الخميس ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم بشير خلف

أنين المدينة

كتابٌ جديدٌ بعنوان :" أنين المدينة " صدر أخيرا لرابطة الفكر والإبداع بمدينة الوادي بالجزائر .الكتاب من الحجم المتوسط يقع في 178 صفحة ..كتابٌ جميلٌ جدّا من حيث التنسيق والإخراج ، وتصميم الغلاف المعبِّـر بحقٍّ الذي أبدع فيه الفنان التشكيلي المعروف سواسي محمد البشير.
هذا الكتاب صدر عن دار مزوار للطباعة والنشر بمدينة الوادي التي تألّقت واكتسبت خبرة في نشْر الكتب والدوريات وغيرها من المطبوعات ، ولا غرْو أن رابطة الفكر والإبداع وهي تُصدر كتابها الثالث في هذه السنة بعد كتابيْها : الموروث الشعبي وقضايا الوطن ، عزْفٌ لفجرٍ آتٍ ، كانت وفية لعهدها الذي قطعته على نفسها يوم أن أُنشِئتْ بأنها ستأخذ بأيدي المبدعين الشباب ذكورا وإناثا في مساعدتهم على أن تشجعهم بفتْح الفضاءات الفكرية والثقافية أمامهم من ناحية ، وأن تطبع على كاهلها إبداعاتهم الأدبية والفكرية أفرادا ، أو في إطارٍ جماعيٍّ كما هو أمرُ هذا الكتاب الذي نعرضه على القارئ الكريم .

لئن كان كتاب : "عزْفٌ لفجْرٍ آتٍ " يقدم عشرين شاعرا وشاعرة من الولاية للقارئ : تعريفا حياتيا ومسارا إبداعيا ، ثم تقديم بعض القطع الشعرية لكلّ شاعرٍ ..قطع اختلفت في الوزن ، والموضوع حتّى يُلِمَّ القارئ المهتمّ بمكانة كلّ شاعرٍ من جهة ، وبالحركة الشعرية بهذه المنطقة الشرقية الجنوبية من الجزائر ؛ فإنّ هذا الكتاب الجديد : " أنين المدينة " خُصّص للقصة القصيرة ، فكان مساحة رحبة جميلة اتّسعت لإثنتي عشر قاصًّا وقاصّة من الولاية .

من الصفحة الثالثة إلى الصفحة الثالثة عشر ..أي في إطار عشر الصفحات كتب رئيس الرابطة بشير خلف عن تلازمية القصة للإنسان ، وجذريتها المُوغلة في التاريخ الإنساني ، وعلى أنّ تحرّك الإنسان أينما عاش ، وأينما حلّ لا يخلو هذا التحرّك من القصِّ ، حياة الفرد مثل حياة الجماعة ، مثلما هي حياة الشعوب والأمم هي قصصٌ ، ومن العجيب أن هذه القصص لا تخلو من الحزن والأسى مثلما تخلو من الفرح كحياة الإنسان بطبيعة الحال ؛ فإن الإنسان كبيرا أم صغيرا يميل إلى سماعها ، ويشتاق إلى خفاياها .

ولم يدخل رئيس الرابطة في الإشكال الذي لم يُحسم بعد تعريف القصة القصيرة ، أتعريفها يُحدّد بعدد الصفحات ، أم بعدد الكلمات ، أم بالموضوع الواحد في القصة أم به وتتفرّع عنه مواضيع ترفده وقد تخفى عن القارئ العادي ، ليعرض تعريفا اتّفق عليه أغلب النّقّد ومبدعو القصّة وهو:
" القصّة سرْدٌ واقعيٌّ، أو خيالي لأفعال إنسانية ، قد يكون هذا السّرْدُ نثرًا،أو شعرًا يُقصد به إثارة الاهتمام والإمتاع،أو تثقيف السامعين،أو القُـرّاء. ويقول روبرت لويس ستيفنسون وهو من رواد القصص المرموقين:
« ليس هناك إلا ثلاثة طرق لكتابة القصة؛ فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمّي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوًا معينًا ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده."

فالقصة القصيرة سـرْدٌ قصصي قصير نسبيًا (قد يقل عن عشرة آلاف كلمة) ، يهدف إلى إحداث تأثير مفرد مهيمن، ويمتلك عناصر الدراما. وفي أغلب الأحوال تركز القصة القصيرة على شخصية واحدة في موقف واحد في لحظة واحدة ؛ وحتى إذا لم تتحقق هذه الشروط ، فلا بد أن تكون الوحدة هي المبدأ الموجه لها؛ والكثير من القصص القصيرة يتكون من شخصية (أو مجموعة من الشخصيات) تقدم في مواجهة خلفية أو وضع، وتنغمس خلال الفعل الذهني، أو الفيزيائي في موقف. وهذا الصراع الدرامي .. أي اصطدام قوى متضادة ماثل في قلب الكثير من القصص القصيرة الممتازة.

من أهداف رابطة الفكر والإبداع الأخذُ بيد المبدعين والمبدعات في هذه الولاية لنشْر إبداعاتهم الأدبية سواء في شكْل نصوص ، أو مجموعات وِفْق الإمكانات المُتاحة ..وقد سنحت الفرصة الآن للرابطة كي تفيَ بوعدها وتنشر في هذا الكتاب نصوصا قصصية لمبدعين ومبدعات في فن القصّ ..مثلما فعلت ذلك في فنّ الشعر .

إن الرابطة لسعيدةٌ وهي تقدم هذه الباقة الجميلة من النصوص القصصية ، وبقدْر ما تنوّعت الكتابة فيها تنوّع الكُتّاب ، تنوّعت أيضا المواضيع المطروحة ..الكتاب احتضن إثنتي عشر قاصًّا وقاصّة كما سبق منهم من سبق وأن نشر في بعض الصحف الوطنية ، وشارك في ندوات وملتقيات محلّية وجهوية ، ومنهم منْ عُرف إلاّ محلّيا ..فالكتاب قدّم لكلّ واحدٍ من هؤلاء سيرة إبداعية وقصتين ، أو قصّة واحدة تبعا لطول النصّ القصصي أو قصره .

الكتاب لقي صدى طيّبا جدّا ليس من المبدعين فحسب المستهدفين ولكن من أغلب المثقفين ممّن وصلهم الكتاب واطّلعوا عليه محلّيا ووطنيا ، ورأوْا فيه لفتة كريمة من الرابطة ، وعملاً متفرّدا نادرا ما يُنجز من أية هيئة رسمية أو غير رسمية .
وفي آخر هذا العرض نقدّم فقرات من بعض القصص الواردة في هذا الكتاب كعيّنات ، حتّى تتّضح الرؤية أكثر للقارئ ..فهاهو المبدع القاص بادي عبد الرزاق في قصة " أطوار" :

« إليكِ يا شهرزاد الأحرف والكلمات... إليكِ في عيدك المؤجل عبق القصيدة وانحناء الضاد.
يا شهيدة الصوت الحر ...إليك يا أطوار رغما عن القتلة والخفافيش.
طورا تـهجرنا الأحرف والكلمات، طورا تسافر في حنايا الروح أحلامنا الصغيرة ، طورا نحب الحياة رغم المرارة. وأطوارا كثيرة يكسرنا الحزن ويحولنا شظايا...

نحن الذين تعودنا أن نمـوت، أن نذرف دمعنا حين يذبحنا العجز ...لم يكن لي إلا الحسرة يا أطوار وأنا الذي قاسمـكِ همك من أزل الأيام لم يكن لي إلا تنهيدة تطلع من القلب لتشقه ، لم يكن هناك إلا أن أتصوركِ و أنت بين أيدي الجلاد...جوارحي يا أطوار لم تحتمل عذابك و أنت التي حملتِ سهول الشمال ، وصحارى الجنـوب في الأوردة...أنتِ التي جرى دجلةُ في رحابة أوردتـها...»
وهذا المبدع غربي اسماعيل من نصٍّ قصصيٍّ له بعنوان : " الدّاموس " :
« المطر ...وحده المطر لا شيء غيره ، لا زلتُ الآن أعشق هذا الساقط من السماء رغم أنه لم يعد يبعث الرائحة التي كنت أشتمها فيه ... كلّما سقط .

مطرُ المدينة يأتي ...موحلا كأحلام متعبة .
كأن السماء تبكي وحدتي وتحدث صمتي . أضواء الشوارع المعتمة تحاول كسْر هذا الليل الجاثم ...الرهيب ، وكنت أراقب عجْزها .
كنتُ كما كنتِ تعرفين أحرق الليل بسجائري المتسابقة إلى شفتي ...المتسابق دخانها إلى صدري ، لا تعلم لعبة القتل ...
طعْمُ اليتم من الذات أكل أفراحنا ...الوقت هو الشيء الوحيد الذي أستطيع قتْله ..حتى هذه الكتابة تحوّلت وسيلة لقتل الوقت ولا شيء أكثر ...»
ونختم بمبدعة أخرى تألّقت في القصة والشعر ..تلكم هي : رحّال بريزة ؛ فمن نصٍّ قصصيٍّ لها بعنوان " الدّون كيشوت يسقط " :
« سار بأغلاله مُكبّلا بالحديد في الشوارع العربية....مسحها جميعا بقدميه مدينة مدينة وشارعا شارعا، وزقـاقـا زقـاقـا، يعلقُ في عنقه جرسا من نحاس يقرع عند كل خطوة يخطوها، فيتجمهر الناس أكثر فأكثر..هاهم يُطلّون من الشرفات ومن وراء النوافذ.....
تعمد الجميع أن يقتربوا منه ليستشعروا شعوره،ويتأملوا ملامحه الشيطانية .. اختلفت انطباعاتهم،وتباينت هتافاتهم بين ثائر متشفٍّ ،ومتسامح طيب حدِّ العبط.

 دعونا...نقطع لحمه...نفقأ عينيه...نصلبه...
 نُذيبه...نصبُّ على رأسه الرصاص المغلّى...
 أريد أن ألوك قلبه من صدره حياّ...
 دعوه...الله يحاسبه...»

يلاحظ القارئ الكريم في هذا الكتاب الإبداعَ القصصيَّ المكثّفَ ..المركّز الذي توشّحه الجملة الشعرية فتزيده جمالا ، والإبداع الذي تتخلله الجملة القصيرة التي يتوج بداياتها الفعلُ في صوره الثلاث فيزيدها حركية ، ويبعث في مفاصلها حياة أكثر ..وقد يصادف القارئ قصصا أخرى لا هي هذه ولا تلك ..

هي باقة ترجو الرابطة ومن خلالها أنها عرّفت بـهؤلاء المبدعين من ناحية ليس في الولاية فحسب ، ولكن في كامل القطر وخارجه ..وساعدت هؤلاء على أن يواصلوا إبداعاتهم بطرُقٍ أفضلَ ، مع الاستـفادة من غيرهم ، والحرص على التطوير والتجريب في كتابة النصّ القصصي ..والحمد لله هي أقلامٌ واعدةٌ ، وبإمكانها أن تساهم في إثراء هذا الجنس الأدبي الرّاقي


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى