الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم عبد الباسط محمد خلف

أقلام ومقاعد وأمهات وذكريات ودموع..

ما أن تعود "الحياة" إلى مقاعد الدراسة، مطلع أيلول إلا وتستأنف الأحزان نفسها من جديد كل عام، فتستذكر الذين قضوا قبل أن يكملوا قراءة كتبهم، أو يخطوا واجبهم المدرسي على كراريسهم. فيما يبقي الزي المدرسي الأزرق والنيلي والأخضر ينتظر من يرتديه.

تتحدث رجاء عادل عن زميلتها رهام أبو الورد التي غابت ولن تعود ثانية، وتكمل صفاء حكاية مشابهة، فيما لازالت أماني تحتفظ بالرسم الموجوع للمشهد الأحمر، وترفض أحزان الأب أحمد تركي الرحيل، فتستمر باستذكار سجود الصغيرة. وينطق محمد وهزار ورامي ونورا بجراح لم تبرأ وإن تضاعف عدد الأيام..

تلملم رجاء محمد (11 عاماً) أوجاعها، في تمهيد لعودة ثانية لمقاعد الدراسة، فكل شيء تغير في حياتها من صفوف وكتب وواجبات ومعلمات، غير أنّ الثابت الوحيد هو أحزانها ومشاهد قتل زميلتها رهام الورد أمام ناظريها.

تروي رجاء أوجاعها القديمة فتقول : في حوالي السابعة والنصف صباح الـ 18 من تشرين أول 2001، كنا على موعد مع الخوف. فأصوات الرصاص والدبابات الإسرائيلية التي كانت تطوق مدرسة الإبراهيميين عند مشارف جنين، جعلتنا نبكي ولم ندر ماذا نعمل..

تستأنف ومعها دموعها: عندما رأت رهام زميلتنا تحرير أبو عليا مصابة في بوابة الصف، أسرعت لمساعدتها في الدخول، غير أنّ رصاصة قاتلة أطلقها جنود الاحتلال كانت الأسرع في اقتحام صدرها.. وامتزج زي المدرسة الأزرق والأبيض لرهام، كما تحرير، بالدم. ولا زالت الأخيرة تعيش رعباً يطارد ذاكرتها الغضة، وفق ابن خالها الصحافي في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" محمود خلوف.

موت

تضيف رجاء، وكذا نساء الحي حيث تسكن والدة رهام ندية صالح، فإنّ للمدرسة مع هذه العائلة حكاية مرت، فعم رهام كان قد سقط في مدرسة مخيم الدامون سنة 1978، وعمّتها سقطت داخل مدرستها عشية مجزرة نفذتها ميليشيات "جيش جنوب لبنان "العميلة التي تم حلها.

تستمر رجاء التي ستعود لذات المدرسة التي فقدت فيها زميلتها، ولكن هذه المرة بدون أن تكون رهام معها، فتقول : كانت آخر ما رسمته رهام على كراستها دبابة إسرائيلية تصوب نيرانها تجاه مدرستنا.

تسترسل أم علي، إحدى ساكنات الحي المتاخم للمدرسة حيث سقطت رهام، بالطبع ستفتح المدرسة أبوابها ولكنها ستفتح معها جراح والدة رهام فهي سترى زميلاتها وقد عدن لمدرستهن بحقائب وكراسات وزي جديد وسيكبرن بلا لرهام التي هي إلا واحدة من 750طفلا قضوا منذ انطلاق الانتفاضة نهاية أيلول 2000 وحتى نهاية نيسان الماضي، من بين 4032 شهيداً، يضاف إليهم 82 شهيداً لم يتم تسجيلهم بسبب الإجراءات الإسرائيلية، فيما بلغ عدد الجرحى 44666، بالإضافة إلى 8435 جريحاً تلقوا علاجاً ميدانياً. فيما بلغ الشهداء جراء القصف الإسرائيلي 732 شهيداً.، و344 شهيداً في صفوف الأمن الوطني، و817 طالباً ومعلماً استشهدوا برصاص الاحتلال الإسرائيلي.

ووفق تقرير الهيئة العامة للاستعلامات، فإن الرصاص الإسرائيلي إصاب44666 مواطناً، بالإضافة إلى 8435 آخراً تلقوا علاجاً ميدانياً، وكان عدد الطلبة والموظفين الذين أصيبوا برصاص الاحتلال 4800، ولا زال 8500 أسيراً وراء القضبان، منهم 624 أسيرا معتقلين منذ ما قبل الانتفاضة، وبلغ عدد المعتقلين من طلبة المدارس والجامعات 1389 طالباً وطالبة، منهم 330 من الأطفال رهن الاعتقال، و196 معتقلاً من المعلمين، و900 أسيراً يعانون أمراضاً مزمنة، و123 أسيرة، منهن 42 أسيرة محكومة، 73 أسيرة موقوفة و8 أسيرات موقوفات إدارياً.

هذه الأرقام بحسب الصحافي محمود خلوف، تخفي الكثير من الأوجاع، فهناك الأسرى الذين سيتذكرون أولادهم ولحظات العودة للمدرسة، وسيتضاعف عجز الذين طاردتهم الإعاقة في هذه اللحظة، وسيحتاج الذين فقدوا الأب أو الأخ أو الأم للدموع من جديد مطلع كل أيلول مدرسي.

سيفتقد زملاء باسل محمد زكارنة (6 سنوات) هذه السنة وللأبد أيضاً صديقهم الذي لن يدخل المدرسة، فبرغم سنهم وضعف بلاغتهم إلاّ أنهم سيتذكرون يوماً باسل الصغير الذي اخترقت رصاصات الاحتلال ظهره، كما مزقت صدر أمّه فاطمة وهشمت رأس شقيقته عبير (4 سنوات) ليمتزج شعرها ودمها بوجه والدها، وليكن ثلاثتهم ضحايا عملية قتل إسرائيلية بدم بارد شرق قباطية،عندما كانوا يعملون في كرمهم في أيلول من أيار من العام 2003.

تملأ الحسرة قلوب أهالي البلدة الواقعة جنوب غرب جنبن، فحادثة قتل الأم وأطفالها لا تغيب عن خيالات أطفالهم من جهة، ومن جهة أخرى حال محمد يوسف زكارنة (30 عاماً) المكلوم الذي فقد زوجته وطفليه باسل وعبير حيث سيظل يتذكر موسم العودة لمقاعد الدراسة، فلن يدخل باسل هذا العام للصف الأول ولن تلتحق به عبير بعد سنة، كما أن بناته الثلاث سيحتجن لوقت طويل حتى يلتحقن بالمدرسة. لكنهن كما تقول سميرة علي (35 عاماً) وهي أم لخمسة أطفال، سيشعرن بمرارة فراق والدتهن، فهن لن ينعمن بلمسة أو قبلة من أمهن عندما يذهبن للمدرسة أو يعدن منها، إنها المرارة والوجع.

تشكل نسرين محمد (15 عاماً) من مخيم جنين نموذجاً ينطبق على المئات من طلبة المخيم، فنسرين التي درست صفها السادس، خلال العام 2002، على فترتين : الأولى في منزلها داخل أزقة مخيمها. والثاني بعيداً عنه، وفقدت نسرين حقيبة المدرسة وكراستها عندما اختلطت وركام منزلها الذي أضحى أثراً بعد عين. في حين فقدت شقيقها مصطفى الشلبي، بينما كان لأطفال وضاح الشلبي حكاية أخرى فقد أكمل ثلاثة من أطفاله السبعة مدارسهم بعدما أعدم جنود الاحتلال والدهم أمام ناظريهم. وللشهيد وضاح حكاية أخرى مع المدرسة فقد كان يعمل آذناً في مدرسة حيفا الأساسية، وقد حزن عليه الطلبة الذين أحبوا فيه تواضعه، لكن عودتهم هذه المرة ستكون بلا وضاح وابتسامته العريضة للمرة الثانية.

اغتيال

تعتزم أماني حسن من مخيم جنين التي كانت تحتفظ داخل صفها بصورة نشرتها إحدى الصحف المحلية لزميلة التلميذة براءة حسين أبو كويك التي كانت تعرض آخر رسومات الشهيدة التي سقطت في آذار 2001 بمخيم الأمعري، نقلها لصفها التالي.

تضيف قائلة : أطالع الصورة بين فترة وأخرى، وتقول في وصف مكونات الرسم بشجره وبسمائه الزرقاء وشمسه والمنزل والمعلم : لم تبق السماء صافية كما تمنت "براءة" فقد عكرت صفوها أدوات القتل الإسرائيلي.

و"براءة" الشهيدة، كانت قد سقطت إلى جانب أمها بشرى وشقيقتها عزيزة وأخيها محمد، إضافة للفتى عرفات المصري والطفلة شيماء المصري بفعل إطلاق عدة قذائف احتلالية على سيارتهما لتضع حداً لسلسلة أحلام مدرسية ل "براءة" كما للأشقاء والزملاء.

أحلام راحلة

يشرع أحمد تركي (38 عاماً) باسترجاع ما حدث له في جمعته السوداء، يصل ومعه دمعه وقهره، ليربط بين ما تعرضت له صغيرته سجود (7 سنوات) التي كانت تستعد للدخول إلى صفها الثاني، وبين ما كانت تتمناه العائلة. فسجود التي دخلت العام قبل ثلاث سنوات إلى أول صفوفها، كان يفترض أن تنتقل برفقة خالتها المربية لمدرسة أخرى غير أنّ رصاصاً إسرائيلياً من العيار الثقيل كان الأسرع في إصابة جسدها إصابات قاتلة.

يروي الأب، كما الأم، فيقول : قبل أسبوعين من استشهادها كنا نعد لشراء زي مدرسي جديد لها. ويتابع : اتفقت سجود وشقيقها نائل (12 عاما) والذي أصيب بذات الرصاص الذي نال من خاصرتها وقلبها، ومحمد (11 عاماً) وأسامة (9 سنوات) وشذى (3 سنوات) على تخصيص جزء من مصروفهم اليومي لشراء التزامات المدرسة.

يسترجع نائل ذكرياته مع شقيقته الراحلة فيقول : كنا عادة نذهب للسوق معاً قبل المدرسة، أما اليوم فقد انتهى كل شيء. يقاطع نائل البكاء، قبل أن يصف اللحظات التي كان فيها يدرّس سجود ويشجعها على تعلم حروف الهجاء.

يستمر الوالد في تذكر أحزانه، ليقول : كلما نتذكر سجود نسرع أنا ووالدتها لمشاهدة شريط الفيديو الذي يظهرها في رحلتها المدرسية التي لن تتكرر، فقد كانت لا تعلم أنها على موعد مع الموت.

يستجمع الأب ذكرياته العتيقة-الجديدة ليصف لنا لحظة استشهاد ابنته أمام ناظريه. فقد طلبت منه أن يطلعها على الدمار الذي أحدثته آليات الاحتلال لحانوت " أبو الدوم " الذي كان يعد واحدا من معالم مركز جنين التجاري. يتابع: اصطحبت سجود إلى السوق واشترينا الخبز قبل أن نكون هدفاً لرصاص دبابة إسرائيلية أطبقت علينا النار عن بعد مائة متر، لأفقد بعدها ابنتي وليظل مقعدها شاغراً في الصف الثاني..

وجع

تنتقل لتصل إلى حكاية موجعة أخرى في مكان أخر، فعلى أطراف مخيم جنين تجثم منطقة " خلة الصوحة " التي تحوي عديد مشاهد الألم المتجدد والجراح التي تعيد المدرسة فتحها ثانية. فسيكون لعائلة أبو ارميلة حالاً آخر، فبعدما فقدت هالة أبو ارميلة (35 عاماً) كما يتناقل كثيرون، زوجها عطية في نيسان الأحمر 2002، وما عمدت للقيام به بعدما ضاقت الدنيا بوجهها، فقد أوهمت حينها أطفالها الثلاثة محمد (7 سنوات) وهزار (6 سنوات) ورامي (4 سنوات) بأن والدهم يغط في نوم عميق ولم يصب بمكروه في مقتله بعيار ناري أطلقه جنود الاحتلال. ويومها تناوب ثلاثتهم، وفق أم سعيد جارة المكان، على بث شكواهم من والدهم " الشهيد " الذي لا يصغي إليهم، فقد هزّ رامي جثمان والده طالباً منه الاستيقاظ والتوجه للسوق لشراء الحليب. فيما تواعد بعضهم الآخر توجيه الشكوى له حال إنهاء نومه الذي استمر أمامهم لسبعة أيام لرفض الاحتلال إخلاء جثته.

دموع ثقيلة

لم ينس سكان الحي، ما حل بالعائلة، بالغم من مرور الأيام. وسيكون لمحمد ولهزار اللذين سيعودان لصفيهما من جديد، حكاية مؤلمة أخرى، فهذا الرجوع الثالث يعد أن فقدوا أباهم وشقيقهم الأكبر هاني، ولن يجدوا من يهتم بمتطلباتهم المدرسية، أو يشتري لهم حقائب وأقلام، في حين ستكبر أحلامهم وسيدركون مصيبتهم المركبة..

ولا يختلف حال محمد أمين عودة (13 عاماً )، الذي سقط في قرية برقين المجاورة لجنين، كثيراً عن محمد أبو رميلة. فلن يكون بوسع محمد " الأول " مشاهدة ما فعلته الدبابة التي أطلقت على رأسه رصاصة قاتلة بسور مدرسته، قبل عشرة أيام من بدء العام الدراسي ولن يتمكن من حمل حقيبته مرة أخرى، فقد رحل محمد بسرعة كوالده الذي مات بهدوء قبله بأربعة أشهر، تاركاً ستة أطفال أكبرهم محمد.

فيما تامر إياد شلاميش (5 سنوات) سيصل هذا العام إلى المدرسة ذاتها التي التحق بها والده الشهيد، ولن يكون بوسعه توجه الطلبات له، ولو أحب الكرة التي رافقها أبوه أو " زيكو " كما أطلق عليه رفاقه في صغره،ولن يجد من يبتاعها له. مثلما سيتذكر كل صباح مدرسي استراحة الموتى التي تحتفظ في أحشائها بوالده الغائب...

تروي المربية فتحية دراغمة، من بلدة طوباس تفاصيل المشهد المؤلم الذي عاشته إبان ربيع العام 2003، خلال حفل مدرسي شاءت الأقدار أن يضم في طيفه ثمان طالبات فقدن إخوانهن برصاص" أعمى ".
تضيف : تضامنا مع ريهام ولانا وحنين وميس ورشا وثلاث زهرات نسجن بخيوط سوداء إطارا للراحلين...

يصف الكاتب تحسين بقين الأول من أيلول في منزل أسرة الشاي محمد الحاج أحمد، الشاب الذي رحل العام الحالي قبل أن يتقدم لامتحانات الثانوية العامة. فيقول: ستفتقده أمه وأخوته ورفاقه في بلدة عرابة القريبة من جنين، ولن يستطيع عشاق الطائرات الورقيه التي كان يجيد صناعتها الفرار بعيداً، وحتى ولو نقل المحتلون مكان المعسكر الذي سرق جنوده حياة صديقهم بوقاحة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى