الأربعاء ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم كاظم الشويلي

أين أنت ... يا نجمة الصباح

لم أكن أعلم إن في الوجود امرأة تخلق من الإنسان المتحجر كوكبا يتألق وينيــــر ظلمات الكون ...
لا أغالي، هكذا كانت (خديجة)، صنعت مني إنسانا آخر، تجلت مثل حلــــم جميل أضاء ليلة من حياتي السقيمة

ثم

افلت كنجمة الصبـــــــاح ...

والآن أيـن ذاك الحلم الجميل، يا سادتي ؟؟؟

اصرخ في المارة :-

لله يا محــــــــــسنين...

هـــــا أنا ذا افترش الأرض قبالة الرصيف، ويتجمع الذباب من حولي، انظر إلى ساقي المقطوعة، بدلوها بعكاز، أتوسل إلى المارة بوجه خال من الملامح:-
لله يا محسنيين ، هذه ليلة الجمعة، ثواب لأمواتكم ...

لا أحد يمنحني نظرة عابرة، أخشى أن يصبح الناس كلهم فقراء ثم يزدحم المكان، ويكتظ بالمتسولين وبعدها يزاحمونني على رصيفي، قال لي رجل احدب الظهر:-
اليوم أربعاء يا رجل، وأنت تصرخ هذه ليلة الجمعة،خذ هذه القطعة النقدية ...

لم اخجل من قوله فالذي يخجل يهلك في فقره، ولا يستطيع أن يعمل عملا شريفا، وشكرت الرجل على إحسانه من أعماق قلبي ودعوت الله له أن يمسح حدبته ويستقيم ظهره كخيط شاقول البناء...حدقت في القطعة النقدية .... آه إنها عملة ساقطة منذ العهد الملكي نظرت صوب الرجل الأحدب وبصقت خلفه فوقع البصاق على ثوبي .....

آه يا ( خديجة ) أين أنت، تاهت الأيام فلا اعرف الجمعة من الأربعاء ...
كانت صبية هادئة في قريتنا، نذهب يوميا مع حفنة من أطفال القرية للمدينة، حيث مدرستنا، بعضهم يقود دراجات و الأخر يمتطي الحمير، أما أنا وجارتنا (خديجة) وباقي الصبية نذهب راجلين، ونعود كذلك نتمتع بجمال الطبيعة نغني أناشيد المدرسة ..

نركض ......

نلعب ....... ببراءة كعصافير قريتنا ...

والآن أين تلك الطفولة ؟ آه لو تأتين ألآن وتشاهدين أبناءنا وحالنا، أنا استجدي المارة قرب السوق ...

وابننا (عباس) يتسول بين الدروب يطرق الأبواب، و(ليلى) حبيبتنا وزهرة حياتنا تتسول قرب الجامع الكبير، إيه .. كنت تحلمين أن تزفيها عروسا، لا يا سيدتي لم تحن ليلة زفافها...

أما (حسين) و (محمد) فقد أغلقت عليهما الباب بشدة كي لا يضيعا كما ضاعت الأيام ....

ولا أنسى أن أخبرك أنهما لم يبلغا سن التسول... آه يا (خديجة) أنت لا تعلمين إن التسول أصبح جزءا لا ينفك مني ...

صدقيني يا خديجة ... هذه آخر الحلول لكي نبقى أنا وأطفالك أحياء في مدينة الجياع، في بعض الليالي اصرخ في منامي (لله يا محسنين، هذه ليلة الجمعة) فيفزع الأطفال من نومهم، ويلتصقون بي، يخشون اللصوص، قبح لله وجه اللصوص ... ألم يتعلموا كيف يأكلون لقمة خبز من حلال أو عمل يحفظ ماء وجوههم؟...

أتذكرين يا (خديجة) كيف كنت تشدين من عزمي، وتسلحينني بالصبر والحب والأيمان، تأتيني كلماتك الثـورية -:

اذهب، قاتل مع إخوانك، غيّروا هذه الحكومة الفاسدة ارفعوا راية لا اله إلا الله ...

كنت شابا في قمة العنفوان، امضي مع أخواني نحارب السلطة، نطارد الأزلام ، يوما لاحقتني السلطة ،أصابت رصاصات طائشة ساقي اليمني ونجوت حينها بأعجوبة ...وبتر (زاير موسى) في تلك الليلة ساقي وعوضها بعكاز....

كنت شجاعة يا (خديجة) تشدين أزري وتضمدين جراحي وتمسحين دموعي بذيل ثوبك اللازوردي ولم ترهبك ساقي المبتورة، كما لم ترهبك من قبل سياط السلطة أيام دراستنا الجامعية...

كنت تسخرين من رجال الأمن عندما يشكون بكتبك، ويأخذونها للتحقيق قلت حينئذ بسخرية:-

اليوم اعتقلوا فكتور هيجو وتولستوي ...وفي يوم آخر اعتقلوا احدب نوتر دام و السياب، ومرة اعتقل رجال الأمن همنغواي ... ولما عاد كتاب همنغواي ناقص الأوراق، ضحكتي يومها بدهشة وقلت (عاد همنغواي هزيلا )...

آه لو تعودين يا سيدتي وترين في أي حال زوجك العزيز في أي يأس ...

بؤس ...
آسى ....
نوى ....
هوى ...

لو تعودين لصارعتي المرض وصرعتيه ...

أي مرض قتلك أيتها العملاقة .. أي مرض جعلك تتقهقرين من برجك المتألق في اللا نهايات، آه يا (خديجة) من سمح لك أن تمرضي، التهاب في الكبد، لعن الله الكبد من قال له أن يلتهب في هذا الزمن الوحشـــي، تتركيني وحدي أصارع الحزن المجنون، تتركيني من دون وداع ؟...

أنت تموتين بالكبد ورفاق الدرب ماتوا بالسجون على أعواد المشانق، وبعضهم ما زال يقاتل في الخنادق والآخر حزم الحقائب، إلى أين الرحيل ..؟

لا اعلم

لا اعلم ... أي سماء ستظلهم.. أين حلمنا يا خديجة، ذلك الوطن الحر تحت راية خضراء تظل الفقراء تحت خيمة الله الزرقاء نمحو الفقر من أرضنا الظمأى، لعن الله الفقر(لو كان رجلا لقتلته) لو كان جبلا لذريته في الهواء، لو كان بحرا لجففته في الصحراء ...

انظري

حدقي يا خديجة الى المارة إنهم لا يعطون شيئا ... الحق معهم يخشون الفقر...
انهض ...

من رصيفي، اقفز بين السابلة اصرخ ... أيها الناس إني اسمح لكم بالتسول ... وهذه غاية كرمي تقترب الحشود البشرية مني، تضحك ساخرة:

هه هه هه هه هه هه

يقولون:- متسول مجنون...هه هه هه ههههههههه

التقطت سكينا من إحدى المحلات ....

تجتمع الناس حولي ... يطوقونني،

أصبح أنا في مركز الدائرة:-

أيها الناس إذا لم تعطوني فسأقتل نفسي...

تضحك النسوة:- كر كر كر كر كر كر ...

ارفع السكين نحو السماء ...

تصفق الرجال: طق طق طق طق طق طق...

الدائرة حولي تضيق وتتوسع، اقطع يدي بالسكين وارمي بها إلى الجمهور،
اصرخ:- لله يا محسنين .. ينين .. أعطونا خبزا نأكله...

يزدحم الشارع بالمارة، اقطع بالسكين أذني وارمي بها إلى الجماهير العظيمة تزدحم الطرقات،

تعلو منبهات السيارات:طووووطوووطووووووط ...

اقطع لساني وأحز قلبي وادمي كبدي،

واصرخ: أعطوني كرامتي أزين بها وجهي ....

يرتفع صوت بوق بفم صبي:- بوووق بووووق...بووووووق

تصفق الأمة العظيمة بشدة، يرعد رجل أصلع بصوت جهوري:- ياله من ممثل بارع ...
اقطع ساقي السالمة وارمي بها إلى الناس ويزداد التصفيق، يهمس قزم في أذن زوجته طويلة القامة:-

أظنه درويشا يا شكرية...

ينهق حمار قرب الجمع، ولا اعرف كيف يكتب صوت النهيق، اقطع رأسي وارمي بها إلى الجماهير الخالدة ثم ارمي ببقية جثتي...

ويبقى عكازي في مكاني قرب الرصيف ...

تصفق الجماهير بنشوة لبراعة التمثيل، يبقى عكازي في مركز الدائرة، تقذف الجماهير المزدحمة القطع النقدية على عكازي بغزارة، ثم يتفرقون إلى أعمالهم ....

ينصرفون...

ينصرفو... ن...ينصرفـ... ون.....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى