الخميس ٨ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

احذرِ الجاهلَ إذا امتلك مالاً أو سلاحاً

(قصّة أميرٍ الحُرمُليّ)

ما أقبحَ وجهَ الحياةِ حينَما تبتسمُ لجاهلٍ، فتمدُّ إليه كفَّ العطاءِ، فينقلبُ الجوعُ إلى امتلاءٍ، والفقرُ إلى غنىً، وضعفُ النّفسِ إلى قوّةٍ طاغيةٍ، وتتحوَّلُ الحاجةُ من رغيفِ الخبزِ إلى وفرةٍ في السّلاحِ.. سرعانَ ما يُكشِّرُ عن أنيابِه، ويشْحذُ مخالبَه للانقضاضِ على جمالِ الحياةِ ونقائِها!!

والأمثلةُ أكثرُ منْ أن تُعدَّ أو تُحصى في حياتِنا وبيئتِنا الّتي امتدَّت منذُ وعيِنا لها إلى أن تفتَّقَت كلماتُنا فلسفةً وأدباً ترسمُ ملامحَ هؤلاءِ الجهلةِ الّذين حرمَتهم مشيئةُ القدرِ أفانينَ الذَّوقِ والعلمِ والفهمِ، لكنَّ كفَّ الحياةِ تاهَت دروبَها في العطاءِ إليهم، فامتلكُوا قوّةَ المالِ وقوَّةَ السِّلاحِ.. وهُنا تتجلّى أعظمُ مصائبِ الدَّهرِ.. وأخطرُ همجيَّةٍ على وجهِ البسيطةِ!

وهذهِ القصّةُ الّتي أرويها اليومَ هيَ من نسيجِ مجتمعٍ عربيٍّ جاهلٍ يحتقرُ العلماءَ؛ لأنَّهم لا يملكُون سوى ثروةِ العلمِ وثراءِ النَّفسِ، ويُبجّلُ الجهلاءَ؛ لأنَّ النِّعمَ الباطلةَ تحفُّ بهم، وفي أيديْهم سطوةُ بريقِ الذَّهبِ ولمعانِ السّلاحِ!

نشأَ أميرٌ الحرمليّ في قريةٍ فقيرةٍ تتعيَّشُ من زراعةِ الفجلِ الشَّتويِّ وموسمِ البطاطا الصَّيفيّ... وتمرُّ الأيّامُ لتنتفضَ على صدورِ البساتينِ أشجارُ التُّفَّاحِ والخوخِ والدُّرّاقِ وغيرِها، وسرعانَ ما تتطوَّرُ الحياةُ البسيطةُ إلى عالمٍ معاصرٍ تختَفي فيهِ الحميرُ منَ البيوتِ والشَّوارعِ؛ لتحلَّ محلَّها العزّاقَاتُ والسّيّاراتُ والجرّاراتُ!

أمامَ هذا التّحوُّلِ الكبيرِ تتغيّرُ ملامحُ الحياةِ والنَّاسِ، وتتكشَّفُ حقائقُ النُّفوسِ، فمَا كانَ منها ذهباً، سيظلُّ على جوهرِه، وما كانَ منها معدناً خسِيساً سيزدادُ صدأً وتحلُّلاً.. لكنَّ الغالبيَّة العُظمى كانتْ من المعادنِ الخسيسةِ، تحوّلتْ مع الأيّامِ إلى خناجرَ في صدرِ الحياةِ الجميلةِ.. فتغيَّرتْ نبراتُ الأصواتِ، وتحوّلتِ الألفةُ إلى بغضاءَ والغبْطةُ إلى حسدٍ، والتَّعاونُ إلى صراعٍ؛ لامتلاكِ المالِ والقوَّةِ.. ولم تكنْ هذهِ التَّحوُّلاتُ الكُبرى حِكْراً على الحرمليّينَ، وإنّما صارتْ مسرحيَّةً يتنافسُ أبطالُها إلى حلبةِ الصِّراعِ في كلِّ قريةٍ ومدينةٍ على امتدادِ خرائطِ العالمِ النّامي!

حينَما امتلأَ جوفُ الحرمليّ بشتّى أصنافِ القُوتِ، وغصَّتْ جيوبُه بحفيفِ الأوراقِ النَّقديَّةِ، وجلجلَتِ الدَّنانيرُ مع حركةِ قدميهِ، نظرَ إلى نفسِه في عيونِ النَّاسِ، فخالَ صورتَه أحدَ أباطرةِ الرُّومِ، أو أكاسرةِ الفُرسِ.. فنفجَ ريشَه كالطَّاووسِ.. حينَما امتلكَ سيّارةَ شحنٍ للأبقارِ، يخجلُ اليابانيّونَ أو الكوريّون أوغيرُهم من استعمالِها في غيرِ نقلِ الحجارةِ والأمتعةِ الجامدةِ الخامدةِ!
امتَطى الحرمليُّ هذهِ الشَّاحنةَ الزَّرقاءَ، فظنَّ نفسَه يسابقُ الرّيحَ في الفضاءِ، وعلى الطَّريقِ الممتدَّةِ من مصيافَ إلى قريتِه كانَ يحملُ على شاحنِته طنَّينِ من الحديدِ، وعلى جانبيِّ الحمولةِ ركَّابٌ مساكينُ يُحْضرونَ حاجاتِهم من المدينةِ..

وانطلقَ الحرمليّ يسابقُ الشَّاحنةَ البيضاءَ الّتي يمْتطيها خالُه.. وبدأَ سباقُ الأغبياءِ على تلكَ الطريقِ الّتي لا تصلحُ لسباقِ الحميرِ.. ولمْ تمضِ دقائقُ حتّى طارتِ الشَّاحنةُ الزّرقاءُ في الفضاءِ، وطار معَها عددٌ منَ الرُّكّابِ.. بعضُهم قضَى نحْبَه تحتَ وطأةِ قطعِ الحديدِ، وبعضُهم طارَ معَ عجَلاتِ الشَّاحنةِ.. لقدْ كانتْ كارثةً إنسانيَّةً بكلِّ ما تعنِيهِ الكارثةُ.. وفي غيابِ حضارةِ الأخلاقِ وحضارةِ الدُّولِ وقيمِ المجتمعِ والقانونِ في دولةٍ لا تُشبهُ الدُّولَ ولا حتّى القبائلَ.. انتهتِ الكارثةُ بموتِ مجموعةٍ من الرّكّابِ ومن بينِهم امرأةٌ حاملٌ قضَى جنينُها نحبَه قبلَ أن تكتحلَ عيناهُ برؤيةِ الوجودِ.. وانتهتِ المأساةُ بدفعِ ديّةِ المنكوبينَ، وكأنَّهم قرابينُ قُدِّمَت في مذابحِ الغباءِ الّتي ستظلُّ تنحرُ حناجرَنا إلى أن تقومَ السَّاعةُ.. ومتَى؟؟ الإجابةُ عندَ أصحابِ مفاتيحِ الغيبِ!!

انتهتْ شهوةُ المالِ عندَ الحرمليّ بنكبةِ الفقراءِ، وحرمانِ الأجنَّةِ من الحياةِ.. فكمْ في مجتمعاتِنا الّتي عاشتْ في ظلِّ القهرِ والاستِبدادِ والسُّلطةِ ما قبلَ القبَليَّةِ منْ مآسي وقصصِ البائسينَ، لو تأمَّلَتهم أقلامُ الأدباءِ المتنوِّرينَ على نحوِ ما أنتجَتْه قريحةُ الأديبِ الفرنسيِّ الكبيرِ فيكتور هيجو في روايتِه البؤساءِ، لوُلدَتْ من رحمِ الكتابةِ ألفُ ألفُ روايةٍ من رواياتِ البؤساءِ في بلدانٍ لم ترقَ في مُستوى وعيِها حتّى يومِنا هذا ما بلغَتْه أوروبّا في العصورِ الوُسطى!!

هكَذا انتهتْ سطوةُ المالِ في أيدي الجاهلينَ بمآسٍ اجتماعيّةٍ، حطَّمتِ النَّسيجَ الاجتماعيَّ، وحوَّلتْه إلى قطعانٍ من الحيواناتِ تُذبحُ وتُقتلُ وتَفنى دونَ أيَّةِ قيمةٍ إنسانيّةٍ أو أخلاقيّةٍ أو حتّى حيوانيَّةٍ يفتقدُها البشرُ في تلكَ الدُّول!!

وأمّا مآسي سطوةِ السِّلاحِ في أيدي الأغبياءِ والجهلةِ، فحدِّثْ ولا حرجَ، ابتداءً من الأفرادِ ووصولاً إلى قمَّةِ الهرمِ في قياداتِ الجيوشِ الّتي لا تملكُ من ثقافةِ القيمِ أُقنوماً، ولا من أخلاقِ الحيواناتِ سجيَّةً، ولا من طبائعِ الوحوشِ غريزةً!!

بعدَ أن استبدَّ المالُ بوحشيّةِ الحرمليِّ امتلكَ السِّلاحَ، فغدَتِ الدُّنيا بأكملِها أمامَه غابةً، يُمكنُه أن يطلقَ رصاصاتِه على الحيواناتِ والطُّيورِ والفراشاتِ والذُّبابِ.. على كلِّ مَن ينظرُ إليهِ نظرةً، أو يلمسُه لمسةً، أو يمرُّ أمامَ ناظريهِ بغتةً!!

وهذا نموذجٌ من آلافِ النَّماذجِ الّتي امتلكتِ المالَ والسِّلاحَ والجهلَ دونَ قوّةِ السُّلطةِ! فما بالكُم بمَن امتلكَ الأربعةَ بينَ عشيَّةٍ وضُحاها معَ غباءٍ وعنجهيَّةٍ مريضةٍ وعُقدةِ نقصٍ تمتدُّ لمئاتِ السنواتِ!! ماذا تتوقَّعُون أن يفعلَ هؤلاءِ؟؟ لم يبقَ أمامَكم مجالٌ للتَّوقُّعِ أو التَّصوُّرِ، فقدْ سبقَتْ جرائمُهم كلَّ التَّصوُّراتِ، وفاقَت كلَّ التّخيُّلاتِ الّتي مرّت في أساطيرِ المجرمينَ!!

ونعودُ للحرمليّ الّذي بيدِه قوّةُ المالِ وقوّةُ السّلاحِ وقوَّةُ الجهلِ دونَ قوّةِ السُّلطةِ.. لنرَى ماذا يفعلُ سلاحُ الجاهلِ!!

ذاتَ يومٍ حدثتْ مشاجرةٌ بينَ أبناءِ العمومةِ وأسرهِم.. وبينَ الجِدِّ واللَّعِبِ والمهاترةِ، وجدَ أميرٌ الحرمليُّ نفسَه بطلاً يجبُ أن يُخرسَ الجميعَ بقوَّةِ السِّلاحِ، فما كانَ أمامَه إلّا أنْ يُطلقَ بضعَ رصاصاتٍ نحوَ نافذةِ بيتِ ابنِ عمِّه، وكانت زوجةُ ابنِ العمِّ تتأمَّلُ الطّبيعةَ منَ النّافذةِ، فجاءتِ الرّصاصةُ في رأسِها، وحرمتْها أنفاسَ الحياةِ، ولم تتركْ خلفَها من أثرٍ سِوى طفلةٍ صغيرةٍ في السَّريرِ!!

هربَ المجرمُ.. واجتمعَ القومُ ليحلُّوا المعضِلةَ العُظمى في دفنِ الضَّحيَّةِ.. هلْ يدفنُونها بغُسلٍ أو دونَ غُسلٍ.. هل كانتْ طاهرةً أم جُنُباً.. هل تُعدُّ الضَّحيَّةُ شهيدةً أم ميتةً عاديَّةً؟

هربَ المجرمُ.. وانشغلَتِ الأفهامُ؛ لتجعلَ من الغُسلِ قضيَّةً، وتاهتْ حولَ مصيرِ الضَّحيَّة.. وانتهى فقهُ القبيلةِ بلا قضيَّة، وسُحقتِ الصَّبيَّةُ تحت أقدامِ الهمجيَّةِ!!

ودُفِنتِ الصبيَّةُ دون غسلٍ، ونُسجَتْ روايةُ الفردوسِ، كما رآهَا أصحابُ العماماتِ البهيَّةِ.. وبعدَها استيقظَتِ النَّخوةُ البدويَّةُ، واجتمعَتِ الأحزابُ في دار الشُّورى، وراحَ كلٌّ يرمي عقالَه وغُترتَه، ويدعُو إلى الجهادِ في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ الحقِّ وسحقِ المجرمِ والأخذِ بالثّأرِ، وكلماتُ الحماسِ لأبي الضَّحيّةِ تتَوالى كالسُّحبِ.. لبيكَ يا بنَ العمِّ.. كلُّنا سنأخذُ لكَ بالثّأرِ..

أمامَ هَذا المشهدِ العروبيِّ العظيمِ انبرَى رجلٌ عاقلٌ، وأخرجَ سلاحاً ومَبلغاً من المالِ ونادَى: مَن يُريدُ الأخذَ بالثّأرِ.. فليتقدَّمْ لأخذِ هذا السِّلاحِ وهذا المبلغِ، ونحنُ نتكفَّلُ بكلِّ مصاريفِ إخراجِه منَ السِّجنِ إذا استطاعَ ردَّ الاعتبارِ بقتلِ المجرمِ!!

سادَ الصَّمتُ.. وخرِستْ أصواتُ الأخذِ بالثَّأرِ، ونظرَ الرَّجلُ الحكيمُ إلى والدِ الضَّحيَّةِ، وهمسَ إليهِ: كلُّهم منافقُون.. ستُبْتلى مرّةً أُخرى ويشْمتُون منكَ.. دعِ الأمرَ لي.. للعقلِ والحكمةِ لا للثّأرِ وسفكِ الدِّماءِ..

وحرَّكَ الرّجلُ الحكيمُ القضيَّةَ في محاكمِ القضاءِ (كرَّم اللهُ وجهَها).. وتمَّ القبضُ على المجرمِ، وحُكمَ عليه سنواتٍ عديدةً بذريعةِ أنَّ جريمتَه قضاءٌ وقدرٌ! ولمَ لا؟!! أليسَت كلُّ قضَايانا وهزائمُنا قضاءً وقدراً؟؟

وجاءَ العقلاءُ إلى العاقلِ، ودفعُوا الفديةَ، وذاتَ يومٍ أعطاني ذاكَ مَبلغاً من المالِ وأمرني بإيصالِه إلى وليِّ الأمرِ.. وحينَما أردْتُ فهمَ ما وراءَ المبلغِ.. غمزَني، وقالَ: دعْني أُكمِلْ لفافةَ تبغِي.. وانتَهى الأمرُ، وفهمتُ كلَّ شيءٍ وفهمُكم كافٍ.. رحمَ اللهُ الضَّحَايا.. تُباعُ وتُشْترى.. كما تُباعُ أوطانٌ وتُرهَنُ.. وسلامٌ عليْنا يومَ نموتُ ويومُ نُبْعثُ أحياءً!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى