الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم عبد الباسط محمد خلف

"إكس" لا تساوي "واي"

في زمن أقل ما يمكن وصفة بالغابر، انتصف نهار يوم رث أشرقت شمسه على استحياء، وانسلت قواه من وسط ربيع بارد أخذ قليل الدفء ينسكب إليه من ضياء محترق، كان المشهد عادياً لولا صوت الطائر الغريب في كل تفاصيله، الذي راح بضعفه يتمرد على الصمت الوقح المفروض على " سماح "الفتاة السمراء المعذبة، تلك التي ملّت الانتظار وتفاصيله القذرة ولم تجد من يصغي إليها غير كائن بلا وزن نوعي لا يستطيع في أحسن الأحوال مقاومة العبث الملتف حول عشه.
راحت هي تستدرجه لصداقة متينة تعوضها عن النقص الكبير الساكن في فؤادها المكسر، وشرع هو بمجاراتها ...أخذ يراقب نهارها وليلها ويقُص لها حكاياته، ودأبت هي على مخاطبته بتلقائية، تعلم لغتها وبات يدرك الجّر والممنوع من الصرف والتوكيد ونائب الفاعل. راحت تقلد إنشاده، وحاول بشق الأنفس كتابة قصة قصيرة جداً عله ينصف صديقته الطارئة على حياته. لم يقرأ الطائر أجنحة جـبران خليل جـبران المتكسرة، لكنه وصل إليها بقلبه الذي تحول لاستراحة صنعت من عذاب خالص.

ذات نهار شتوي تسللت الحمى إلى سماح، ولم تفلح خطوط دفاعها أو تحصينات كريات دمها البيضاء في دحر المرض. لم تدر ما الذي تصنعه لنفسها، سألت أعماقها الزجاجية المحترقة بعفوية: هل من الممكن أن أتحول لطبيبة ومريضة في اللحظة ذاتها؟

بالطبع لم تتعثر بإجابة، وقبلت بالصمت الحرام.

تسلل الطائر من نافذتها المحطمة، كما كل جوارحها وحاول –والتعب يسيطر عليه- التصرف كما البشر، بحث في أركان غرفتها فلم يجد كمادةً بيضاءَ تقدر على امتصاص نقمة الألم، فراح يملأ منقاره بماء بارد تجمع في حوض مهمل يجاور البيت الصغير في تضاريسه و القذر بذكرياته، لينقله إلى جبهتها الملتهبة. صارت قطرات الماء البارد تتحول لبخار بلمح البصر، تكرر ذلك غير مرة، لم يسأم حرفة الممرض فهو بحاجة لدليل كي تتأكد سماح أنه صديقها الوفي بالفعل، وفي العادة فإن الأصدقاء ما يتألقون في أوقات الأزمات.

أفلح الطبيب الطارئ أخيراً في " قتل الحمى "، وراحا يقتربان من بعضهما بعضا بصداقة أكثر تماسكاً، أخذت تروي له حياة مشقاتها لتقول : ولدت في يوم أغبر، فأنا الابنة الخامسة لعائلة تاق قائدها لصبي يطفئ نزعته الجارفة لحياة تعُج بالذكورة، ليس لأنه شغوفاً لهذا الحد بالأبناء، ولكن لأن والدته سببت له عقدة من الإناث، في كل يوم كانت تمطره بسحابة من التحذيرات، تفوق المنخفضات الجوية ذات المنشأ القطبي.

إياك وإياك…وأحذر من….و" هَمُ البنات إلى المماتِ "ومن سيتولى عرشك؟، ولمن ستضيع تركة والدك ؟فأنت الوحيد، وأراضيك شاسعة " يطارد فيها الخيَّال ". كـُبر أبي وكبر الحقد الصناعي في قلبه من الجنس الناعم الذي كان يتنعم به مرة في نهاره ويجرحه ألف مرة . زوجوا والدي وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولم تكن عروسه إلا في العمر ذاته تقريباً. كبُر والدايَّ وارتفعت فيهما غرائز الأمومة وأخذت النصائح الجنسية وغيرها تنهال عليهما، وكذا الأوامر من الأقربين و"المشرّعين" أيضاً. تلهفا لرؤية أول الغيث، لكنهما بكل جوارحهما لم يجهزا نفسيهما لأن يكون القادم الجديد أنثى؛ على الأقل لأن نصائح العائلة الممتدة ورغباتها لا تعترف بالإناث حتى هذه اللحظة ولا تفكر في إدخال إصلاحات على سياستها هذه ولو أمُرت بذلك من قوات تضاهي "التحالف" أو "المحور".

جاءت النتيجة عكسية، فلم تكن هناك فحوصات طبية أو كشوفات سابقة للتعرف على نوع الجنين في أحشاء أمه، قالت الداية التي تعلمت المهنة عن طريق المشاهدة: يا خسارة، بنت، كررت ذلك عشرات المرات وكأنها تؤكد بأسى عما رأت...

اسّوَدت الوجوه أو أضافت للونها الشاحب المزيد، وتصاعدت النقمة العمياء، وشرع الحضور بتعزية الأب والجدة بكل وقاحة، وتناسّوا الأم، ولم يوفروا لها أسباب الراحة؛ لأن الحصاد لم يرق لأحد.
بالكاد مرت الأربعين يوماً الأولى بعد الوضع، لتزرع في أحشاء أمي كرة أخرى للتعويض، ولطلب استرضاء جدتي العجوز. كبر بطن أمي، وأهملت شقيقتي الأولى.

حانت ساعة الصفر الثانية، وتهافت الجميع من نسوة الحارة القديمة لسماع صراخ الأم، وللحصول على عطايا الأب ميسور الحال، إذا ما ضحكت له الدنيا، لكنه بكى بعد أن عرف أن أنثى أخرى سقطت عليه كقذيفة صاروخية لم تخطئ هدفها.

قال لزوجته، وهو يعض على شفتيه، قبل كل شيء : ما الذي وضعته يا امرأة ؟

أجابت بخوف خجول: سامحني، مشْ بيدِي!!

علا صراخه عليها، مثلما أكملت أمه التأنيب والغمز واللمز : الثالثة ثابتة يمّـا …

اقترب الطائر ليمسح بجناحه دموع الراوية صديقته ولم يستطع، فهي أكبر من أن تُزال.

عاد الزوجان لتكرار تجربة ثالثة، والخوف يحتل تضاريس وجهها. وحتى لحظة العشق المفروض أن تكون بأجمل صورها كانت جافة فهدفها الوصول لولي عهد، بدأ العد وحانت ساعة الصفر مرة أخرى وكأن انتخابات مصيرية ستعلن نتائجها: ترقب، خوف، وصايا، تنبيهات، قوائم أخرى صادرة عن "الهيئة العليا" للعائلة الممتدة.
الغريب هذه المرة أن قرارا جائرا أصدرته العجوز : من الآن فصاعدا سيُحكم على زوجتك يا ولد بالعمل حتى يوم ولادتها، فربما يعلمها التعب ألا تكرر غلطتها !!

لم يكن من الأب إلا الصمت والتأييد بخلاف الطائر الغريب الذي أنتفض وأرتعد من قسوة الأم وأبنها، قاطعَ سماح، وأين قلبه ؟
ردت : تحول لصخر.

راحت أُمي المسكينة تعمل ليل نهار، الشمس تقتص من مساحات وجهها الجميل، العرق يحول ملابسها لشيء آخر، الإعياء يحاصرها، وكأنها شعرت بأن أنثى أخرى ستثلث العدد، وتسقط بمصيبة فوق رأسها.
ذات ليل موحش، حيث السماء تغرق الأرض بماء وسط كانون البارد لم يعترف بهدنة المخاض.

جاء المخاض فأسرعت " الحاكم العسكري " أو العجوز إلى البيت الطيني القارس البرودة، ومعها الداية، وبعض المتطفلات والباحثات عن مآرب.

تصاعد دخان ضحكات أم علي وكأنها تعلم النتيجة سلفاً.

تهامست رضية وكريمة والسخرية تفوح من وجهيهما. خمّنت آمنة نفسها لما سيحدث للزوجة المغلوبة على أمرها.

أُعدت الماء الساخنة، وبسرعة أمتزج صراخ طفلة ملائكية وصوت الرعد ولمعان البرق، أضاء وجه الرضيعة ليل البيت الموحش وأطفأ نوره. عادت الدموع لمرافقه الأم، والاسودادُ يسيطر على العجوز والأب ….
بسرعة أيضا حملت العجوز نفسها وهي تتحدث مع هواجسها: "القِدرْ بركبش إلا على ثلاث"؛ وكأن " قمة استثنائية " ستنعقد على عجل، فأمن العائلة القومي أصبح مهدداً، ولا بدَ من رفع حالة التأهب لأقصى درجاتها… قالت له: وبعدين مع الـ…. ، إلى متى ستظل تنجب بناتاً ؟؟

تلعثم وقال لها أخبرني ماذا أفعل ؟

أشارت عليه بتطليقها إذا ما تكررت المصيبة ثانية، فلم تعد أفعالها تطاق ولا بد من معاقبتها.

حمل والدي القرار إلى أمي، وقبل أن يقول لها حمداً لله على السلامة، أو يرى وليدته، قال لها: أسمعي لديك فرصة أخيرة، فإذا لم تنجبي طفلاً سأطلقك، وأرجعك وبناتك لبلد أهلك .

بالوتيرة ذاتها أعادت الأحداث تكرار نفسها كما في المرات الثلاث، وتصاعدت شدة الظلم، وتحولت والدتي لخادمة تحت أقدام جدتي، في تشرين أول وضعت أمي زوجاً من البنات أنا وصفاء، ونفذ والدي وَعده وطلقَ أمي، وتخلى عنها وعنّا …

اصطحبتنا وأخواتي لقرية أخرى وراحت تعمل أجيرة في حقولها، وسكنا منزلا رثاً، وبدأنا في حياة سوداء، لم تمض غير أربع سنوات إلا وماتت أمي حسرة.

تحولنا لخمس يتيمات، راح بعض المحسنين يقدمون لنا العطف أحياناً، كبرنا وتفرقنا كل إلى شأنه، تزوجت ثلاثُ من شقيقاتي، ولحقت أخرى بأمي، وبقيت أنا وحيدة …

سألها الطائر: وماذا عن والدكن ؟

ردت بدموع : لم يتعرف علينا، أو يحاول السؤال عن مصيرنا. لكننا تسللنا مرة إلى قريتنا، وعرفنا أنه تزوج من أخرى، ورزق بولد وحيد، أقام يوم ميلاده الدنيا ولم يسمح لها بالجلوس، وذبح الذبائح، وأنفق أموالاً طائلة، ونقل إليه كل تركتِه وهو على قيد الحياة، ولقي نهاية تشبه نهايتنا .

الطائر مذعوراً ومليئا بفضول غير متسلسل : وما الذي حدث ؟
أعاد ذلك مرة أخرى، وبإلحاح أكبر.

احتجب صوت سماح، ولم ترد.

ألح الصديق الوفي ثانية.

ردت سماح على استحياء :تخلي أخي عن والدي، وألقاه في بيت خرب، ولم يعد يسأل عنه، حتى يوم وفاته أمر ثلاثة من رجاله بدفنه بشكل سري وبسرعة البرق .

وضعوه في التراب، وبقينا نحن نسكن بيتاً من تراب، يتسلل إلينا البرد ويحاصرنا الجوع، وتطاردنا النظرات القاتلة ….
بكى الطائر بحرقة، ولم يسأم البحث عن شكل تضامني مع مرافقته من البشر، الذين يحرصون في الغالب إما لاصطياده أو التهام جسده، والمعتدلون منهم يقتطعون حريته في قفص ذهبي يظل سجنا وللأبد بالرغم من رخامية مظهر المعتقل الخارجي...

بالغت سماح في النداء على كل الأسماء التي تعرفها:أمها، الشقيقات، الصديقات، الجيران فربما يستمع إلى استغاثتها أحدُ ما فيمد لها يداً.
مرت ساعات وساعات إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة، وسقطت جثة هامدة؛ أكرهت رائحتها عابرُ سبيلٍ على حفر قبرٍ على عجلٍ لجسدها النحيل.
لم يحتاج لطويل الوقت فجسد سماح قزَّمه الألم الذي أعاده إلى الوراء عشر سنوات، أستل هذا العابر قلمه الذي شارف على الهلاك وكتب على شاهدة بخط كله اعوجاج: الفاتحة على روح المرحومة إكس…!!

لم تصمد العبارة طويلاً، فالحبر استسلم من غير مقاومة للشمس والمطر والرياح، وقبل بتآكل ذاته. بعد صيف أو أكثر مر من المكان العابر ذاته وكتب في يومياته الممزقة هذه المرة : إكس لا تساوي واي، إذن واي في هامش القبر أو على يساره، الصفحة عفنة، لا يهم فهي قابلة للاشتعال أو المضغ، الحروف منزوعة التأثير، الشاهد البالي للقبر الصغير كلؤلؤة في صحراء، صدى الكلمات متمرد إلى وقح، الأوتار الناعمة لا تجيد فن الطهي، و العزف بحاجة لقيثارة عمياء ….


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى