الاثنين ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم الهادي عرجون

إطلالة على رواية « الدجال» للروائي شوقي الصليعي

وأنت تتصفح رواية الدجال لشوقي الصليعي تغرق في بحر من المعنى وتسبح مع شخصيات الراوي الخيالية وشخصياته الواقعية التي وظفها لخدمة روايته التي بدت أحداثها وتفاصيل بنائها شلال من ذاكرة الراوي ونهر لا ينضب من حافظته ومن اطلاعه على أمهات الأدب العربي والغربي على حد السواء. وهذا ليس غريبا على سكان قرية دوز الصحراوية، جنوب تونس، حيث الواحة والطبيعة الخلابة، والتي ينتمي إليها الرواي، أهل دوز المغرومون بالحكي والذين يتسامرون به في لياليهم وصدق فيهم القول بأن لهم ذائقة عالية في عشق الكلمات.

فيفي قراءتي الأولى لم أستطع الربط بين فصول الرواية الـ42 التي صدرها بأقواء لكتاب وشعراء عالميين وخاصة تصديره الفصل الأخير المعنون بـ" رمية القوس" بقولة لبرنارد شو يقول فيها:" القراءة جعلت دونكيشوت إنسانا محترما، لكن تصديقه ما قرأ جعله مجنونا" (ص299)، فأعدت القراءة مرة أخرى. لأكتشف أن الأحداث تدور كلها بين الذكرى والأحلام ولا أخفي عليكم أنني أصبت بالملل في بداية القراءة كأن الكاتب شوقي الصليعي أراد أن يشتت القارئ كما كان مشتتا بدوره. لكني في النهاية أدركت بعد إعادة القراءة أنني أمام كاتب عبقري لم أتمالك إلا أن أنحني لعبقرية هذا الكاتب

فالروائي شوقي الصليعي الذي بنا روايته على استرجاع ذاكرة الطفولة وذاكرته الشعرية كما كشف عن ذلك في إحدى حواراته عندما قال:" المادة الأولى للغة الرواية هي ذاكرتي الشعرية التي يشير إليها (غاستون باشلار) في كتابه (شاعرية أحلام اليقظة) التي تنهل من منابع الذاكرة الطفولية للروح، وافتتاني بالكلمات حتى صارت الكلمة هي مسكن الوجود؛ حسب تعبير الفيلسوف مارتن هيدغر، فهي غاية في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة للتعبير، فلا شيء خارج اللغة؛ كما يقول الناقد والفيلسوف رولان بارت. فالعالم المتخيل لا يمت للعالم الواقعي بصلة كبيرة، إذ إن الإنسان هو مقياس كل شيء بما يصوره له وعيه الفردي أو الجمعي. فلا حقيقة للنص ولا للواقع إلا من حيث هو مقروء من متلق يستوعبه حسب مقدرته ويتفاعل معه حسب خلفيته الثقافية".

فالرواية بنيت على الذكرى والتذكر وهذا ما يجعلني أجزم أن شخصية بطل الدجال "هاشم الباداني" هو نفسه الراوي فهو يمثل جزء كبير من شخصية شوقي الصليعي، يقول في الفصل التاسع من الرواية والذي يحمل عنوان "وجودية":" تعتريني مُنذ نعومة أظفاري حالة مُذهلة من الغياب، فإذا كتبت أو رسمت أو فتنت بشتّى ضروب الجمال بُعثت من العدم وبي جوع لا يفتر لتخوم مملكة الخيال، إذا طالعت ففي روحي لسان قطّ ورديّ يتمطّق طعم اللون المُغري من لحم الكلمات التي تبدو لذائقتي الشّرهة، شرائح من لحُوم غضّة شهيّة "(ص51) ولم لا فهو الذي لم يحتفظ من زمن طفولته "بغير رائحة "السخاب" العابق بعطر محلي، من القرنفل والند والعنبر، قطع معجنة في شكل نجوم وقلوب وأقمار تحوي روائح مختلفة"(ص52).

فالكاتب يروي من مخزون ذاكرته الطفولية، مما يذكرني بأسلوب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في التركيز على المكان والأحداث التي جرت فيه خلال أزمنة مختلفة " يعترض القادمين إلى مبنى صحيفة شمس الأدب مدخل مهيب حف بأعمدة رخامية تكاد تخفيه سنديانتان معمرتان ترخيان جدائلهما الهرمة على جبينه المكلل بنقوش من الجبس. تقبع في الزاوية اليمنى غرفة الحراسة المصفحة بجدار سميك كأنما جعل للصمود أمام قذائف العهد النازي"(ص19) وكذلك حين يقول: "كان الصمت يتثاءب في بهو الحوش الخرب، ويدفع الفتاتين إلى التطواف بخبايا كل ركن من أركان الغرفات المهدمة وقد غمرتها أسراب اليمام البري، وتوغل العشب في تجاويف جدرانها وتدلى من الشقوق المغمورة بالأتربة..."(ص154). مع قدرة كبيرة على الوصف فكأنك أمام لوحة فنية أو مشهد تراه أمامك:" كانت الفتاة ترتدي حذاء رياضيا خفيفا، وسروالا من الجينز بلون أزرق ممحي، يظهر بإيحاء واهن نضج خطوطها الأنثوية و قميصا حريريا أبيض، على كتفيه من الجنبين غصين صغير بلون سيقان اليمام، تتبرعم منه زهرات خوخ بنفسجية و خصلات بلون التبر تنساب على كتفيها حتى خصرها فبدت جداول من شعاع...إلخ"(ص149).

والروائي يختبئ وراء البطل كما يختفي وراء شخصيات أخرى كشخصية "نجيب العثماني" صاحب القصة الفائزة في المهرجان، وما هو إلا جزء لا يتجزأ من روح السارد شوقي الصليعي الذي يقول في إحدى مقاطع الرواية الذي عنونه بـ:" مهرجان الأدب":"يتناول النص سيرة رجل يحاول القريض فلا يستطيعه، ثم يتحول إلى دليل سياحي يجوب الفنادق الفاخرة معتمدا على إتقانه للغات الحية في التحيل على الأجانب رابطا الصلة بانتروبولوجي غربي جاء يلقي المحاضرات في أنحاء البلاد حول الإنسان القبصي الأول وقد أوهمه المسكين "جيار" الكهل المخمور على الدوام، رمز قريته الفلاحية، كائن بدائي يحسن استغلاله في أبحاثه العلمية" (ص150).

والمطلع على كتابات الروائي شوقي الصليعي القصصية يكتشف أن قصة " الملحمة الهمبرتية" هي مجرد قصة وظفها الروائي لخدمة الرواية والتي وردت ضمن " مجموعته القصصية " أقوام الضفة الأخرى".

ومع هذا فقد صنع شوقي الصليعي لنفسه مسارا روائيا له منهجه ومساربه التي نجح في إقناع القارئ بمنهج نصه، الشكلي ظاهريا ليخترق حدود الواقع نحو حلم اقتضاه البناء الهندسي للرواية لتتداخل وتختلط الأزمنة لتمنح شخصياته وجودا مختلفا، وصراعا تحكمه الشخصيات على رقعة يختفي فيها المكان ويظهر كلما أخذ الراوي قبسا لينير لنا مسالك المكان ويفتح لنا بابا لنقتفي أثر الأحداث والشخصيات لها سربا.

ولقد احترت في تجنيس الرواية فمرة أراها وجودية ومرة أخرى واقعية خيالية، ولكنها بين هذين الوصفين شدني تعريف الدكتور والناقد حامد حجي المتخصص بالأدب المقارن، والتي وصفها بالرواية الرسمتخييلية وهو الأقرب لوصف رواية الدجال التي اعتمد فيها الروائي على السرد الواقعي بمدلولاته المحسوسة مع اختيار مرآة الوصف ورسم الشخصيات، فهو الرسام الذي يعرف كيف يلين ريشته لتستحيل قلما:"إن أنامل لم تغمس في صباغ الألوان وأجسادا لم تراقص الموسيقى وشفاها لم تقرض الشعر، مؤهلة لكل ضروب الشرور"، فلا الصورة لها ظل اللغة ولا اللغة لها معنى الصورة بل هو تداخل الفنون التي نستشعرها في الرواية والذي تستعمل فيه الصورة لفضح الكلام المتداخل بالمعنى. وهو جنس من الكتابة يطلق عليه النقاد "الرسمتخييلي" استعمل عند في روايات عالمية كرواية "الفنان في شبابه" لـ: دجيمس جويس ورواية "صورة دون رونج راي" لـ: اوسكار وايلد.

فالروائي بهذا الوصف الذي اتسمت به روايته – الرسمتخييلي- يعبر بالكلمة والصورة معا، لفضح دلالة اللغة التي تعبر عن الأفول و الأفعال من خلال السلوك ألقولي والجسماني للإنسان، ليتحدث الرسم عن اللغة ويعبر المعنى عن الرسم الذي هو عبارة عن أفكار يحكمها الصمت كلما عجزت اللغة عن إيصال المعنى. فشوقي الصليعي الرسام بالفرشاة واللوح جاء من الرسم الى جنس الرواية يمتطي إرثا ثقافيا ومعرفيا بتقنيات الرواية الحديثة ليخط رواية الدجال التي برع فيها برسم ملامح شخصية بطله هاشم الرسام الشاعر والروائي والناقد.

ليتحول الرسم إلى شخصية لها زمن و مكان عندما يحولها من ألوان الفرشاة التي حاكتها بدقة متناهية إلى حنطة اللغة لتستحيل متنا حكائيا و قاعدة سردية، تبعث الروح في كائنات ورقية تنشد الكمال. على الرغم من اعتماد الراوي إطارا زمنيا غير واضحا فهو المتنقل من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي وإطارا مكانيّا بين المدقق تارة والمحدد تارة أخرى ومحدودا وأحداثا غير متتالية يحكمها الارتداد وتسابق الأحداث والرجوع في عقبها بحنكة ميزت طريقة طرحها وفي علاقتها بالشّخوص حيث تُصاحبنا الأحداث إلى نهاية دراميّة تنتهي فيها حياة المشردين المحرومين من الحماية الاجتماعية باستغلالهم من طرف الإرهابيين، وتنتهي حياة غازي أيوب إمبراطور الصحافة نهاية درامية حيث تقضي عليه كوابيسه وأحلامه الملوثة بالجاه والمال.

فمقاطع الرواية لا يحكمها منطق التتابع و التواتر إلا أنه ارتداد ورجوع على العقب يتولد بعضه عن بعض بمؤشرات تسبق لتدل على ذلك الانتقال ألزماني من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الخيال و العكس بالعكس من حدث إلى حدث ومن لحظة إلى أخرى.

كما تتوشح الرواية بجمل قصصية متلازمة للأحداث أو أوصاف باعتماد على حجج إن صح القول أو إشارات يسردها الراوي وهي بمثابة ومضات وحركات يشير إليها الراوي لتساهم من تطوير الأحداث و تأزيمها كما فعل في نهاية الرواية.

كما أن رواية الدجال تحتفي بالخيال والحلم الذي يتحول بريشة رسام وبقلم كاتب امتلك قلما مميزا للكتابة ليحول هذا الحلم والخيال إلى واقع معيش تتصارع فيه شخصياته فوق حزمة من الأوراق ليكون الحلم يقظة ويكون الواقع رواية تتقاطع خلالها أزمنة الحلم بواقع ثقافي تحكمه شخصيات واقعية معيشة تتصارع بين صوت الواقع وصوت الحلم. " ... وكان الشيخ يناديها بصوت عال ميراي ميراي....فلا تجيب، و تلتفت إليه ناظرة في صمت ، فيغفل عنها في حوار مع أبويها، و قد شبه لهاشم أنه سمع أحدهم ينطق بكلمة "شارلوت" وقد هام عقله لثوان خلف أبطال رواياته..."(ص93).
ومن هذا نستخلص أن الروائي شوقي الصليعي يجعل المتلقي في تشويق مستمر للإبحار والغوص في أحداث الرواية ومعايشة شخصياتها التي شكلها بريشة رسام وتقنية كاتب يمتلك إمتلاكا مذهلا لناصية الكتابة السردية سواء كان ذلك في استخدام الزمان والمكان أو من خلال نحت ملامح اللأحداث و الشخوص التي يجعل بينها و بينه مساحة ليجعلها حرة في أقوالها و أفعالها و هو ما يجعل الرواية في مجملها تعتمد على رؤية مصاحبة فالراوي لا يسرد أو يصف إلا ما يقع عليه بصره وهو ما يجعل أحداث الرواية تتكشف للمتلقي بالتدرج فلا المتلقي يسبق السارد أو يكشف ما يوحى إليه.

وهو الشيء الذي يثيرنا في نهاية رواية الدجال التي تنتهي نهاية سريالية حيث نكتشف البطل انه كان بصدد كتابة رواية يلتبس فيه الحقيقي والواقعي باحلام اليقظة و الخيال التي هي جزء رئيسي من حياة البطل هاشم الباداني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى