الاثنين ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد علّوش

ألشعرُ الذي لا يعرفُ الهزيمــــة

" أنــا لستُ مع شفيق حبيب إلا بأن يبقى على ما هو عليـــه."

هذا ما قاله الشاعر المرحوم د. عبد اللطيف عقل قبل عدة سنوات، يومَ صادرت السّلطات الإسرائيلية ديوان الشاعر الفلسطيني المناضل شفيق حبيب «العوْدة ُ إلى الآتي» في خطوة تستهدف النيل من مواقف شعرائنا الوطنيين وكمّ أفواهِهم، وحاكمته بتهمة ممجوجة وباطلة أصلا ً ألا وهي الإرهاب.

وشفيق حبيب كما نعرفه وكما عهدناه منذ البداية شاعرا ً صادقا ً ومؤمنــا ً بكل كلمة يقولها أو يكتبها، ورغم كل المِحَن والصِّعاب التي واجهته في مسيرته الإبداعية والثقافية والعملية فإنه تخطاها جميعا ً بصلابة المثقف الوطني الداعي للحياة وشموخ الفلسطينيّ المعتز بأرضه ووطنه وشعبه وعشقه الصّوفي وولهه الحقيقي بجمال هذه البلاد.

"وما زال الشاعر شفيق حبيب يُبدعُ من معين الأرض والوطن والتراث من أجل تحقيق الحرية المنشودة، والعدل المفقود في زمن الاعتقال الفكري، والأمل الضائع، وهو صاحب قلم متميز، وشاعرية خصبة، ولغة حادّة، ووطنية متأصِّلة، وإنسانية عارمة كما يشير الكاتب والناقد الفلسطينيّ/ القـَطـَريّ د. يحيى زكريــا الآغـــا في استهلال المجموعة والمقتبس من كتابه " إضاءات في الشعر الفلسطيني المعاصر ج 2، الصادر في غزة سنة 1998"

ونحن الآن مع "صارخ في البرِّيــَّة:

عنوانُ المجموعة كبيرٌ في قيمته الروحية والنفسية والفلسفية والتعبويّـة، إذ إنه إضافة إلى هذا فهو عنوانٌ بارز وحاضر في ذاكرتنا الجماعية، اظن إن لم يخبْ ظني بأنه مستمدّ من قصة يوحنـا الصارخ في البريّة كما جاء في الأثر المقدس في الديانة المسيحية وكتب اللاهوت.

وشاعرُنا شفيق حبيب أراد من عنونته لهذه المجموعة أن يؤكـِّدَ تواصله على نفس النـّهج المناوىء للظلم والظلام وأن يصرخ في وجوه الغافلين الذين يميلون حيث تميل الرياح، ولا يشغلهم شاغل سوى الأمور الدونيّة والتافهة، يصرخ بأعلى صوته لعله يُجدي بعد كل هذا ويحرّك فيهم مشاعر النخوة والكرامة أمام شرف وسماوية المقام، ولكن لا حياة لمن تنادي!!

صدر الديوان عن "دارالحكيم للطباعة والنشر بالناصرة " سنة 2001 وصمم الغلاف وأخرجه عناد حبيب وتضمّ المجموعة 25 قصيدة كـُتبت على فترات متقاربة نسبيّـا ً ونـُشر بعضُها في صحف ومجلات محلية وعربية مختلفة، ويُقـْسَم ديوانه إلى ثلاثة أقسام :

إنكساراتٌ حادّة.
وردتان فلسطينيّتان.
أغاني الرّفراف.

وبالرغم من التباعد في مضامين ومرامي ودلالات قصائده، إلا أن خطـّا ً رفيعا ً يجمعها في نسيج متكامل مع قوة النبرة وسلاسة اللغة وجمالية الصورة الشعرية والإيقاع الموسيقي والأداء.

في القصيدة الأولى من الديوان "أبو ذر الغفاري والعولمــة" يدحضُ الشاعر فكرة وماهية "العولمة" ويعرّيها ويفضح أمرها بصورة تلقائية واضحة ويصوّر الحقيقة المؤسفة والمؤلمة حيث قارنوا العولمة بالنور والرقيّ الحضاري أمام الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها فهي في عصر التخلـُّف والأمراض النفسية والإعاقية على مستوى الحضارة والثقافة والتفكير، بينما يحاول الغرب "عولمة" الحياة بكل ما فيها وفق قيمتها الاستهلاكية والانتهازية، وفي هذا الصدد يجلجل صوت الشاعر:

نحن لســْـنا في رحــاب العَوْلــَمه
إنمـــا نحيا عصورا ً مُظلمــه ( ص 13 )

ويعدِّد الشاعر المأساة تلو الأخرى محاولا ً لفتَ الأنظار لِمـا يُحاكُ في الظلام في مواخير العولمة الأمريكية وما وصلت إليه الأمور إلى وضع لا يُطاق في ظل القهر والظلم والإجحاف.

عنوان القصيدة موح ٍ ويحث ّ الخطى، لِـقِيـَم ِعولمة الغفاري الإصلاحية المبنيّة على أسس ٍ سليمة وحكيمة مع الدفء الإنساني المتنوّر بدلا من التقريظ واستيعاب كل دخيل، ويحدد الشاعر دعوته لأبي ذر بشيء من الرغبة الجانحة والإلحاح:

يـا أبـا ذر ٍ تقدّمْ !
وازرع ِ الثورة َ ضوءا ً
في القلوب المُعْتِمَـــه
عُد إلينا يا أبـا ذر ٍ
وقدّمنــا لسَيْـفِ المحــكمـــه ( ص 18)

إذن شاعرُنا يريدُها ثورة ً تـُشعلُ الأمل وتوقد الرغبة في النفوس نحو الاصلاح والتغيير وعلى كافـّة الصـُّــعـُد.

وكعادته لا ينقطع شاعرنا عن قضية الوطن المـُكبـّل بالحصار ولا يبتعد عن مأساة شعبه الذي بات على مرمى حجر من الحرية والعودة والاستقلال بفعل بطولات أبنائه العُز َّل القابضين على جمر الترقـُّب والولادة، المُدجّجين بالأمل، وصَولاتهم وجولاتهم في ميادين النضال الوطني التحرري الفلسطيني المُشرِّف، يولد الشعر التعبوي المقاتل الذي لا يعرف الهوان والخنوع ولا يعرف الهزيمة، وكما عوّدَنا شفيق حبيب في مجموعاته الشعريّة السابقة وكجزء من المشهد الثقافي الفلسطيني، يواكب الحدث ويعبر عن الألم والأمل والطموح الكبير نحو التجلي في الوطن الفسيح، فهو إذن شاعرُ الكلمة الصادقة والملتزمة، شاعرٌ يدركُ الأمورَ جيّدا ً ويصيغها برؤيته هو، ويحسّ بالنبض حوله، ويعبر كما قلنا بقالبه الشعري الخاص بصدق ِ الحاسّـة والإحساس، وبالنظرية الثوريّة الواقعية .

وفي قصيدته التي يهديها إلى شهدائنا الخالدين " عاصفة الدهور " يُرسلُ برقية لشهيد الانتفاضة يُصوِّر فيها مأساة المرحلة بشيء من التحدّي وبإصرار ٍ على الحميمية والتواصل بين أبناء الشعب الواحد في كل أماكن تواجُـــده:

قلبي معـَـــك ْ
ورصـاصُ وحـش الغـــاب ِ
يحرق ُ أضلعَــك ْ
ودمــاءُ قلبك َ نازفــــات ٌ
كي تضيءَ الـدَّربَ
ـ يا زينَ الشـباب ِ ـ
فلم أصدِّقْ مصرعَــك ْ
فعدوُّ نور الشمس ِ والإنسان ِ
من كأس ِ المنايــا جرَّعـّــــك ْ (ص 43 – 44 )

وهنا يتجلى الموقف المؤثر فعلا ً، حيث يخشع الشاعر ونخشع معه أمام ضريح فارس الشعب وشهيد الزمان والمكان، وبأسلوبه البسيط، السهل المُمتنع، المُقـْنـِع، المشوِّق والجذاب ، يوجّه عذوبة كلماته للقبر هذه المرّه، فالبعث حتما ً قادم لا محالة وإن سقط الشهداءُ والفرسان، فلن تسقط َ الرسالة، وهنا يُكمل:

يـا قبرُ !!
يرقدُ فيك َ غصنٌ ناضــــرٌ
يا قبـر ُ... !!
فيـــكَ قلوبُنــــا
وعيونـُنــــــــا
فالشعبُ فارسَهُ المؤزَّرَ أوْدعَـــــك ْ ( ص 49 )

ويواصل شفيق حبيب بهذه الروح المتوهّجة، المتوثـِّبة، وهنا في قصيدته " يا طائرَ القلب ... " نراه

رومانسيّا ً إلى أبعد الحدود مغموسا ً في أحزانه وأشجانه الإنسانية، فهو يبدأ القصيدة بهذه الشفافية وهذا التجلي الحزين معدِّدا ً الكروب والأزمات التي تواجهه كإنسان وكشاعر.. ها هو هنا طائر القلب:

للحُزن ِ لونٌ.. ولي في الحُزْن ِ ألــوان ُ
يا طائر َ القلب ِ كم أشجَتـْـك َ أحــزان ُ

ويعودُ شاعرنا– صاحب الموقف هنــا – ليكشف ما في نفوسنا من وهم وأمراض على كافـّة الاتجاهات وخصوصا ً– الأزمة الطائفية – التي واجهتنا كشعب إثر المحاولات السلطوية المارقة لدقّ إسفين الخلاف والاقتتال الداخلي بين أبناء شعبنا- مسلميه ومسيحييه - وهنا في المقام الجلل لا بدّ من كلمة تقال، فجاءَ كلام الشاعر بلسما ً للجرح في روحانيّـــــةٍ وعفويّــٍة صادقـــة:

والدِّينُ عندي ، صفاءُ النفس ِ يُسْكِرُني
كم شدّني قـرْع ُ أجـراس ٍ وآذان ُ
ديني مع الله .. لا أرضى لــه وَسَطـا ً
ما أ ُنزلـَت للدِّما والعنف ِ أديـان ُ
فالله لا يرتضي للعــــرش ِ حاميـــة ً
وحولهُ من جنود ِ النـّور ِ فرسان ُ

ولا شك في أن شاعرَنا شموليٌّ في رؤياه ورؤيته، ومثقف ٌجامع ٌ تناول في كتاباته معظم المواضيع التي يتطرق إليها معظم شعرائنا الفلسطينيين، وما يميّز حبيب هي هذه الاستمرارية وهذا التوهّج المنبثق من معين ثقافته الفلسطينية الواضحة.
ونحن نتصفح صفحات الديوان نجد مزيجا ً من الحزن والفرح والحب والحقد والتصريح والتلميح واللعنة والدُّعاء والتجلي والموقف والنبوءة والعزيمة والانكسارات الحــــادّة.
في مجموعة شاعرنا الكثيرُ من المفاجآت، يغمرُنـا دفءُ وانسيابُ قصائدِهِ ببساطةِ أفكارها وعمق ِ معانيها وشاعريةِ كلماتِها وتجليها بين مقامات الشعر.

وإذا كان شفيق حبيب؛ أعلن عن نفسه صارخا ً في البرِّيـَّـــة، فهو حتما ً سيتواصلُ في منهجيته، وسيؤكد صدق رؤيته وطموحه نحو الوصول، مع الاعتزاز به شاعر ً فلسطينيـّــــا ً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى