الأحد ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

احتجاج التراب

غشيم لأنه عاد إلى هذه الدنيا، وغشيم لأنه تذكرني وأراد رؤيتي، وأنا غشيم لأني استجبت له، فبعد غياب دام ستة عشر عاماً، دعاني إلى زيارته على وجه السرعة، فلم أستطع إلا أن أنفذ رغبته وأذهـب إليه بروح جزعـــة ونفس متأففة.
عند الضحى بالتحديد، صعدت التل بأنفاس متقطعة، وقفت أمام القبر المفروش بالأشواك، يغمرني الخوف والارتباك، انتظرت أن يخرج من مكان ما وأنا أوزع نظراتي من حولي، لكنني لم أجد له أثراً، وحين طال انتظاري، ناديته بصوت عال، فلم أسمع جواباً:"يبدوأنني كنت أحلم". استدرت إلى الوراء كي أبتعد عن المكان الذي لا أحبه، وقبل أن أخطوالخطوة الثانية، سمعت صوتاً وكأنه يأتي من البعيد، أرسلت نظراتي في كل الاتجاهــــات وقلبي يرتجف داخل ضلوعي، فلم أر أي مخلوق، ومع روائح الخوف التي ظلت تهب من حولي، ناديته مرة أخـرى، ويا للغرابة والعجب، فبعد لحظات شعرت بأن زلزالاً قوياً قد وقع، وبأنني في طريقي إلى الموت المجاني، رأيت القبر يهتز، يتشقق، وبلحظة واحدة رأيته واقفاً أمامي كفزاعة طيور بلحيته الطويلة، وبجسده الذي بدا لي خالياً من اللحم، بقي واقفا لدقائق، ثم تثاءب، تمطــط، طقطق عظام رقبته، وقام بتمارين لا تمت إلى الرياضة بشيء.
كنت أراقبه بجحوظ مخيف، وكدت ادخل في حقول الهلوسـة، غير أنه لم يترك لي مجالاً، أمرني بالاقتراب منه، فما كان مني إلا أن تركت خوفي جانباً، اقتربت منه فبدا لي متجهم الوجه.
قلت وأنا أتصنع الفرح:
ـ هل أحضر لك حلاقاً؟
ـ قرأت الفاتحة وأنت تدخل المقبرة؟
ـ اعذرني لقد نسيت، لكن لماذا أنت بائس إلى هذا الحد؟ ما هـذا الحطام الذي في وجهك؟ وجهك يجلب الفقر يا أبي، هل كنت صائما كل هذه السنوات؟
غرز صراخه في وجهي، وبخني بحدة وأنا ألاطفه وأسـايره وأقول له إن الصراخ يضر بحنجرته.
جلس على الأرض وبلهجة آمرة طلب أن أجلس إلى جانبه، استجبت لطلبه وقدمت له سيجارة طويلة:
ـ أظن انك قد اشتقت إلى التدخين أليس كذلك؟
صفعني بقوة واتهمني بأنني ولد عاق لأنني أدخن بعد موته.
ـ قل لي.. مالذي يجري عندكم؟ قالها بعصبيته المعهودة.
لم أفهم قصده غير أنني قلت وأنا أبتسم:
ـ لا شيء وكلنا بخير.
رمقني بنظرة غاضبة وأراد أن يقول شيئاً، لكن موجة قوية من السعال الجاف هاجمته، وبعد أن هدأ:
ـ لماذا القوي منكم يأكل الضعيف؟ لماذا تأكلون أموال اليتامى؟ لماذا لا يحلولكم إلا القتل؟ لماذا أصبحتم عبيداً للمادة، وكل واحد منكم لا يفكر إلا بنفسه؟ لماذا..؟ لماذا..؟
انتابتني موجة من الضحك، فحمل حجراً وألقى به على رأسي، فقلت وأنا أكتم أنيني:
ـ أنت انتهيت كقطرة ماء تدحرجت على أرض صخرية، فلماذا تشغل بالك بأمور الدنيا؟ ثم لماذا تقول لي هذا الكلام؟ هل أنا مسؤول عن العالم؟
ثم أضفت وأنا أشعل سيجارة:
ـ دعك من هذه الأمور ولا تشغل بالك ولا تزعل، فالزعل سيضرك كثيراً، وستتعذب كثيراً في المشافي، وربما باعوك كقطع غيار، ثم أنا لا أستطيع أن أنقلك إلى المشفى.
هب واقفاً وكأن عقرباً قد لدغه وقال بمرارة ونحيب:
ـ اذهب من هنا.. هيا اذهب.
ـ أتريد شيئاً أحضره لك في المرة القادمة؟
نظر إليّ بازدراء ورد بصوت حانق محتج:
ـ انقلع من هنا ولا تريني وجهك حتى تقضي على كل ما هوسيئ في هذه الدنيا.
ضحكت كثيراً وبصوت عال، ولم أهدأ إلا عندما رماني بحجر كبير، ومع الضحكة الملونة بالألم قلت:
ـ هل أنا سوبرمان أوطرزان حتى تطلب مني ذلك؟! هذه هي الدنيا كلها أمامك، نفذ وحقق ما تريد إن كنت رجلاً.
كاد يفقد صوابه، غير أنه تمالك نفسه، حمل جثته وسار باتجاه مكانه الأزلي وهويقول بغضب واضح:
ـ اللعنة عليكم ما أوسخكم وما اوسخ دنياكم!
وما إن صار تحت التراب حتى تنهد بارتياح:
ـ ياااااه، كم هومريح هذا المكان.
وحين لم أجد غير الصمت المطبق غادرت المقبرة على عجل حيث صديقتي تنتظرني في أحد المطاعم.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى