الخميس ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم الهادي عرجون

إطلالة على المجموعة الشعرية «من كتب شتى»

أن يشدك نص لتنشد من خلاله الإيغال والبحث في خفاياه ومكنوناته قليل، ولكن مع هذا الديوان البكر الذي اختار له صاحبه من الأسماء"من كتب شتى"الصادر عن دار الوطن العربي للنشر للشاعر وحيد القريوي، فيندرج ضمن هذه النصوص التي تستدرج القارئ نحو عوالم الشاعر وتأسره للبحث عن مكنونات نصوصه وخصوصياتها الجمالية والدلالية.

فالشاعر من خلال إصداره البكر"من كتب شتى"لا يمتثل لنمط وشكل شعري معين كما أنه لا يرينا إلا ما يريد أن يرينا إياه في متاهات النص وهذا ما يجعل القارئ يبحث عن مسالك العبور وطرق المرور في طيات المجموعة التي احتوت 116 صفحة على ثلاثة أجزاء اختار لها من العناوين التالية:

شذرات من أرشيف مرقص.
من كتاب التعريفات.
من بردية الروح.

والتي جاءت لتجسد مسحة من عالم الشاعر الذي يعيشه وعلاقته بالواقع الموجود وما يثيره من تفاعل وتواصل فهو لا يكتفي بتذوق أحاسيسه بفرحها وحزنها بل يستجيب لخياله الذي أكسب النص كمالا وجمالا.

للدخول في مفاتيح الولوج لهذه المجموعة لابد من أن ننطلق من عتبة العنوان كعتبة نصية لها دلالاتها فهذه المجموعة هي جزء من المخزون الثقافي المتراكم عبر سنوات ليولد هذا المولود كما سماه شاعرنا (من كتب شتى)، فجميل أن يكون الشاعر مغامرا ينظر بعينيه إلى الأشياء نظرة إستقرائية متأملة لأن عناصر الإبداع مبثوثة في الطبيعة نشاهدها في كل آن تمتاز بالتجديد والتوليد وعدم التكرار وقد تتلاقى المشارب وتتحد وجهات النظر إلا أنه لكل منهما أوانيه الخاصة وأسلوبه المميز في طريقة تناوله للموضوع.

أما عتبة الإهداء فقد جاءت"إلى روح جدتي...إلى روح أخي..."وانطلاقا من هذا الإهداء تحضرني وأنا أتصفح (من كتب شتى) مقولة للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري(1) التي يقول فيها:"إنّ الموت يتحوّل لدى الشعراء، بخلفيّاتهم الصوفية والفلسفية والوجودية المتنوِّعة، إلى ذريعةٍ قُصْوى لأَنْسنة الحياة وقد افتقدت لكثيرٍ من ملامحها وقوى تجدُّدها إن في ذاتها أو في مدى انعكاسها على مرآة النّفْس".

كما أن الجدة تمثل في رمزيتها تلك النخلة التي تظلل البيت، حيث تكررت ثيمة النخلة (11 مرة) في كامل المجموعة، كما لا يخفى على أحد أن النخلة لها رمزيتها في مختلف الديانات فهي رمز الحياة والشموخ"فمن النخلة استمد القدامى على اختلاف ثقافاتهم معاني الإلهام الغيبي والقوة والتحدي وطلب المطلق والطهارة بمناسبة أعيادهم الدينية وأفراحهم اليومية وفي سياق حياتهم العمرانية والفنية وتقاليدهم الشعبية"(2)"فإله النخل كان يظهر على هيئة امرأة أكتافها السعف كأجنحة حتى أن شريعة حمورابي قننت عددا من موادها لحماية زراعة النخيل و تعهده"(3) وهي مقدسة عند الديانات التوحيدية"هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا"(4) للتعبير عن الشموخ والعلو فهي المرأة والأم والجدة والأرض وفي هذا المعنى يقول في نص (تعريف الأرض):

"حناء أرض بلادنا زغردات العرس عالية
ووشم في جبين الام
في زند جدودي وفي دم الشهداء أغنية
.....................................
كم عمرها؟
مليون عام تسقط الماغول والرومان من ورق الحكاية.
عمرها؟؟؟
قبل اكتشاف النار كانت شعلة
قبل الزراعة قبل حرث الأرض كانت نخلة"(ص64).

ولكن الشاعر وحيد القريوي من خلال مجموعته الشعرية (من كتب شتى) ينقلنا من الثابت إلى المتحول لتنتقل صورة النخلة من الشموخ والعلو والرفعة ومن الحديث عن النخلة الأم والأرض والوطن بأصالتها وتجذرها.

وبين هذا وذاك يظهر قبس شعري يطل من شرفة لا شرقية ولا غربية، ليكون الشعر ويكون الرقص، ذلك الرقص الصوفي والذي يكون بالدوران حول النفس حين تمضي تراقص طيفا رافعا يده إلى السماء فتنساب المراقصة روح تسبح بالأنغام، ليبعث باستفهامات وبرسائل نصية إلى مخيلة القارئ فتتشكل انفعالات تقود إلى مواقف من الواقع المعيش ومن الأحداث التي يثيرها هذا الواقع، ورقص فكري تحمله الفكرة والذكرى ليصور بذاكرته آلامه وأحزانه وما يهمس به في الوجدان من قلق نفسي ووجودي:

"وأذكر حدثتني عن بلاد
إذا سقط القمح فيها على صخرة شقها
وإذا جاءها الظالمون
تزغرد تحت الرصاص
ولا تعرف السبي نسوتها
أذكر الآن كل التفاصيل
أذكر أني حلمت وفسرت حلمي"(61)

فالشاعر يعود إلى الماضي القريب وذكريات الطفولة والشباب التي تراوده مرة تلو أخرى تشكل في شعره مسحة من الحزن فالماضي حزين وكذلك الحاضر لتخرج في شكل ومضات شعرية عذبة وصورا تذكارية تجسد حالة الشاعر النفسية رغم مسحة الأمل التي يلبسها الشاعر في نصوصه.

كما نلاحظ ان الشاعر كرر لفظ (أذكر) 11 مرة، إشارة إلى حالة التذكر والارتداد إلى الوراء التي يعيشها الشاعر بتذكره الأحباب والأصحاب والأخ والجدة التي يماهي فيها بين المرأة والوطن، فالشاعر لا يستطيع أن يعيش دون ذكرياته، فالذكرى تعني الحياة، والنسيان إنما يعني الموت، هذه الثيمة (الموت) التي تكررت 14 مرة، في ظاهرها للدلالة على نسيان الموت وتذكر الحياة، في حين أنه في أغلب النصوص نلاحظ أن الشاعر يتذكر الموت وينسى الحياة والتي جاءت في مجملها مصحوبة بعبارات تحيل على الموت، يقول في نص (رقصة النار):

"طينة الذكرى، بلاغتها القديمة
تحرس الموتى
وتنشر ما تلقت من فضائحك الجميلة.
خلفك الفوضى
وماء يذكر الأسلاف مبتهجا
ويختصر الطريق إلى الكفن."(ص 40)

كما لا يقتصر التكرار هنا على تكرار كلمة الموت بل اعتمد على تكرار جملة من الثيمات كثيمة (النار) التي تكررت هي بدورها 14 مرة، كما نلاحظ تكرار كلمة (الأرض) و(الماء) والتي تكررت كل منهما 32 مرة"فالشاعر من خلال تكرار بعض الكلمات والحروف والمقاطع والجمل، يمد روابطه الأسلوبية لتضم جميع عناصر العمل الأدبي الذي يقدمه، ليصل ذروته في ذلك إلى ربط المتضافرات فيه ربطاً فنياً موحياً، منطلقاً من الجانب الشعوري، ومجسداً في الوقت نفسه الحالة النفسية التي هو عليها، والتكرار يحقق للنص جانبين، الأول، ويتمثل في الحالة الشعورية النفسية التي يضع من خلالها الشاعر نفسه المتلقي في جو مماثل لما هو عليه، والثاني: (الفائدة الموسيقية)، بحيث يحقق التكرار إيقاعاً موسيقياً جميلاً، ويجعل العبارة قابلة للنمو والتطبيق، وبهذا يحقق التكرار وظيفته كإحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره؛ لأن الصورة الشعرية على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل”(5).

فالشعر عنده ضرورة إبداعية وليس مجرد ترف عقلي عابر أو متعة تقف حد النشوة الشعرية، بما تحمله من معاناة وقلق، بل هو نفسي اجتماعي ذاتي ولكن المحور المهيمن في نصوصه هو الالتزام بصورة واضحة بهموم الوطن، حيث تكرار جملة من الثمات التي تعني الوطن والبلاد حوالي 27 مرة، يقول في نص (الفراق: هي والبلاد وقبضة الجلاد) وما يحمله هذا النص من وجع وقلق تجاه هذا الوطن فهو طالما رفع اصبعين لأجل الوطن، خاصة عندما تسري محبة الوطن كالنار في الحطب وتكون نار الوطن لذة ونشوة رغم حالة الحزن، فلا طبيب يسعه رتق الجرح وتضميد جسد الوطن الجريح سوى القصائد التي طوّعها لخدمة نصه التي تكشف خطوط المعنى بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، ليصبح الشعر أداة للتعبير عن المعاناة والتجربة الحقيقية للشاعر و للوطن حيث يقول:ص74 وص75:

"وأنت ترى بلادك في خضم الموت تفرح
إذ تقول تغيرت
وتقول شكرا للقتيل بجانبك
وترى بأنك
لا تشك للحظة أن القتيل بجانبك
لن يسمعك.
كانت بلادي بين أحضاني
وكانت كف جلاد على ظهري
كنت أحضنها بعنف
خفت تخدشها يد الجلاد
خفت أعود تنهرني العجوز
إذا رأت دمعا على خد البلاد."

فالتكرار في ديوان (من كتب شتى) يهدف من خلاله الشاعر إلى إبراز المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات النفسية والوجدانية التي يمر بها، ويظهر ذلك من خلال تكرار الكلمة في صور مختلفة، تتمثل الصورة الأولى في تكرار نفس اللفظ ويكون التكرار بشكل متتابع أو منفصل، حيث يؤدي إلى دلالات معينة ليعبر عن همومه ولإثارة إحساس المتلقي. كما في قوله:

"عار كنهر دون مجداف ولا صدف يعمد جبهته
عار كأهلي والرفاق الخائفين من الصدى
عار وليل الآخرين لحافنا
عار أنا والأرض تفضح حملها
عار أنا كالأرض تخفي حملها
زمنا نسوق لهاثنا متقطعا
زمنا تسوق سماؤنا أذيالها"(ص18)
كما يظهر هذا التكرار في قوله:
"وليمت واقفا
وليمت واقفا
وليمت واقفا"(ص36).

فحين يكرر الشاعر مفردة واحدة في صورة شعرية مكثفة، تكون مثل قبس من نار في ليل بهيم، يستفز المتلقي ويرشده إلى مسارب نصه ويظهر بتكرار جملة شعرية كما هو مبين أسفله:

"يا حاضن النار المعشش في دمي"(ص 26و 27).
"لا إسم لي اليوم كي..."(ص 37 و38).
"ليموت في وضع المسلة كالعلم"(ص48).
"كيف لم يمهلك أكثر من صلاة الفجر أكثر؟"(ص71و 72).
"وهي ترقد في سرير ناعم"(ص75و79).

إنه تكرار فني، يستدعي التأويل، ويغتني بإيقاعات تفصح عن انفعالات داخلية، سواء كانت انفعالات الشاعر التي نحس بها من خلال تصاعد المؤثر الدرامي أو من خلال استجابات القراءة، حيث ينبع من إيقاع ذاتي، فتكون ذات المتلقي متوازية مع ذات الشاعر، فتتحقق المشاركة بينهما في الوصول إلى مدلولات التكرار في النص الشعري.

حيث يمكن أن نجزم بأن استعمال الشاعر وحيد القروي للتكرار، هذا التكرار الذي يمثل طابعا حداثيا قديما و جديدا في الشعر العربي، فهو بمثابة المرآة التي تكشف نفسية الشاعر لحظة المكاشفة الشعرية والتي تعبر عن وصف الحالة التي تتملكه في تلك اللحظة لتشكل تلك الكلمة المكررة ركيزة من ركائز بناء النص الشعري عنده و هذا ما يؤكده الكاتب والباحث السوري"عصام شرتح":"إن التكرار- في معظم نتاجات شعراء الحداثة- يؤدي دوراً مهماً، لاسيما إذا استطاع الشاعر أن يربطه بالمعنى والرؤية معاً، ربطاً دقيقاً موحياً؛ وهذا يتبع موهبة الشاعر ومدى براعته في الخروج بالتكرارات من دائرتها النمطية، إلى دائرتها الفنية والأسلوبية المبتكرة."(6).

وهذا ما جعلني أعود إلى قراءة المجموعة أكثر من مرة للوقوف على حالة الشاعر النفسية التي أفضت إلينا بهذه النتف التي حركت في دواخلي سعادة ولذة حقيقية رغم ذكر الموت الذي يمكن اعتباره الطرف الغامض في قصائده حيث يقول الشاعر في نص (بيان الرقص):

"والرقص حكمتك الجديدة
منطق الأحياء والموتى
وذاكرة الجسد
فارقص على لحم البلاغة
وارسم الحرف الشفيف
ملغما ومجسدا..."(ص14).

و في النهاية يمكن أن نقول بأن هذه النصوص نجحت في شد القارئ إليها - حسب رأيي- خاصة وأنني تصفحت مجموعة (من كتب شتى) من ثلاث رؤى مختلفة (قارئ وشاعر وناقد)، حيث لمست فيها خصوصيات جمالية و دلالية تعكس تجربة صاحبها ليخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع بأنماط مختلفة تعبر عن رؤية جديدة ومختلفة عن سابقاتها عنوانها التفرد.

وهوما يعكس قدرة الشاعر على إختيار الشكل الذي يستنطق من خلاله القصيدة وقد يتضح ذلك في النصوص التي لا يظهر إيقاعها بغياب التقاليد المعروفة في موسيقى القصيدة العربية إلا"باستخدام موسيقى الفكر التي تعتمد على التوازن والترادف والتباين والتنظيم التصاعدي للأفكار. إلى جانب ترديد السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة"(8).

– عبد اللطيف الوراري – شاعر وناقد من المغرب.

نزار حبوبة: مدخل إلى رمزية النخلة في الفكر و الأدب مجلة رحاب المعرفة السنة 5 عدد28 جويلية 2002 ص:.
الصيب العماري: النخلة في البيئة الصحراوية قيمة اقتصادية و رمزية و سوسيوثقافية. مجلة الواحات للبحوث و الدراسات العدد 15/2011 ص 241.
سورة مريم الآية 25.
فنية التكرار عند شعراء الحداثة المعاصرين - دراسة أدبية كتبها الكاتب و الباحث السوري عصام شرتح ظهرت في مجلة رسائل الشعر (العدد التاسع، كانون الثاني 2017، صفحة 66-88).
– عصام شرتح: كاتب و ناقد سوري.
 حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث: 71.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى