الثلاثاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠١٠
الكتاب العربيّ:
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

أين هو من أزمات الأُمّة؟

-1-

سؤالٌ وُجّه إليّ قبل نحو سبع سنوات، حول تفسير غياب الكتاب العربيّ والإسلاميّ في معركة تشكيل الأفكار والقناعات بعد أحداث 11 سبتمبر؟

وما زال السؤال قائمًا، ويبدو أنه سيظلّ. وإذا قيس الأمر بالكتاب في الغرب، فمتى كان الكتاب العربيّ حاضراً حضور الكتاب هناك ليحضر اليوم؟! وهي قلّة حضورٍ للكتاب في صورته الورقيّة التقليديّة، على حين تجاوزت شبكات النشر والتوزيع في العالم الكتاب التقليدي إلى كتاب شريط الفيديو، والـ"سى دى"، والـ"دي في دي"، والنشر الإلكترونيّ بأنواعه، ليكون الكتاب دائماً في متناول الجميع. ولكن قبل السؤال عن "أين الكتاب العربيّ من أزمات الأُمّة؟"، يجب السؤال عن "أين الأُمّة عن أزمات الكتاب العربيّ؟" فالكتاب نفسه في أزمة مستديمة، وهل ينتظر ممّا يعاني أزمة أن يحلّ الأزمات؟!

على أن الكتاب الذي يجب التطلّع إليه هنا هو الكتاب النوعيّ، لا كتب المناسبات والمزايدات، فما أكثرها، هنا وهناك! ومعيار الكمّ ليس بمعيار. إن الكتاب الذي يعاني من غياب حقيقيّ ليس كتاب المناسبة أو ردّ الفعل، ولكنه الكتاب الذي يتوجّه لنقد الثقافة التي أنتجت، أو أسهمت في إنتاج، الأحداث وما أعقبها من تداعيات. الكتاب الذي يتوجّه للداخل الثقافيّ، ليتصدّى- فيما يتصدّى له- لتلك الأزمة العقليّة، المهووسة الحالمة، التي لا تقدّر عواقب ما تفعل فتُفسد من حيث تظنّ أنها تصلح. فهذه الحالة هي التي يجب أن يكون فيها النبش والتأليف. وبما أن الإصلاح الثقافيّ هو صمّام الأمن الحقيقي والدائم، فإن الكتاب هو قناته الأهمّ. وبذا، فإن دَوْر الكتاب المنتظر هو الدَّوْر العِلْميّ النزيه، والبادئ بإصلاح الداخل قبل الانشغال بالخارج.

إنها أزمة قِيَم ثقافيّة وقِيَم حضاريّة، أكثر من كونها أزمة كتاب، أو أزمة نشر، أو قراء. فكم هناك من القارئين النهمين الذين لا تزيدهم قراءاتهم إلاّ عمًى وتخلّفًا وتنطّعًا وانغلاقًا! ولقد كان هناك كثير من المسكوت عنه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فجاءت الأحداث تلك وتداعياتها لتكشف (المسكوت عنه) في واقعنا الاجتماعيّ والثقافيّ. وأزمة الكتاب قبل الأحداث وبعدها شاهد على الخلل العامّ، الذي يتعدّى التحديد في (نشر أو توزيع). إذ من نافلة القول أن يشار إلى أن أكثر الكتب مبيعاً اليوم في العالم العربيّ: كتب الطبخ، والرياضة، والشِّعر الشعبيّ. وهو ما يميط اللثام عن بطالة ثقافيّة، همّها غذاء البطون والأجساد والعواطف، لا غذاء العقول. كما أن من نافلة القول أن يستعاد الحديث عن طوفان النشر التجاريّ، مقابل قحطٍ في النشر العلميّ، وإلى ذلك هناك قمعٌ للكتاب المفيد، والذي يقول شيئًا، وأزمة في العرض والتوزيع، والإعلام والتسويق، وحواجز على انتقال الكتب من بلدٍ إلى آخر. لكن صناعة الكتاب الفاشلة تلك ليست إلاّ عَرَض الداء المتجذّر، الذي ستظلّ الشكوى منه ما لم يتغيّر الحال. وتغيّر الحال يكون بأمرين:

أولهما، الإقرار بلا آنيّة الأزمة، وأنها حالة مزمنة.

وثانيهما، معالجة عوائق الكتاب بمعالجة عوائق الثقافة العربيّة المزمنة نفسها، القائمة على قِيَم المجتمع الشفويّ، بكلّ مكوّناته من التعصّب، والانغلاق، مع النزوع إلى ما يدغدغ المشاعر والأحلام. ومن ثم غياب القارئ الحقيقيّ، والقراءة الحقيقيّة؛ لأسباب تربويّة، تعليميّة، إعلاميّة. لأن مشكلة العالم العربيّ ليست في نسبة الأُمّيّة، ولكن في أُمّيّة مَن يُدعون بالمتعلّمين.

والسؤال الذي يمكن أن يُطرح في هذا السياق كذلك: لماذا يبدو الإنتاج الإبداعيّ والفكريّ العربيّ موغلاً في الرومانسيّة، في زمن تُواجه فيه الأُمّة العربيّة أصعب الأزمات والتحدّيات؟

وهو سؤالٌ قد ينطلق من مضادّة للفنون والآداب، بالنظر إليها على أنها لهوٌ ولعب، وبعضها حرام. وهذه إشكاليّة أخرى، من عدم التوازن في النظرة إلى الحياة، والثقافة، وحاجات الإنسان، وضرورات التنوّع، في أخذٍ بأحد الحدّين، إمّا نبذ الفنّ والأدب بدعوى الجِدّيّة، والانشغال بعظائم الأمور لا بسفاسفها، أو غرق في نمطيّات دارجة وغير إبداعيّة من الفنّ والأدب، على حساب جوانب الحياة الأخرى، علمًا وفِكرًا وإنتاجًا.

ولعلّ موروث الثقافة- الشفويّ في معظمه، الأبوي في نسغه، الماضويّ في توجّهه- هو بيت الداء‍ وأصل الدواء، في كثير من جوانبه. لأن هذا الموروث يقف أحياناً بمثابة معوّق حضاريّ؛ وهو لبنة من لبنات النمطيّة في الخطاب الثقافيّ، بل هو يشكّل خطابنا في بنائه كلّه. أجل، لسنا في حاجة إلى الكتاب الرومانسيّ في مواجهة الأزمات والتحدّيات، فلطالما أبلينا في هذا بلاء حسنًا! وإنما سيسهم في مواجهة الأزمات والتحدّيات الكتاب الذي ينهض إلى مراجعة أمينة وعلميّة لسياستنا التعليميّة- مناهج، وقبل ذلك مدرّسين- ثم سياستنا الإعلاميّة، وهيئاتنا الاجتماعيّة ومؤسّساتنا الإداريّة. وسيسهم في مواجهة الأزمات والتحدّيات الكتاب الذي يسعَى إلى تبنّي حريّة مسؤولة لفتح العقول والقلوب لسماع الرأي الآخر، وعدم الهلع من الإصغاء إليه، أيًّا ما كانت وجهته. وسيسهم في مواجهة الأزمات والتحدّيات الكتاب الذي يرسّخ مبدأ القبول بسُنّة التعدّد في الحياة والأحياء، لا ببدعة الاستنساخ عن صورةٍ أبديّة واحدة. وسيغيّر الواقعَ الكتابُ الذي يعيد النظر في الموروث نفسه، ويجدّد قراءته كي يستنبت قِيَمه الصالحة لزماننا ومكاننا، ويئد ما عداها من قِيَم ضارّة، تُفشي الكراهية والشكّ بين الناس، وتنفّر ولا تبشّر، وتحقّر كلّ مخالف. كما سيُغيّر الواقعَ أخيراً الكتابُ الذي يلتمس الحلول العلميّة العمليّة العصريّة في كلّ شؤوننا، والكفّ عن التعويل كثيرًا على القصائد والخطابات الحماسيّة!

إنْ لم يكن ذلك، كنّا كمن يكابر بنكران مرضٍ يستشري فيه حتى يفتك به.

-2-

"وُلد في ظروف استثنائيّة/ تعلّم في ظروف تاريخيّة/ اغتنى في ظروف اقتصاديّة/ تزوّج في ظروف اجتماعيّة/ أتقن الحوار في ظروف ثقافيّة/ تسنّم ذروة المناصب في ظروف موضوعيّة/ افتقر في ظروف قاهرة/ مرِض في ظروف شائكة/ مات في ظروف غامضة!"

نموذج من القِصّة القصيرة جدًّا، للدكتور علي بن محمّد الربّاعي، من مجموعته "هس"، (عمّان: دار الشروق، 2009). والربّاعي يحمل دكتوراه المحاماة من جامعة الزيتونة في تونس، ويدرّس علوم الشريعة في معهد الباحة العلميّ. له ديوان شِعر بعنوان "لا يلتفت منكم أحد". وهذه أولى مجموعاته القصصيّة، فيما هو بصدد إصدار رواية، كما ذكر في سيرته الذاتية على مجموعة "هس". التقيته مصادفةً في معرض الرياض الدولي للكتاب 2009، فتكرّم بإهدائي نسخة من مجموعته، ونسخة أخرى لابني عمر. ولعلّه لذلك كتب في كلمات إهدائه: "حفيد من أحفادك بين يديك الحنونتين!" والمجموعة تراوح بين القِصّة القصيرة والقصيرة جدًّا، حافلة بالطرافة والأسلوب الحكائيّ الساخر. وقلّما تحتمل القِصّة القصيرة جدًّا الظَّرف(1) الذي تتضمّنه قصص الربّاعي، الكاشفة عن مهارة شخصيّة إلى مهارة كتابيّة. ولعلّ النموذج السابق يدلّ على ذلك؛ حيث يختزل كلّ ما قد يكتبه كاتب قِصّة قصيرة جدًّا، ومن المولد إلى الممات، تحت عنوان دالّ، هو "رهن الظروف". وما الإنسان إلاّ رهين ظروفه؟! جدير كذلك بالتسجيل للكاتب أن أقاصيصه ظلّت محتفظة ببنياتها الحكائيّة، ولم تطغ عليها الشاعريّة، كما يحدث كثيرًا في نصوص القِصّة القصيرة جدًّا، بحيث تستحيل إلى ما يشبه قصيدة نثر، فتفقد خصائصها كقصص قصيرة جدًّا.

تحيّة للربّاعي، وهسّه الماتع!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أورد (الزبيدي، تاج العروس، (ظرف))، عن حركة ظاء "ظَرف"، من الظرافة، وهل ينطق: ظُرف أم ظَرف؟: "قال شيْخُنا: وبعضُ المُتَشَدِّقِينَ يقولونه بالضمِّ، للفَرْقِ بينَه وبينَ الظَّرْفِ الذي هو الوِعاءُ، وهو غَلَطٌ محضٌ لا قائِلَ به."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى