أهزوجة
مع بزوغ الشمس على بيتنا الصغير فوق الأغصان تبدأ الحركة تجوب أرجاء البيت والغصن سويا، ليس فقط الطعام ما نبحث عنه كل صباح، نمتلك شيئا يميزنا عن أصدقائنا من الحيوانات وهو الغناء بجانب الطيران بالطبع، تعودت أنا وعائلتي على الغناء يوميا، غناء ينشر البهجة في قريتنا الصغيرة تلك ويرسم الابتسامة علي وجه طفل صغير يستعد هو الاخر ليوم طويل شاق، غناء كنسمات الهواء التي تدخل فتدب النشاط في جسد العجوز الذي نال منه الكبر ما نال.
حياتنا في القرية كانت هادئة وجميلة، لم أتذكر أنني قد عزفت عن الغناء قط، صار الغناء جزء لا يتجزأ من يومنا، وقعها كان جميلا على الآذان خفيفا علي الأفئدة، الحياة كانت تكسوها الألوان الجميلة، وكأنها مرصعة بالذهب الخالص الذي يشد الأنظار إليه، فقط الليل هو من كان يعكر صفونا وصفو بنو البشر، توقف الغناء بالنسبة لنا وتوقف تلك النسمات العذبة بالنسبة لهم، ما إن يسمع صدي أصواتنا في جنبات القرية إلا وتبدو كأنها عروس في ليلة زفافها.
بالقرب منا توجد حياة المدينة التي نمقتها نحن عصافير القرية، عصافير المدينة لطالما أخبرونا عن بعض المعاناة التي يعانونها يوميا مع بزوغ الشمس، الروح منعدمة هناك، الغناء صار عبئا ثقيلا عليهم، لمن يغنون؟ ومن يسمعهم؟ الوجوه العابسة والقلوب المنكسرة والعقول المنغمسة في الآمها لا تكترث بضجيج تلك العصافير الساذجة بل تود وأن تضربها حتي تكف عن إصدار تلك الأصوات، وفوق كل هذا ليس فقط الغناء كل همهم، بل صارت الحرية الآن أكبر همومهم.
كنا نرتعد خوفا من سماع قصص المدينة، لكني أنا وبعض إخوتي كانت في أعيننا أنها تجربة مثيرة للاهتمام حقا، لم يصيبنا الملل من القرية بالطبع ولكن المدينة أكبر بكثير ووضعنا نصب أعيننا تغيير حال المدينة البائسة تلك، كنا قد قررنا مسبقا موعد الرحيل، مع بداية ظهورها من بعيد بدأت علامات الدهشة ترسم على وجوهنا، تطور كبير وأناس كثيرون وحياة مختلفة تماما، أدرنا ظهرنا للخوف وبدأنا نجوب جنباتها في أولي زياراتنا لها.
في بداية حياتنا هناك كان الأمر صعبا بالطبع لكن مع الوقت تأقلمنا، مكاننا كان جميلا هادئا، الغناء صار أكثر متعة، بدأت حواجز الخوف من التجربة التي صورها أصدقائنا تنهار بمرور الأيام، صرنا نملك الدنيا وما فيها، بعض الوجوه العابسة راح الفرح ينتشلها، صرنا نري السعادة في عيونهم الواسعة تلك، وتيرة الحياة صارت أكثر سرعة، الحماس يزيد بجنون، تعجبنا من المعاناة التي سمعناها منهم، فلا توجد أي معاناة تذكر، هم فقط من فشلوا في التعامل مع الأمر
تدريجيا انقلبت الحياة الجميلة الملونة، الخوف بدأ ينسل لقلوبنا والمتاعب صارت تهدد حياتنا، لكن لن نقف حيال هذا صامتين ولن ندع الاستسلام يعترض طريقنا، صرنا نغني أكثر وأكثر، تارة تظهر الابتسامة وتارة يظهر الامتعاض، بعضنا أحس بالخطورة ورأي حتمية العودة لقريتنا الصغيرة، هناك نغني في راحة تامة وهدوء كامل، لكن العودة كانت بالنسبة لي وللبعض الاخر هي إيذان بالفشل الذريع، قررنا أخيرا البقاء والصمود حتى إشعار آخر.
وقع المحظور والذي كان يشكل الهاجس الأكبر قبل دخولنا تلك المدينة، البعض راح ضحية للأقفاص التي صنعت خصيصا لنا، بدأت القيود تحاصرهم فهم سلبوا الحرية، لكن الأخبار الجيدة ذيعت لنا وأخبرنا أنهم بحال جيدة وأن مالكيهم يعاملونهم معاملة حسنة، دائرة الغناء ستضيق عليهم بالطبع وستقتصر بالطبع على مالكيهم، لكن هذا ربما يكون أفضل لهم، مكان جيد وغذاء متوفر، هذا كفيل بالتنازل عن الحرية التي لطالما كنا رمزا كبيرا لها.
عادات بنو البشر لا تتغير وتغيرت المعاملة الحسنة، الأقفاص التي كنا واهمون على أنها مكان جميل صار مكان ثقيلا علي قلوبهم، الغناء بدا مزعجا بعد أن كان طربا، كل هذا تغير بين ليلة وضحاها، كل تلك الأحلام الوردية التي رسمت ذات ليلة فوق شجرتنا صارت كوابيس حقيقة مفزعة، بدأ العدد يقل تدريجيا ومع بزوغ الشمس يختفي فرد منا، تلك الأعداد المهولة التي اجتاحت سماء المدينة باتت أعداد ضئيلة لا يسمع لها صوت، حتى من تبقي منا لا يريد الغناء حتى يعرف مصير البقية.
كنا نحاول من حين لآخر الطيران وإلقاء بعض النظرات عليهم، عقدنا العزم أن نرجع سوياً كما رحلنا سوياً من قريتنا، ولكن الأهم أن يدب الملل لمالكيهم حتى يتسنى لهم أن ينعموا بالحرية، هذا حتما سيأخذ وقتا طويلاً ولكنها الطريقة المثلى تقريبا لفك قيودهم، قررنا أن نقسم أنفسنا بعض للغناء بحماسة كما هو وبعض للتحليق إلى الواقعين تحت رحمة القفص، الأمور تتحسن مع الوقت وشعرنا أنهم خارجون لا محالة، فقط الصبر قليلا وسنعود من حيث جئنا، سنعود لقريتنا الصغيرة.
لكن كل هذا ذهب أدراج الرياح وعددنا صار أقل فأقل، الغناء بدأ يخفت صوته، ما تبقى منا لن تستطع أن تفرق بينه وبين وجوه المارة العابسة، صوتنا يسمع فيه بعضا من الألم والحزن، لن يشجعك أبدا في بداية يومك، ننظر لبعضنا البعض متذكرين كل ما حدث، متذكرين الغناء والعناء، لكن الأسوأ لم يأت بعد، لم يبق سواي أنا العصفور الذي جاء من القرية، لم يبق سواي يغني ويحلق، لم يبق سواي يطمئن، لكننا سنعود عاجلا أم آجلا، لن أمتنع عن الغناء بل بالأحرى لن نمتنع عن الغناء.