الاثنين ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم جمانة حداد

أضرار جانبية

"من السماء أتوا ليقتلوا الأطفال
ودماء الأطفال
سالت في الشوارع ببساطة
مثلما تسيل دماء الأطفال"
_ بابلو نيرودا

1

يدين بيكاسو برائعته "غيرنيكا" لإجرام الألمان في إسبانيا عام 1937 خلال الحرب الأهلية الإسبانية. ويُروى أن ضابطاً ألمانياً سأل الفنان مغتاظاً عندما شاهد اللوحة: "هل أنت من فعل هذا؟"، أجابه بابلو: "لا، بل أنتم الذين فعلتم". كذلك يدين الشاعر ميغيل ارنانديث بمعظم قصائده لاستبداد الجنرال فرنكو. أما بول ايلوار فيدين بقصيدته "حرية" لمأساة الحرب العالمية الثانية، ويدين الكاتب البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونس بروايته "مؤخرة يوضاس" لبؤس حرب أنغولا، ويدين السينمائي الأميركي باري ليفنسون بفيلمه "صباح الخير فييتنام" لقذارة الحرب هناك، ويدين الروسي ليو تولستوي بـ"الحرب والسلم" لشراسة حرب اوسترليتز. اللائحة تطول وتطول؛ ناهيك بما أنتجته حرب لبنان، أو بالأحرى حروب لبنان السابقة المتسلسلة، من تحف روائية على مرّ السنين. السؤال هو: بم ستدين آدابنا وفنوننا لهذه الحرب المستجدّة؟ هل سيكتب الياس خوري يوماً "باب قانا"، وجبور الدويهي "مطر تموز"، وربيع جابر "تقرير بولتون"، ورشيد الضعيف "فسحة مستهدفة بين بئر العبد وحارة حريك"؟ وماذا عن حسن داوود، وحنان الشيخ، وعلوية صبح، وهدى ونجوى بركات...الخ؟

ثم، إنطلاقاً من فرضية ارتباط الخلق بالمعاناة، وإمعاناً في هذه السينيكية المتألمة، هل من الممكن أن تشهد بلادنا في المستقبل حركة نزوح من أدباء عالميين، يجيئونها طلباً لـ"الإلهام"؟ وهل ينبغي لروائيينا وشعرائنا وفنانينا أن يشعروا بأنّهم "محظوظون" لفرط ما يمنحهم هذا الوطن، الخصب بالكوارث والمآسي والمجازر، فرصاً متتالية ومبرّرات متكررة وتحريضات وافرة على الخلق؟
يموت مرّة ثانية، القتيلُ الذي يضطر أن يشعر بالامتنان لقاتله.

2

ماذا تقولين لطفلكِ الصغير عندما يسألكِ ببداهة الأطفال: "ماما، لماذا لا نذهب للعيش في بلد آخر حيث لا قصف ولا تفجيرات؟". ماذا تقولين له عندما يفكّ شيفرة الرعب في عينيكِ، عينيك اللتين تفتّحتا على جهنّم الحرب مذ كنتِ في الرابعة من العمر، ففسدتا ولا تزالان فاسدتين، مسكونتين بالبارانويا، لا تريان إلا النصف الفارغ من الكأس في كل شيء؟ ماذا تقولين له، هذا الأمير الخائف، عندما يشاهد صور أطفالٍ في مثل سنّه نائمين بين الأذرع الباكية، ويطالبكِ بأن تشرحي له لماذا لا يستيقظون؟ كيف تحمين ولدكِ من أرضه، من هويته، من جغرافيته، من نفسه؟ كيف تحمينه من عدوى شياطينكِ الخبيثة؟

3

الغالبية تسمّيهم "ضحايا". البعض يسمّونهم "أضراراً جانبية". اسمحوا لي أن أسمّيهم "شهداء قسريين". ترى، لو كان يحقّ للضحية أن تقرّر مصيرها سلفاً، أن تختار بين أن تكون ضحية أو أن لا تكون (في أمان الضمير لا تحت إرهاب المذياع والبروجكتور وغيرهما)، ماذا كانت لتختار؟ ترى لو خُيِّرت الأم بين أن تفقد أولادها (الاحتمال وحش في ذاته)، أو أن تظل تنوّمهم على زند حنانها المُطَمْئِن، ماذا كانت لتختار؟ ولو خُيِّر صاحب البيت والأرض بين أن "يتبهدل" ويخسر بيته وأرضه (ليربح ماذا؟)، أو أن يظل ساهراً على ثمار جنينته وعشب عتبته الطريّ، ماذا كان ليختار؟
حتّام سيظل ابرهيم يقدّم ابنه اسحق ذبيحة لله؟ ألا يكفيه، اسحق هذا، أنّ اعداءه يشتهون موته؟ هل عليه، أيضاً، أن يخاف أهله وأباه وإلهه؟
الغالبية تسمّيهم "ضحايا". البعض يسمّونهم "أضراراً جانبية". إسمحوا لي أن أسمّيهم "شهداء قسريين".
إسألوهم قبل أن تبذلوهم.

4

يقول بعض علماء النفس إن المغتصَب عندما يكبر سيصير مغتصِباً. ويقول المؤرخون إن التاريخ يعيد نفسه. ويقول البوذيون إن الحياة تمشي في دوائر لا في خط مستقيم. كل شيء يدلّ، إذاً، على أن لا مفرّ من أن يحصل اليوم ما هو حاصل. ضحايا التعذيب والظلم والفتك النازي كبروا ليعذِّبوا ويظلموا ويفتكوا بدورهم. وفق المنطق نفسه، كل شيء يدلّ كذلك على أن ضحايا اليوم سيكونون مضطهِدي الغد. وهكذا دواليك من ضاربٍ الى مضروبٍ فضاربٍ الى ما لا نهاية.
بربّكم، لنكسرْ هذه الحلقة اللعينة!

5

ما أذكره من قريتي الجنوبية، يارون، سهولا هانئة وتلالا مسالمة بين ضوءٍ ونعاس. ما اذكره منها جلسات مسليّة على السطيحة، ويقظات مبكرة لقطاف التين والعنب، ومخيّمات صيفية في الدوير، ونزهات رومنطيقية مع الأصحاب عند الغروب. وأذكر منها: جدّتي توفيقة تسقي شتول البندورة الحامضة اللذيذة، وقريبتنا مريم تعلّمني شكّ الدخان، وعمّتي منى ترتجف قلقاً كلما خدشتُ ركبتي من كثرة الشيطنة، ورفيقاتي بنات الضيعة يتجاهلنني بدايةً لأني "بنت بيروت"، ثم يتنافسن على نيل رضاي.

في تلك الأيام، كنتُ كلما سألتني معلمةٌ في المدرسة: "من أين أنتِ؟"، وأجبتُ "من يارون"، أحنقُ لأنها تبادرني بتعجّب: "يارون؟ أين يارون هذه؟ يا له اسماً غريباً -يارون: التلّ الصغير بالآرامية - لم اسمع قبلاً بهذه الضيعة". وكم شعرتُ مراراً بالغيرة من رفيقاتي في الصف اللواتي كنّ من بكفيا وبشري ودير القمر وسواها من القرى "المعروفة". وعندما كنتُ أنقل حسرتي الى جدّي الراحل رجا، كان يعاتبني ويقول بكبرياء: "عليكِ أن تشعري بالفخر لأنكِ من يارون".

إطمئن يا جدّي، من زمان لم أعد أغار من بنات البلدات الأخرى. أما يارونكَ الحبيبة فقد صارت شهيرةً الآن، والألسن كلها تلهج بها.
"ولكن"، أسمعكَ تشهق من علياء غيمتكَ، "بأيّ ثمن؟ بأيّ ثمن؟".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى