الخميس ١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم أشرف شهاب , صفاء سعيد

إدوارد الخراط: العمل الفنى يملى قانونه الخاص

إدوارد الخراط روائى وناقد ومفكر من نوع خاص. تجلس فى حضرته فتشعر أنك أمام كائن متفرد من طبيعة خاصة، لديه القدرة على اكتشاف الحقيقة، والتعامل معها بكل أنواع الاحتمالات. وعلى مدار رواياته بداية من "حيطان عالية" مرورا ب "ساعات الكبرياء"، حتى "يا بنات إسكندرية"، و "ترابها زعفران" و "مخلوقات الأشواق الطائرة"، وصولا إلى "أمواج الليالى." تتكشف موهبة المبدع القادر على خلق كائنات حية تتجول داخل النصوص، لتلهمنا تجاربها وتمنحنا المتعة وتستثيرنا لمواجهة الواقع.. فى شقته اللطيفة بحى الزمالك العريق بالقاهرة التقت "ديوان العرب" بإدوارد الخراط ودار معه الحوار التالى:

 بعد أن احتفل أديبنا الكبير إدوارد الخراط بعيد ميلاده الثمانين.. كيف تقضى وقتك، وما الذى تغير؟

لا شيء.. لا روتين فى حياتى اليومية التى أقضيها فى القراءة والكتابة بصحبة أوراقى وأقلامى.. والاسترخاء، والاستماع إلى موسيقى موتسارت وباخ بكثافة.

 هل هذه طقوسك اليومية؟ وهل تستحضر مناخا أو أجواء معينة عندما تتأهب للكتابة؟

نعم.. هكذا أقضى أوقاتى.. ولكنها ليست طقوسا.. فهى حياة عادية وليست غريبة. فأنا أحب الهدوء وأعشق الموسيقى الكلاسيكية الخافتة. فالموسيقى شئ رائع جدا بالنسبة لى.. ومكانى المفضل للكتابة هو مكتبى أو أى مكان أتواجد فيه وتتوافر فيه عناصر الهدوء والموسيقى والورقة والقلم.

 أعتقد أن الموسيقى كبقية أنواع الإبداع الأخرى تعبر عن البيئة التى أنتجتها.. لذلك أستغرب إشارتك للموسيقى الكلاسيكية دون الإشارة لموسيقانا الشرقية..

عشقى للموسيقى الكلاسيكية لا يعنى أننى لست عاشقا للموسيقى المصرية والشعبية. الأمران لا يتعارضان. حبى للموسيقى الكلاسيكية لا يعنى رفضى للموسيقى الشعبية بل على العكس من ذلك. أشعر وأنا أستمع للموسيقى الشرقية نوعا من الحنين للبدايات.. لأيام الشباب. لقد تربيت ونشأت مستمعا لأغانى العمالقة كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم كثير. وبالتالى فأنا اقدر هذه الموسيقى ولكننى لا أستمع إليها وأنا فى حالة الكتابة.

 يمكننى أن أقول أن الموسيقى تغيرت وأصبحت أقل عمقا عما كانت عليه.. ليس الموسيقى فقط.. بل حتى بقية أشكال الإبداع بما فيها الإبداع الأدبى.. أصبحنا نفتقد الكتابة الجيدة.. ونفتقد الأفكار العميقة..


أظن أن هذا الكلام فيه قدر من التشاؤم.. وهو يعبر عن حالة من الحنين للماضى.. إن مسألة الحنين إلى الماضى والتمجيد له ليست واردة باستمرار.. فلا توجد قاعدة.. هناك أغانى قديمة سيئة وهناك أغانى جديدة جيدة.. الزمن يتغير ويستمر فى التغير.. هناك صعود وهبوط مستمران.

 ولكننا نلاحظ تغيرات فى شكل العمل الأدبى، أو تحولات فى تركيبة النص نفسه.. فى القصة مثلا لم تصبح القصة التقليدية المعروفة هى نفس القصة الحالية.. تحولت الأشكال التقليدية مما يستوجب بالتالى ابتكار أشكال جديدة من الرؤية لها والتعامل معها..

أولا.. لا أؤمن بالفكرة التى تقول أن هناك شيئا يجب فعله أو أشياء لا يجب فعلها..فى الفن المعايير مختلفة.. ويجب ترك المسألة لحرية الفنان أو الأديب أو الكاتب.. حتى يستطيع أن يبدع ما يتفق مع ميوله الشخصية ومع احتياجات المجتمع. فالمطلوب من الفنان والمبدع أن يكون سابقا بخطوة على السائد والمألوف أو الموجود. وإلا فلن تكون لإبداعاته أية قيمة. قيمة الفنان تكمن فى أن يكون فى الطليعة باستمرار.. أن يكون مبشرا بشئ أكثر تطورا. وكما قلت كما قلت المسألة لا ترتبط بما يجب فعله أو ما لا يجب فعله، بل هى الحرية الكاملة. أما فكرة العمق فى التناول فأكرر لك أننى لست من أنصار الحنين للماضى.. فالإبداع متجدد، وجدير بالتقدير والنقد والاحترام أيضا. المسألة لا تقتصر على تمجيد ما كان بل تقدير ماهو كائن واستشراف ما سوف يكون.

 هل يعنى ذلك أنه لا توجد بالنسبة لك معايير للكتابة أو معايير لشكل النص الذى تنتجه؟

إذا كانت هناك معايير.. فيجب ألا تكون ثابتة. أعتقد أن الجدل بين الحرية وبين الانضباط، أو بين حرية الإبداع وبين المعيار.. هذا الجدل هو الذى يعطى للعمل الفنى ثراء وقيمة وأهمية. أما الجمود عند شكل معين أو الانفلات من كل ضابط فأمر مرفوض أو غير مرغوب فيه على الأقل.

 هل تؤمن بالقصدية أو العفوية فى الفن.. هل تنسج أعمالك قاصدا رسالة معنية؟

لا أعتقد ذلك.. لا يوجد ما يسمى بالقصدية الكاملة أو العفوية الكاملة فى الفن. الأمر يتعلق بمزاج الكاتب ومزاج الفنان. وما بين الجانبين جانب العمد وجانب الانطلاق أو العفوية يتجول الكاتب معبرا عما يريد. فالمعايير المسبقة المحددة تضر بكل تأكيد بالعمل الفنى. كما أن الانفلات بدون ضوابط أمر غير مرغوب فيه. أعتقد أن الأمر يتعلق ببصيرة الفنان التى تهديه إلى الاختيار فى كل حالة على حدة.

 ألا ترى أنها مسألة محيرة سواء للمبدع أو المتلقى؟

يمكن أن يكون الأمر محيرا ومرهقا بالنسبة للقارئ الذى تعود على نمط معين من الكتابة. وهكذا يمكن أن تحيره التجارب الجديدة. لكن القارئ المتفتح المستعد لتلقى الإبداعات التى لا تتفق مع معايير مسبقة سيكون متشوقا لهذه التجارب. أما بالنسبة للفنان فهى غير محيرة طبعا.

 الأمر يتطلب قارئا من نوع خاص.. ونحن نعرف أنك من الكتاب الذين لا يحبون القارئ الكسول الذى لا يبذل جهدا لفهم النص..

بالطبع.. أنا أطلب من القارئ أن يبذل جهدا لكى يتعامل مع النص. الموضوع لا يتعلق بالقارئ الذى يحب أن يقرأ وهو مسترخ أمام جهاز التليفزيون.. فهناك نوعيات أخرى مختلفة من الكتابة يمكن أن تكون مناسبة قبل النوم أو عند مشاهدة التليفزيون.. أما كتاباتى فهى حهد مشترك أبذل أنا قسما منه عند الكتابة وأتوقع من القارىء أن يبذل نصيبا من الجهد لتكتمل دائرة العمل ويصبح النص عندها مكتملا. أنا أشجع القارىء على التفكير وإعمال العقل دون التمسك بالثوابت.. بل عليه الثورة على الثوابت والتعامل دائما مع المتغيرات فلكل شىء جوانب سلبية وإيجابية والأمر يعتمد على الزاوية التى تنظر أنت منها للعمل. هناك جماليات معينة تحتاج نظرة جديدة وقارئا جديدا.

 الأمر يفرض أيضا صعوبات على الناقد لكى يحدد الزاوية التى يتناول من خلالها العمل المتاح أمامه.. وسؤالى ألا يمكن أن تتسبب هذه الرؤية فى حدوث تعارض بين عملية الإبداع وعملية النقد؟

لا.. فبداخل كل مبدع هناك ناقد كامن. وإلا.. فما الذى يدفع المبدع إلى اختيار كلمة معينة أو صيغة معينه أو جملة معينة ولا يختار صيغة أخرى. إنه نوع من العملية النقدية الكامنة والمتخفية داخل كل مبدع. وهذه العمليات فى مجملها تسفر عن نفسها من خلال التزود بالثقافة والقراءة والمعرفة بأنواع الفنون المختلفة، والمناهج النقدية المختلفة. هذا هو الأفضل من وجهة نظرى. بشرط إلا يضر التأمل بالعقل المشرق المتزود بالعفوية والانطلاق التى تميز العمل الفنى. يجب أن يكون هناك نوع من التوازن الدقيق بين جانبي التأمل العقلى والجانب العفوى.

 وبهذه المعايير التى تتحدث عنها.. هل تشعر أنك أخذت حقك من النقد أم أنك تعرضت لظلم فادح من النقاد؟

الحمد الله.. لا أشعر أننى تعرضت للظلم من جانب النقاد.

 ولكن بعض النقاد يعتقدون إن أسلوب إدوارد الخراط متشابه فى كل رواياته؟

هناك عبارة قديمة تقول "الأسلوب هو الرجل و الرجل هو الأسلوب". من الطبيعى جدا أن يظهر بعض التشابه فى كتاباتى لأن الكاتب واحد. ولكن مع قليل من التأمل والوعى سوف تجد الفروق والاختلافات والتنوع واضح بالتأكيد. والتكرار هنا ليس استنساخا بل هو تكرار نابع من وحدة الرؤية، وربما من وحدة الأسلوب. لكن هذه الوحدة لا تعنى نفى التنوع.. بالعكس الوحدة تشمل التغاير والتنوع. وهذا ما يسمى بالمنطق الجدلى.

 يعتقد بعض النقاد أيضا أن هناك نموذج واحد نمطى للمرأة فى روايتك؟

ليس صحيحا.. وأعتقد أن من يقولون هذا الكلام لم يقرأوا كتاباتى جيدا. أظن أنه يجب على الناقد أن يكون واعيا وملما بالجوانب المختلفة للعمل الفنى.

 قبل كتابتك للنص.. هل تكون ملامح الشخصيات واضحة فى ذهنك؟ أم أنك تستكشف المزيد عن شخصياتك خلال عملية الكتابة؟

لا أتمسك بقوالب معينة.. فخلال عملية الكتابة أترك النص مفتوحا على كل الاحتمالات.. وبالتالى يمكننى أن أستكشف أعماقا جديدة وأبعادا جديدة أضيفها للشخصيات.. أى أن العملية ليست مخططة تخطيطا كاملا منذ البداية. وإلا أصبحت عملية قصدية. وفى رأيى أن جمال الفن وصدقه يكمنان فى اكتشاف الجديد حتى بالنسبة للكاتب أو الفنان. أن يكتشف خلال عمله ما كان خافيا عليه البداية. ما كان يشعر به ويحسه ولكن لا يعرفه بوضوح. أقول إن العمل الفنى يملى قانونه الخاص وليس عليك ككاتب أن تملى قانونك الخاص على العمل الفنى.

 برأيك.. كيف يجب أن يرى المبدع الواقع وماهى علاقته به.. هل يمكن أن يتناول الكاتب الواقع بشكل مجرد؟

لا.. لا يوجد أحد يأخذ الواقع بشكل مجرد. أى كاتب أو أى فنان يأخذ الواقع ويراه من منظوره الخاص.. ومن خلال رؤيته المستمدة من ثقافته وقراءاته. ليس هناك واقع نمطى يمكن أن يراه كل الناس بشكل موحد. كل الفنانين لا يمكن أن يروا الواقع بشكل متطابق أو متشابه. بالعكس التنوع هنا هو الضرورة الأساسية التى تكشف عن جوانب مختلفة من الواقع قد لا يراها القارئ العادى أو الناقد العادى. ولكن الفنان يمكنه أن يجد فى هذا الواقع جوانب مختلفة عن الجوانب التى يراها فنان آخر. وهذه هو قيمة الفن. الفن يمكنه أن يستكشف بكارة معينة خفية فى هذا الواقع الذى يبدو نمطيا أو متشابها. وهو طبعا ليس متشابه ولا نمطى بل متنوع ومتعدد الأبعاد والأعماق. وهذا ما يضيف جمالا إلى العمل.

 نرى فى شقتك تلالا من الكتب والأوراق.. ولكننا لم نلمح فيها جهاز كومبيوتر.. ألا تحاول الاستفادة من الوسائل العصرية فى عملك؟

نعم.. ليس عند جهاز كومبيوتر ولا إنترنت.. ولكن عندى ورقتى البيضاء وقلمى الرصاص.

 لماذا؟ هل تخشى من التكنولوجيا، وما يشاع من أنها يمكن أن تؤثر على الفنون الكتابية؟

هناك أثر ما دائما.. ولكن هذه القضية مستمرة عبر التاريخ. مثلا.. هل أثرت الإذاعة والتليفزيون سلبا على الطباعة؟ هناك تأثير طبعا.. ولكن لب العملية الفنية يتجاوز الوسائل أو الوسائط بل ويمكن أن يتمثلها ويستوعبها ويحقق ما يهدف إليه من خلالها.

 هل تميل إلى نوع معين من الأدب العالمى؟

لا.. المسألة مفتوحة بالنسبة لى. فأنا أقرأ فى كل شيء وعن كل شيء، فأنا منفتح ومتقبل لكل الآداب سواء الإنجليزية أو الفرنسية وغيرها.

 هذا جيد.. فنحن نفتقد ثقافة الانفتاح على الآخر وتقبله..

نحن؟ من نحن؟ هذا تعميم شديد. والتعميم دائما خاطئ. لا يوجد نحن.. يوجد فئات من نحن.. هناك ناس تتقبل الآخر.. وهناك أناس منغلقون، وأسرى لنظرة محددة ضيقة.. وهكذا هناك تنوع بين كل فئة وأخرى وحتى بين كل فرد وآخر داخل الفئة الواحدة وهذه هى الحياة.

 بعد أعوام طويلة من الإبداع والتجارب هل فكرت فى كتابة مذكراتك؟

لا.. أنا أتركها عفوية.. أترك الأمور تجرى كما تهوى.. ولذا لا أميل إلى التسجيل أو التوثيق وأترك هذه الأمور لتأتى فى غمار العمل الفنى أو النقدى كما تتطلبه المواصفات الفنية للعمل نفسه. وفى النهاية لكل شيخ طريقه.

 نشكرك أستاذ إدوارد على هذا الحوار.. ونأمل أن نلتقيك دوما على خير.

أشكركم وأتمنى التوفيق دائما لمجلة "ديوان العرب"، التى ما زلت أعتز بمنحها درع تقدير لى فى احتفالها بالقاهرة العام الماضى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

استراحة الديوان
الأعلى