الخميس ١ أيار (مايو) ٢٠٠٣

أنا ضد تدريس الطب النفسي بغير اللغة العربية

د. يحيى الرخاوي شخصية مركبة بحق من الصعب أن ندرجها تحت تصنيف واحد. فهو لا يكتفي بدوره المهني والعلمي كأستاذ للأمراض النفسية بكلية طب قصر العيني منذ عام 1974، ولكنه وسع من هذا الدور ليصبح مشاركاً مهماً في الحياة الثقافية المصرية والعربية. وقد شغل، بجانب أسلوبه في تطوير العلاج الجمعي، بالجراءة والصرامة والموضوعية في الوقت نفسه، ورغم أنه يعد من الشخصيات العلمية البارزة ومن مفكري مصر المعدودين فإنه طرق الشعر فأصدر عدة دواوين هي "سر اللعبة"-1978، و"البيت الزجاجي والثعبان"-1983، و"اغوار النفس" (شعر بالعامية المصرية)، وقد نالت روايته التي صدرت في جزأين تحت عنوان "المشي على الصراط" جائزة الدولة التشجيعية للآداب عام 1979، وقد ولد الدكتور يحيى الرخاوي في عام 1933 وعمل مدرساً بكلية طب قصر العيني منذ عام 1965. ومن أهم مؤلفاته في مجال علم النفس: "علم النفس تحت المجهر" – 1968، و"مبادئ الأمراض النفسية"-1977 و"عندما يتعرى الإنسان"-1979، و"دراسة في علم السيكوباثولوجي"-1979. وأصدر بجانب مؤلفاته الأدبية التي ذكرناها العديد من الكتب الأخرى أهمها "ترحالات الرخاوي" في ثلاثة أجزاء وهي من أدب المكاشفة ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات.

وقد أجرى الحوار معه السيد المخزنجي وهو صحفي وناقد أدبي بالقسم الثقافي بجريدة المساء القاهرية، وله العديد من الحوارات الصحفية والمؤلفات مثل "العدل والتسامح الانساني"-1987، "تنمية القيم التربوية والنفسية للأبناء"-1993، وله كتاب "المرجع في السرقات الفكرية المعاصرة".

 ما رأيكم في التعليم الجامعي اليوم، وبماذا تنصح لتطويره بالنسبة للكليات العملية كالطب، الهندسة، العلوم، الصيدلة. . . الخ؟

 تعليم جامعي ماذا؟ إن ما يجري في التعليم قبل الجامعي ثم التعليم الجامعي هو إنذار بالدمار والضياع، التعليم عندنا يبدأ من الابتدائي بالحشر المفرط لعلوم ومعلومات لا قيمة لها، ويصطبغ طول الوقت بالغش الجماعي وأحياناً بالغش الرسمي والرشاوى للناس والإعلام بالامتحانات السهلة، بدعوى عدم الخروج عن المقرر، وهات يا مجاميع، وهات يا إحباط، إن الغش أصبح له جمعيات أهلية (جمعية الغش التعاوني الأهلي) يعاونها الحكم المحلي بتعليمات مركزية.

ثم ترى العجب ونحن ننتقل الى جامعات المذكّرات دون الاطلاع الانتقائي. حلت الجمل المتقطعة محل الحوار الخلاق وتشغيل العقل، وحل الحفظ محل تدريب المهارات، إن أغلب الطلبة بالجامعة لا يعرفون مكان المكتبة، بل إنهم لا يعرفون فتح المعجم للكشف على كلمة جديدة، يا عم الله يسامحك، قال تعليم قال؟!

 وهل تسللت ظاهرة الدروس الخصوصية لرحاب الجامعة؟ وهل هي تمثل خطراً على الناحية التعليمية أم لا؟

 الدروس الخصوصية أحسن من الغش الجماعي، وأحسن من الجهل المطلق، التدريس الجامعي لا يدرس، ولا يترك الدروس الخصوصية تدرّس، أنا ضد الدروس الخصوصية إذا كانت هناك دروس عمومية، لا يوجد في أغلب الجامعات إلا مذكرات مهلهلة ليس فيها جمل مفيدة، بل شرط أول الأسطر ترص بعدها بضع كلمات (قصّر ولِمْ المتكسّر).

إن أوهام منع الدروس الخصوصية هي خدعة تستعمل للدعاية الرسمية، وما لم تتغير طبيعة الامتحانات. وما لم يعّد للجامعة معنى الجامعة، وما لم يأخذ عضو هيئة التدريس حقه من الحكومة، لن تتوقف الدروس الخصوصية ولا ينبغي أن تتوقف، إنه لا توجد قوة على الأرض يمكن أن توقف العرض والطلب لتحقيق أهداف اتفق الجميع على اغترابها، ومع ذلك فلا يوجد غيرها.

تعريب الطب

 بالمناسبة . . لماذا ترفض، منذ عام 1984، دعوة بعض الأكاديميين تعريب العلوم والطب على نحو خاص؟

 أنا لم أفهم السؤال، ولا أعرف لماذا تحديد سنة 1984.
أنا لا ولم ولن أرفض تعريب العلوم والطب خاصة، بل إنني ضد تدريس أي حرف باللغة الإنجليزية وبالذات الطب النفسي. وقد بلغ بي التحدي أن كتبت علم السيكوباثولوجي شعراً بالعامية (وليس رجزاً كألفية ابن مالك) ثم قمت بشرح هذا الديوان الذي أسميته سر اللعبة لأثبت قدرة العربية شعراً ونثراً، فكان مؤلفي الأساسي "دراسة في علم السيكوباثولوجي" شرح ديوان سر اللعبة، إن مرضانا يمرضون بالعربية ويشكون بالعربية فكيف أعالجهم وأدرسهم وأشرح حالتهم إلا بالعربية، إن عدم استعمال العربية هو تنازل عن الهوية وتشويه للعقل الوطني والقومي وإجهاض للإبداع.

الجائزة الأدبية والعلمية

 حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في القصة الروائية عن روايتك "المشي على الصراط" وهي في جزأين: عام 1979 . . مع أنك أستاذ في الطب النفسي ولك العديد من المؤلفات في هذا المجال سؤالي : أليست هذه مفارقة أن يحصل د. يحيى الرخاوي على جائزة الدولة التشجيعية في مجال الآداب ويحرم منها في مجال تخصصه العلمي بالذات؟

 ليست مفارقة ولا يحزنون، إن موضوع الجوائز هذا موضوع حساس، وأنا لا ألوم أحداً بشأنه، لأنني لم أتقدم لأي جائزة، ولم يرشحني أحد لأي جائزة، هذه أمور لها خطوات معروفة، لا يصح أن يلام أحد على أنه لم يسلكها، ثم إن من يسلكها ليس من حقه أن يلوم أحداً على أنه لم ينلها.

ثم إن حصولي على جائزة الدولة في الأدب الروائي لها حكاية، فأنا لم أتقدم لها وإنما وقعت الرواية في يد ناقد نبيل، فتقدم بها، فنالت الجائزة، وثار حول هذا الموضوع لغط كثير، أنا لا أنكر أنني أتمنى لو حصلت على جائزة وعشر جوائز، لكن لكل إنسان طبعه وطموحاته، وليس من طبعي ولا من بين معارفي (إن كان لي معارف) أن أعرض نفسي أو أسوّقها، ثم إن الجائزة لا تدل على شيء أكثر من تناسب ذوق وحكم من منحها مع قدرها وعطاء من أخذها، أما أنها تزيد من قيمة عمل ما أو شخص ما، فهذا أمر آخر. سيظل حكم التاريخ وحكم الجمال، وحكم الأصالة، وحكم ما ينفع الناس ويتحدى الغناء، هو الذي يقدّر الأعمال والرجال مهما تأخر التقييم. أما مسألة حرماني من جوائز في تخصصي العلمي، فأنا أتبع المنهج الذي لا يرضى عنه العلماء عندنا (وربما هو ليس مقبولاً في أماكن كثيرة أخرى من العالم) وهو ما يسمى بالمنهج الفينومينولوجي، وهو منهج غامض ومتهم بالشخصنة. وهو منهج لا يهم أغلب من يقوم بالتقييم ومنح الجوائز، كما لا يرحب به المحكمون فيجيزون نشر أعمال من يتبعه سواء في الداخل أو في الخارج، فكيف ألوم غيري وأنا الذي اخترت ما ليس كذلك؟

زملائي وأساتذتي المسؤولون عن منح الجوائز عندهم كل الحق فيما يأتون وما يدعون، وأنا لا أشعر لا بالظلم ولا بالإنكار ولا بالإهمال، رغم احترامي للجوائز وفرحتي بها إن نلتها، لكنني لا أسعى لذلك، لا تعلياً، بل جهلاً بالطريق، واحتراماً لمقاييس لا تخصني.

الشعر العامي

 لك بعض المؤلفات باللهجة العامية المصرية، فهل تعترف، سيادتك بالعامية كلغة "كتابة وثقافة" معاً، ولماذا؟ وبالمناسبة، ما رأيك في مستوى الكتابات التي يطلقون عليها "شعر عامية" اليوم؟

 أنا لا أميل للكتابة بالعامية، من حيث المبدأ، حتى حوارات قصصي ورواياتي أكتبها بالعربية، لكنني أوافق على أن الشعر بالعامية هو شعر بكل معنى الكلمة، واللغة العامية تتوافر لها كل مقومات اللغة، والشعر بالعامية غير الزجل، وأنا ليس لي مؤلفات بالعامية إلا ديوان كامل (أغوار النفس) شرحت فيه نقداً للعلاج النفسي والتحليل النفسي، واعتذرت فيه بالعامية للغة العربية باعتبارها حبيبتي وباعتبار أن العامية هي ضرتها الشابة. وقد فسّرت اضطراري للكتابة بالعامية قائلاً في مقدمة ديواني أغوار النفس، مخاطباً اللغة العربية، قلت:

طبْ وحبيبتي، راح أقولها إيه
إللي ما عمرها قالت لأه ولا مش قادرة، ولا فيها شيء يتعايب
حلوة، وغنية، وبنت أصول
وأنا أعمل أيه؟
أصل العملية المرّادي كان كلها حس
والحسن طِلِعْلي بالبلدي بالعامي الحلو
والقلم استعجل، ما لحقشي يترجم، لا تفوتهْ أيها
همسهْ، أو لمسهْ، أو فتوتة حِسْ
معلش النوبة، المرّادي سماح
واهي لسه حبيبتي
حتى لو ضرّتها غازيّة بتدق صاجات

التفكير والمرض

 هل صحيح أنه يمكن أن ينقلب "التفكير" الى مرض عند الانسان؟

 ما معنى أن ينقلب التفكير مرضاً؟ التفكير هو أعظم ما يميز الانسان، هو أرقى ما توصل اليه العقل البشري، يمكن أن يختل التفكير، أو يعجز، أو يتفكك، أو يتناثر، ليصبح هو المصاب بالمرض، لكن التفكير في ذاته لا يمكن أن يكون مرضاً.

أحياناً يغتر الانسان باستعمال تفكيره بإفراط حتى يحل محل وجدانه وإيمانه، فيتصور أن التفكير هو كل شيء وهذا ليس عيباً في التفكير ذاته، وإنما العيب في عدم توازن القدرات مع بضعها البعض.

وأحياناً توجد فكرة ملحة (تافهة أو لا لزوم لها في غير موضعها) فتحل طول الوقت أو معظم الوقت محل التفكير الهادف: وهذا عيب مرضي عند من يصابون مثلاً بوسواس التفكير الاجتراري.

 يقولون إن الفرق بين الجنون والعبقرية "شعرة" . . فما هي هذه الشعرة في رأيك؟ وهل من الممكن أن يخرج الإبداع من "لحظة الجنون"؟ وهل تعترف سيادتك بـ"الجنون" كمرض حقاً؟

 أولاً: هذا قول سخيف، رغم أن فيه محاولة للتقريب بين الجنون والإبداع.
ثانياً: كلمة عبقرية هي كلمة ينبغي أن تزاح جانباً لأنها تشير الى تميز شخص بذاته بقدرات فائقة غير مألوفة. وهذا النوع من التميز الخاص جداً لم يعد وصفاً مقبولاً ومطلوباً كما كان شائعاً من قبل. فكل شخص هو مشروع عبقري بشكل أو بآخر، لأنه مشروع مبدع.

ثالثاً: أنا أصوغ هذه المسألة صياغة أخرى تقول: إن الإبداع هو جنون استطاع أن يجاوز مرحلة التناثر الى تخليق الجديد، في حين أن الجنون هو إبداع مجهض.

فالذي يربط بين الجنون والإبداع هو اتفاق البدايات، بمعنى البدء برفض الأمر الواقع، ثم تفكيك التركيب الجامد لقصد إعادة ترتيبه، لكن هذه البداية المشتركة قد تنتهي الى اتجاه إيجابي أو الى عكس ذلك، ففي حين يعود المبدع يلملم نفسه ويلملم ما فكك من أجزاء في تخليق ذاته أو تشكيل إبداع جديد في بناء أصيل، نجد أن المجنون يتمادى تناثره حتى ينشظي الى تدهور يفقده القديم والجديد معاً.

رابعاً: طبعاً أعترف بالجنون ونصف، ولكن ذلك لا يعني أنني أحبذه أو أعتبره ثورة. إن اعترافي بالجنون هو احترام للمحاولة وليس تسليماً بنتائجها. وهل يمكن أن أمارس مهنتي دون الاعتراف بالجنون واحترام لغته لمحاولة ترجمته ثم تعديل مساره؟ أنا أرفض التسليم للجنون، أو وصم المجنون بما يهينه أو يحتقره، وهذا وذاك يساعداني على أن آخذ بيده الى الناحية الأخرى.

الطبيب والمشعوذ

 يخلط البعض بين "دور" المعالج النفسي ودور المشعوذين والدجالين انطلاقاً من أن كليهما يعتمد في طريقة تعامله مع "الحالة" المرضية من نقطة "الإيحاء" النفسي المسبق الذي يجعل الشخص في وضع استسلام وتسليم كاملين في يد الطبيب المعالج أو المشعوذ!! سؤالي: كيف يمكن لنا التفرقة بين هذين "الدورين" كأسلوب ممارسة في علاج بعض المرضى النفسيين؟ وهل يستطيع ادعياء تسخير "الجن" أن ينجحوا في إقناع المترددين عليهم بعلاجهم . . أن ذلك نوع من "الابتزاز" الذي يقع ضحيته كثير من أفراد الطبقات "الراقية" بل وعلماء وأساتذة جامعة وبماذا تفسر ذلك؟

 أولاً: أنا لا أوافق على أن كلا من المشعوذ والمعالج النفسي يعتمد أساساً على "الإيحاء"، ذلك أن الإيحاء لا يمثل إلا جزءاً يسيراً جداً من آليات الشفاء.

ثانياً: إن الذي جعل الناس تلجأ للمشعوذين والتعامل معهم من خلال فكرة المس بالجان ثم محاولة التصالح مع هذا الجان، أو إخراجه، وما الى ذلك هو أن أغلب الأطباء قد اختزلوا الانسان الى تركيب كيميائي فحسب، فراحوا يكملون نقص الكيمياء أو يضيفون ما يتراءى لهم من مواد تعوض نقص هذه المادة الكيميائية أو تلك، وهم بالتمادي في هذا الاتجاه الكيميائي لم ينتبهوا الى مدارس أخرى تتحدث عن تعدد منظومات المخ، وبالتالي تعدد الشخوص في الكيان الانساني الفرد، وهذا التعدد هو الذي يظهر في الأحلام، وأيضاً ثبت هذا التعدد بالتجربة، والملاحظة الظواهرية، حين نسي الأطباء والمعالجون هذا التعدد تبناه المشعوذون وأسموا الذوات المتعددة جاناً، وهات يا ضرب، وهات يا تهريج، وهات يا نصب، حتى ضاع المرضى والخلق والعلم بين طبيب مختزل مُمَيكن ومدّع يتمادى في تشويه الفطرة والتركيب البشري.

لا يمكن إنكار نجاح بعض ما يسمى العلاج بتسخير الجن، لكن الأمر يمكن ترجمته الى أنه علاج بالاعتراف بهذه الذوات الأخرى (التي لها ما يقابلها في تركيب الدماغ) فهي ليست جناً ولا يحزنون، لكنها "نحن" في حالات اخرى تسمح لهذه الذوات الأخرى بالحضور والتبادل (بعض هذه الذوات ما يقال عن الطفل في داخلنا، أو الكهل في تركيبنا، أو الأنثى في داخل الرجل وبالعكس وهذا فكر عالم جليل هو كارل يونج قبل أن يكون فكر إريك بيرن، وما دام الأطباء والمعالجون قد نسوا كل ذلك، فهم تركوه لمن حسبه جاناً واستغل به الناس وأذى المرضى).

 بالنسبة لجوائز الدولة . . بالرغم من أنك حصلت على جائزة الدولة التشجيعية منذ أكثر من ربع قرن، وبالرغم من أنك ترأس مجلس إدارة جمعية الطب النفسي التطوري، الى جانب كونك عضواً بالمجلس الأعلى للثقافة . . ناهيك من مؤلفاتك العديدة في مجال الطب النفسي، فإن جائزة الدولة التقديرية تأخرت عنك حتى اليوم، ما هو تقييمك لأسلوب "منح" جوائز الدولة من قبل المجلس الأعلى للثقافة. . . وما ملاحظاتك على نظام "التصويت"، ومن قبله تصعيد الأسماء المرشحة لنيل الجائزة من قبل أمانة المجلس الأعلى للثقافة؟

 سبق الرد على هذا السؤال ، وأضيف هنا أنني لا أعرف نظام التصويت لهذه الجوائز، وليس عندي بالتالي اعتراض عليه، لأن معظم من ينالون الجوائز هم من قادة الفكر والعلم فيما عدا استثناءات قليلة. فكيف أشك في نظام ينتقي هؤلاء الرواد؟ صحيح أن هناك من لا يستحق ذلك التكريم ويناله بالاتصالات والتربيط، لكنني أعتقد أنهم قلة، وليس معنى هذا أنني لم أحصل على ما أتصور أنني أستحقه، أو تتصور أنت أنني أستحقه. ليس معنى ذلك أنني مظلوم أو منسي، لقد ذكرت من قبل أنني لا أستهين بمثل هذا التقدير، لكن إذا لم يصلني في الوقت المناسب فقد يرجع ذلك الى أنني مخطئ في تقييمي لنفسي (وأنت كذلك مخطئ في تقييمي)، أو ربما السبب أنني أتكلم لغة أخرى لا تروق لمن بيده الأمر، (كما شرحت سابقاً)، أو لعل ما أعتبره إنجازاً يستأهل التقدير هو إنجاز ظهر في غير أوانه، وبالتالي يُعتبر طرحه أمام حكام لا يدركون قيمته الآن هو من باب الوزن بالميزان غير المناسب، وهو سوف يستمر. إن كان أصيلاً، حتى يأتي أوان تقييمه بعد عام، أو مائة عام، أو لعله يثبت زيفه وتفاهته، من يدري؟ الله أعلم، هذا كل ما في الأمر.

الانسان والتطور

 بالنسبة لمجلة "الإنسان والتطور" التي ترأس، تحريرها، وتصدر عن جمعية الطب النفسي التطوري. يلاحظ المتابع للمجلة (وعندي 95% من أعدادها) منذ العدد الأول إنها مجلة لخاصة الخاصة وليست حتى لجمهرة المثقفين. . حتى أن البعض شبهها بمجلة "فصول" النقدية التي تصدرها هيئة الكتاب منذ عدة سنوات. سؤالي: لماذا لا تفكرون في "إعادة" النظر في أسلوب المجلة اليوم حتى لا تتعرض مثلما تعرضت مجلة "فصول" للتوقف عن الصدور، خصوصاً أن "الانسان والتطور" تعرضنا لهذا التوقف منذ سنوات قليلة؟

 أوافقك على ملاحظة تعثر صدور مجلة "الانسان والتطور" ولكني أعتقد أنها توقفت، ومتوقفة لأسباب مختلفة، ليس لأنها تصدر لخاصة الخاصة، ولكن لأنها لا تقبل الإعلانات، وبالتالي فالأسباب مادية أساساً، وأيضاً لأنها ما زالت وبعد عشرين عاماً مجلة الصوت الواحد (الذي هو صوت رئيس تحريرها، الذي هو أنا)، وهذا خطأ شنيع، وحين حاولنا أن نتلافى قصور التمويل وفتحنا الباب للإعلانات لم نستطع أن نكون عند حسن ظن شركات الأدوية التي حسبت أنها يمكن أن تشترينا على حساب المرضى ببضع عشرات أو مئات من الجنيهات.

أما إعادة النظر في شكل المجلة ومستوى خطابها ولغتها، ومحاولة تعدد الأصوات طول الوقت. ربنا يسهل. ادع لنا.

مستقبل الطب النفسي

 مستقبل الطب النفسي في مصر، كيف يراه د. يحيى الرخاوي الآن؟ وهل تؤمن بالعلاج بالقرآن خصوصاً أن هناك من يفسر قوله تعالى:
<< وننزل من القرآن ما فيه شفاء لما في الصدور >> في هذا الاتجاه؟

 الطب النفسي في مصر أفضل كثيراً من بلاد أكثر تقدماً، فالثقة بين المريض والطبيب تسمح للطبيب بمساحة من الحركة يستطيع من خلالها أن يساعد مرضاه دون تدخل المحامين ودون قيود القانون الأعمى، أما مستقبل الطب النفسي فالأرجح أننا سنتبع خطاهم في الغرب دون أن تكون عندنا إمكاناتهم. يقول أحد زملائي الذين هاجروا الى فرنسا إن الأطباء هناك (وفي أمريكا) لم يعودوا أطباء، هم موظفون لدى شركات التأمين، هم أقرب الى مستخدمين في "إدارة شؤون المرضى" يملأون الأوراق أساساً ويحمون أنفسهم من المساءلة القانونية، ثم يأتي العلاج أو لا يأتي هذا أمر آخر، فالمريض يبدو وكأن همه الأول أن يأخذ المعونة المقررة له من شركات التأمين أو من الدولة، والطبيب يحاسب هذه الشركات وينفّع شركات الدواء ودمتم، وقد يشفى المريض أثناء ذلك. أما الطب الحقيقي الذي يكون همّ الطبيب الأول والأخير هو شفاء مريضه، فهو يتراجع بشكل مخز.

هناك أمل بعيد أن تظل مصر محتفظة بالعلاقة الوثيقة بين الطبيب والمريض دون تدخل ثالث، وأن تتوثق أكثر فأكثر قيمة الأعراف والأخلاق والتقاليد فلا يحولون بيننا وبين علاج مرضانا خاصة أنه ليس عندنا تأمين ولا غيره.

أما عن القرآن الكريم فلا شك أنه شفاء بمعنى أنه من أكبر ما يساعد الانسان على استعادة توازنه، لكنه ليس شفاء بأن يقرأه آخر وهو يملس على جبهة مريض، أو أن يكتب مأجوراً بعض آياته في حجاب، هو شفاء حين يستوعب المريض (والسليم) نبض إيحاءاته. حين يسمح لمستويات وعيه بأن تصاعد أليه، حين يصبح خلقاً يمشي على الأرض، فيتصاعد بنا الى أرقى مراتب الصحة.

 هل ترى أن تراجع حجم الإيمان بالله في نفس الإنسان المعاصر، مع سيطرة النزعة المادية يؤثران سلبياً في زيادة نسبة المرضى النفسيين اليوم؟

 طبعاً، الإيمان الحقيقي هو أعلى مراتب التوازن على كل المستويات، ونقص هذا التوازن يخل بهارمونية الوجود لكنني أحذر من اختزال الايمان الى نوع من التخدير المطمئن.

إن الإفراط في استعمال الآية الكريمة تنبه الى أن النفس المطمئنة تدخل في "عباد الله"، وأنها تكون كذلك (مطمئنة) وهي في نهاية المطاف، وهي راجعة الى ربها راضية مرضية.

لكن، الإيمان الذي يلوّح بالاطمئنان الإيجابي هو الإيمان الذي يشمل الكدح الى وجه الله تعالى كدحاً لنلاقيه، وأيضاً أن نحمل الأمانة، وأن نحمل القول الثقيل، وأن نواصل الجهاد الأكبر.

وكل هذا فيه ما فيه من شرف الألم وعمق الحوار، وليس الطمأنينة السلبية.

د. يحيى الرخاوي و سيد المخزنجي


مشاركة منتدى

  • السلام عليكم
    اولا احب ان اعقب على المقال بأنه من اروع المقالات التى قرئت بصراحه ويكفى ان المتحدث انسان مثقف جدا ومؤمن بالله ويؤسفنى بصراحه ان يكون الدكتور يحي غير معروف على المستوى العربي فأنا اول مره اسمع به واعتقد بأنه ليس شرطا ان اكون متخصصه فى الطب النفسي لكى اعرف الدكتور يجب ان يكون الدكتور يحي وامثاله معروفين على المستوى العربي للاننا تفخر بأنهم ينتمون لديننا وللأمتنا العربيه واتمنى ان تكثرو من هذه الحوارات الممتعه والمفيده لكل من يقرأها ولكم جزيل الشكر .
    اختكم من الكويت مزيانه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى