الاثنين ١٢ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم محمد بروحو

أطراف الضفة

في طريقه نحو كوخه القصديري.. كان حمو يوقع بين الفينة والأخرى على نهاية الشارع.. وعلى أفق الشروق البرتقالي الفاتح..

كان الشروق يرسم خطا أفقيا وذهبيا، بين بقايا سحب رمادية.. تتحرك في بطء، فيشيع في بريق عينيه الزرقاوتين.. فيمتد الشعاع نحو الفضاء يلامسه على عجل.. كان ذلك في أول الصباح من صباحات فصل الشتاء البارد والقارس..

كآبة الشتاء بدأت تتجمع على قمة غرغيز.. فتتقاطع وكآبة نفسه. في مدينة حلم كثيرا بالوصول إليها..وهاهو الآن يوجد بها بعد محاولات كثيرة.. يجد نفسه مندسا بين دروبها الرطبة، وممراتها الضيقة.. هو الآن على بعد كيلومترات قليلة.. حيث تتراءى له أنوار الضفة متلألئة في شساعتها. فرصة مواتية وشيء من الحظ ويكون هناك..

كان حمو في أيامه هاته يبدو حزينا ويائسا.. كئيبا كوادي مرتيل الملطخ بالمياه العفنة والقدرة.. القادمة عبر المجاري من جوف المدينة..

تتعثر الكلمات في فمه المشقق.. كلما حاول أن يعبر عن شعوره، فتمتزج بلعاب نتن بدخان السجائر المستوردة والمنتهية صلاحيتها.. قضمه لقطعة من قصب السكر، الذي نقصت وتقلَّصت كميات المساحة المزروعة منه بعين خباز.. كانت تنتشر فيما مضى على مساحات شاسعات، في زمن حلو كحلو مذاقه السكري..

كان تكرار المشاهد أمام عينيه، يذكره بأول يوم نزح فيه إلى تطوان، وهو يفكر أول مرة في أن يهجر قريته، ويحل ضيفا على هذه المدينة التي إستلذ المقام بها واستطابه..

هناك على بعد قليل منه.. كان بعض الأشخاص قد نزلوا لتوهم من حافلة قادمة من جهة ما من وسط جبال مترامية على سهول أو هضاب ربما، أو من مدينة ملَّ أهلها رتابة الأيام بها..

كان يمعن النظر فيهم.. وبالضبط نحو ذاك الآخر منهم والذي كان يبدو عليه أنه أقلهم سنا وتجربة..كان يحمل بعضا مما أحضره من متاع له، كما فعل هو حين حضر أول مرة..فتذكر لحظة الوداع التي ترك فيها أهله ورحل.. قاصدا مدينة هي حلم ومعبر حيث النجاة.. كان يعتقد ذلك وبكل إصرار..

لازال يذكر أنه حين توسط ساحة المحطة.. كانت عيناه تحاولا أن تلتقط كل شيء..كل الأشياء بتفاصيلها، دفعة واحدة.. حركات الحمالين غير المألوفة لديه وهم يجرون أو يدفعون كراريسهم المملوءة أو الفارغة..والوجوه التي يميل لولهنا إلى الصفرة..وتسريحات الشعر.. كل ذلك بالنسبة له حدث جديد في حياته..إنه تأثير المد الأندلسي نحو الشمال..

كانت المكالمات الهاتفية التي تتلقاها منه عائلته.. تجعلها تطمئن عليه وعلى أحواله. إنها الآن تدرك تماما أن إبنها حمو في الضفة الأخرى.. وسيرته تتداول بين أهل قريته بتفنن.. لقد إستطاع حمو أن يصل الضفة الأخرى. شيء لم يحققه غيره.. هذا ما كانت تعتقده عائلته خصوصا أمه وأبوه.. هو الآن في المهجر، يكد ويجمع المال من أجل عائلته والتي أكسبها ذلك إحتراما زائدا لم يسبق أن إكتسبته عائلة أخرى غيرها..

لقد إستطاع حمو أن يقطع البحر، إعتقاد تجزم به عائلته بينما هو في حقيقة الأمر، يقبع بمدينة من مدن الشمال، في كوخ قصديري قرب مزبلتها في طريق بن قريش يمتهن مهنة النبش في بقايا الأزبال القادمة منها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى