الخميس ٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم منى العبدلي

إمرأة محترمة

لـ كيت شوبين

كيت شوبين (روائية أمريكية) ولدت كاثرين أوفلاهرتي وهو اسمها الحقيقي في 8 فبراير عام 1850م وتوفيت في 22 أغسطس عام 1904م وهي مؤلفة قصص قصيرة وروايات معظمها ذات خلفية من نيو أوريلانز وهي تعتبر من أفضل الروائيات النساء في القرن العشرين، لها الكثير من الاعمال من بينها روايتين هما: على خطأ وإيقاظ. لم أجد الكثير من المعلومات عنها سوى ما أمدتني به ويكيبيديا الموسوعة الحرة ومن خلال البحث في قوقل لم أجد لها أعمال مترجمة سوى قصة قصيرة بأسم (قصة ساعة).

أنزعجت السيدة بارودا بعض الشئ حين علمت أن زوجها يتوقع قدوم صديقه جوفرنال لقضاء أسبوع أو اسبوعين هنا في المزرعة.

كانا قد حظيا بالكثير من المتعة خلال فترة الشتاء وقضيا معظم وقتهما في نيوآوريلانز في الاستمتاع بشتى أنواع التسلية والترفية، وكانت تتطلع إلى فسحة من الراحة غير المنقطعة، والأن ودون إزعاج لخصوصيتها مع زوجها حين أخبرها أن صديقه جوفرنال قادم لقضاء اسبوع أو اسبوعين في مزرعتهما.

سمعت عن هذا الرجل كثيراً دون أن تراه، كان صديق زوجها أيام دراسته في الكلية، والأن هو صحفي وبلا شك فهو رجل مجتمع أو رجل المدينة وهي ربما أحد الأسباب التي جعلتها لم تلتق به بعد. لكنها وبدون إدراك شكلت له صورة في مخيلتها، صورته طويلا، نحيلا، متشائماَ، يضع نظارة طبية ويديه في جيبه ولم يرق لها اطلاقا. جوفرنال كان نحيفا بعض الشي لكنه لم يكن طويلا جدا ولا متشائما. ولم يكن يضع نظارة طبية ولا يدس يديه في جيبه، وقد أعُجبت به حين قدم نفسه لها أول مرة.

لكن لم أعُجبت به، لم تكن تعرف كيف تفسر ذلك لنفسها بشكل مرضي حين حاولت أن تفعل. كانت تستطيع أن تكتشف أنه لا يملك أي من الميزات الباهرة والواعدة التي كان زوجها غوستان يؤكد لها أنه يمتلكها وعلى العكس جلس هو مفضلا الصمت وتقبل حديثها الحماسي لتجعله يشعر أنه في بيته متظاهرة أمام زوجها بالفرح مبدية الكثير من عبارات الحفاوة والترحيب بهذا الضيف العزيز وكان تصرفه معها مؤدبا كيسا كما في حضرة أكثر النساء احتراما وانضباطا. لكنه لم يبد إعجابا مباشرا لحفاوتها أو حتى تقدير.

بعد استقراره في المزرعة اصبح يحب الجلوس فوق رواق تحت ظلال واحد من أكبر الأعمدة الكورنثية يدخن سيجاره بكسل ويستمع بإنصات لتجارب غوستان كمزارع سكر

"هذا ما أسميه حياة " اطلق العبارة برضى عميق مثل الهواء الذي يحرك حقول السكر بلمسته الدافئة وسلاسته ونعومته أمامه مباشرة. وقد اسعده ايضا ان تألفه الكلاب والتي اخذت تداعبه وتتمسح على ساقيه متوددة له لم يكن يهتم بصيد السمك ولم يبد حماسة للذهاب واصطياد الطيور حين شرع غوستان أن يفعل.

شخصية جوفرنال اربكت السيدة بارودا، لكنها اعجبت به، فهو بالطبع كان محبوبا ورفيقا مسالماً. بعد بضعة أيام حيث لم تكن قد فهمته أفضل من أول لقاء، تخلت عن حيرتها وبقيت مستاءة وبهذا المزاج تركت زوجها وضيفها وحدهما معظم الوقت, وحين وجدت أن جوفرنال لم يبد أعتراضا على فعلها هذا، فرضت عليه رفقتها تلازمه في نزهاته الكسولة إلى الطاحونة والسير على طول الحقل، كانت تسعى بإصرار لتتغلغل إلى الجوانب الخفية التي حجبها من شخصيته دون وعي منه.

متى سيرحل ـ صديقك ـ سألت زوجها ذات يوم وأردفت: من جهتي فقط ارهقني كثيرا

ـ ليس لإسبوع عزيزتي، لا أستطيع أن أفهم، فهو لم يسبب لك أذى !!

ـ لا، كان سيروقني أكثر أن فعل، لو كان مثل البقية،كنت سأخطط لحد ما لراحته ومتعته.

أمسك غوستان بوجه زوجته الجميل ونظر بلطف وأبتسامة إلى عينيها المضطربتين. وكان السيد والسيدة بارودا يتقاسمان غرفة التبرج خاصتها.

قال لها: أنت مليئة بالمفاجأت يا جميلتي، ولا أستطيع أبدا أن احدد كيف ستتصرفين تحت هذه الظروف، قبّلها واستدار يلف ربطة عنقه أمام المرآة.

ـ تفضلي، وأكمل ها أنت تأخذين المسكين جيوفرال بجدية وتثيرين ضده ثورة. كان أخر شي يستحقه أو يتوقعه.

ـ ثورة!! علقت مستاءة، هراء: كيف يمكنك أن تقول كلاما كهذا ؟.. ثورة طبعا، لكن كما تعلم فأنت قلت أنه كان رجلا ذكياً.

ـ هو كذلك، لكن هذا المسكين أرهق كثيرا تحت ضغوط العمل لذا طلبت منه أن يأتي هنا لبعض الراحة

ـ لكنك تقول أنه رجل الأفكار، ردت بتودد، توقعت منه أن يبدي أهتماما على الأقل، سأذهب إلى المدينة صباحا لحياكة ردائي الربيعي، اخبرني حين يغادر صديقك وسأكون في منزل العمة اوكتافيا.

في تلك الليلة ذهبت لتجلس وحيدة على مقعد قابع تحت شجرة السنديان قرب الممر المفروش بالحصى. لم يسبق أن كانت نواياها وأفكارها بهذا الأنزعاج. لم تجن منها سوى الإحساس الكبير بضرورة ترك منزلها صباحاً.

سمعت السيدة بارودا وقع خطوات تسحق الأوراق اليابسة لكنها لم تميز سوى اقتراب نقطة حمراء لسيجار مشتعل فعلمت أنه السيد جيوفرنال فزوجها لم يكن مدخناً، تمنت أن تبدو غير مرئية له لكن رداءها الأبيض جعلها كذلك. رمى سيجارته بعيدا وجلس قبالتها على المقعد دون أن يشك في أنها قد ترفض حضوره.

ـ سيدة بارودا زوجك طلب مني أن أحضر لك هذا وناولها وشاحا أبيض شفاف كانت في بعض الأحيان تلفه حول رأسها وكتفيها أخذت منه الوشاح متمتمة بكلمة شكر وجعلته ينسدل على ركبتها.

علق ساخرا على شائعات تقول أن الهواء الليلي له تأثيراً ساماً، وحين حدق ملياً في الظلام من حوله همس بينه وبين نفسه:

ليلة الرياح الجنوبية

ليلة فيها بعض النجوم الكبيرة

ما تزال تتمايل ليلا !
لم تبد أي تعليق على مناجاة الليل هذه والتي بالطبع لم تكن موجهة لها. كان السيد جيوفرنال قطعاَ رجلا حيياً حيث أنه غير واع لنفسه وفترات تكتمه ليست دائمة، لكن نتيجة للمزاج وجلوسه هناك مع السيدة بارودا ذاب صمته مع الوقت. تحدث بحرية تامة وبقليل من الحميمية، مترددا ومتشدقا والذي لم يرق لها ابدا، حدثها عن أيام الكلية حين كان هو وزوجها غوستان أفضل صديقين وعن أيام الطموح والذكاء والعزم الكبير. وبقي له الأن ـ بقليل من فلسفة الإذعان للنظام القائم ـ أن يكون متاحا له أن يعيش هذه اللحظة وسط هبة هذه الحياة الأصيلة.

كان فكرها يحاول تبديد الغموض فيما كان يقوله، لم تكن تفكر بكلماته بل كانت تتشرب نغمة صوته، كانت تريد أن تمد يدها في الظلام لتتلمس شفتيه وأن تقترب منه أكثر وتهمس عند وجنته ـ ولم تكن تهتم ـ بما ستفعله إن لم تكن إمرأة محترمة.

وبنفس قوة النزوة التي نمت لتجعلها تقترب أكثر كانت أيضا في الحقيقة قد ابتعدت عنه أكثر ودون أن تظهر شيئا من الوقاحة نهضت وابتعدت تاركة إياه وحيداً

وقبل أن تصل السيدة إلى منزلها كان السيد جيوفرنال قد اشعل سيجارة اخرى وأكمل مناجاته لليل.

عزمت السيدة بارودا على أن تخبر زوجها ـ والذي كان صديقها أيضاًـ بحماقتها التي اقترفتها، لكنها لم تنصاع لهذا الأصرار إضافة لكونها سيدة محترمة وحساسة جداً تعلم أن هناك بعض المعارك في الحياة التي يتوجب على الأنسان أن يقاتل فيها وحيداً.

حين استيقظ غوستان كانت زوجته قد غادرت المنزل مستقلة قطار الصباح المسافر باكراً إلى المدينة ولم تعد إلا بعد أن ترك السيد جيوفرنال منزلها.

دار حديث حول إمكانية أستضافته مرة اخرى في الصيف التالي والتي كانت رغبة غوستان كبيرة جداً بذلك وقطعاً كانت تتعارض مع رغبة زوجته. ومع ذلك وقبل أن تنتهي السنة أقترحت السيدة بارودا من تلقاء نفسها استضافة السيدة جيوفرنال مرة أخرى في منزلهما، تفاجأ زوجها وتهلل وجهة أن يأتي الأقتراح منها شخصياً وابتهج قائلاً أنا سعيد أنك أخيراً تجاوزت كرهك له والذي حقاً لم يكن يستحقه.

ـ أوه.. قالت له ضاحكة بعد قبلة طويلة على شفتيه: تجاوزت كل شيئ يا عزيزي!

وسترى بنفسك هذه المرة سأكون لطيفة جداً معه.!

لـ كيت شوبين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى