغرفة التي تشكل عالمها الداخلي، لكن المخرج اكتفى بتوظيف الصمت فقط في تقديم هاتين الشخصيتين، وكان من الملائم أن ينسحب هذا الأسلوب في التقديم على باقي الشخصيات مما يدعم وحدة الأسلوب في الفيلم، ويعمق الاحساس بالتضاد لدى كل شخصية بين الصمت الخارجي - في المشهد الاول الخالي من الصوت- والصخب الداخلي لاحقا في الأغنية المصاحبة لكل لوحة والمعبرة عن الهواجس الداخلية للشخصية.

لكل عالمه الخاص

خمس شخصيات لكل منها عالمها الداخلي الخاص يرسم ملامحه المخرج من خلال لوحة/ منمنمة تحمل عنوان رئيسي في البداية؛ "تضيع وقت"، "رغبة" "مساحة"،... ثم أغنية قديمة تتنوع بين العربية والإنجليزية حسب ملاءمتها للشخصية، تحتل كامل شريط الصوت المرافقة لفعل الشخصية في الصورة، لتشكل هذه المنمنات الخمس في مجموعها صورة عامة مؤلمة للعلاقات الإنسانية الواهنة التي تربط أفراد العائلة ببعضها البعض في وقتنا الراهن، وبما أن كل لوحة تحمل عنوانا مختلفا عن الآخر تبعا لخصوصية العالم الداخلي للشخصية، كذلك يجب أن ينعكس هذا الاختلاف وتلك الخصوصية على الأسلوب الفني المصاحب لكل لوحة، الأمر الذي تمكن منه المخرج في بعض اللوحات وفلت زمام الأمر منه في بعضها الآخر فلم نلمس استمرارية لخصوصية الأسلوب الفني فيها، فمثلا أعطى خصوصية لللوحة التي تحمل عنوان "مساحة" فقدم الابنة (هنا أبو ميزر) بزوايا تصوير وايقاع حيوي بما يتلاءم مع شعورها بالحرية في هذه المساحة الصغيرة التي تحتاج أن تختلي فيها مع نفسها، واستخدام المزج كاسلوب لانتقال رقيق من لقطة إلى آخرى، وكذلك الأمر في اللوحة التي تحمل عنوان "يأس" وتقدم معاناة الابن (فادي حداد)، الذي تزوجت حبيبته من غيره فيعيش فقط على اللحظات التي يلتقي فيها خلسة اسفل منزلها في وقت متأخر من الليل، فاعتمد القطع كوسيلة انتقال بين اللقطات، والايقاع الذي يزداد هدوءا يتناسب مع الالم، فبنى المشهد من اربع لقطات في دقيقتين، تبدأ بمعدل عشرين ثانية في الاولى والثانية وتزداد الى اربعين في كل من الثالثة والرابعة، هذا يضعها في تباين مع اللوحة الاولى بعنوان "تضيع وقت" التي تقدم عالم الاب (منذر الحسيني) الداخلي الضجر بعد التقاعد ولا يعلم كيف يقطع الوقت، فيقدمه في 19 لقطة سريعة في دقيقتين، واستخدام اسلوب القطع القافز، ليعبر عن مرور الزمن، ويعطي شعور بعدم الارتياح للمشاهد، الى ان هذا الاسلوب في الانتقال وفي الايقاع ذاته كان موجود في اللوحة "رغبة" التي تقدم الفراغ العاطفي الذي تعيشه الزوجة (رنا كباجه) فتبحث خارج المنزل عمن يشبع هذه الرغبة، وتقترب منها اللوحة الخامسة "ندم" التي تقدم الابنة المتزوجة" (ديما الحمد).

الراوي المتورط وناقوس الخطر

منذ البداية الأولى للفيلم يعلن الراوي العالم بالأحداث والمستقل عنها وجوده، من خلال عنوان يخبر أن "جميع المشاهد في الفيلم من دون حوار" ويستطرد "بما فيها المشهد الأخير" ويخص هذا الجزء باللون الأحمر، اشارة إلى الخطر المحدق بالعلاقات الإسرية -كان من الممكن الاستغناء عن هذا العنوان- ويواصل تواجده عبر العناوين التي تسبق كل لوحة، الى ان نلمس وجوده بشكل جلي في المشهد الاخير حين تفزع الكاميرا (عين الراوي) من تلك الوحشة التي تنتاب المرء في بيته، فتتسارع خطوات الكاميرا بالهروب للخلف من العين السحرية الخارجية لباب منزل الأسرة، تتراجع بهلع لتجد باب العمارة الرئيسي مغلق، وهنا يتحول الراوي المستقل عن الحدث، إلى متورط في هذه الصيغة من العلاقات الأسرية، بل عالق تماما وليس ثمة من سبيل للخروج.

اسلوب رقيق

على الرغم من بعض الثغرات في الفيلم، الإ أن المخرج نجح في مقاربة العلاقات الأسرية الآيلة للسقوط والانكسار في مجتمعنا الحديث بأسلوب رقيق، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا الفيلم انتج بلا ميزانية تقريبا، ويشكل الخطوة الأولى لمخرجه، الذي لا شك أنه يمتلك رؤية خاصة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى