الخميس ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم بشير خلف

اختلف الناسُ في فهمهم للجمال

منذ القديم اهتمّ الناس بقضية الجمال ومفهومه، ولا يزال الناس إلى يومنا هذا ولوعين بالبحث عن كنه الجمال ومواطنه، والعلاقة بين الفنون والجمال؛ ورغم تقدّم العلوم والمعرفة لم يتم الاتفاق

بين المختصين على حقيقة الجمال، ولعلّ صعوبة تحديد ماهية الجمال تكمن في تباين الآراء، حيث نظريات الجمال بعضها يقترب من حقيقته، وأكثرها لا تزال غامضة..

لئن كان الاتفاق النهائي حول تحديد ماهية الجمال لا يزال بعيد المنال، فما بالنا بتحديد المعايير التي تحكم الجمال..من الناس من يرى أن حقيقة الجمال تبدو في التناسق والانسجام الكامن في الشيء المادي المحسوس؛ إنْ سلّمنا بهذا، فهل الأمر نفسه ينطبق على ما هو غير مادّي، وهو ما لا تدركه الأبصار؟

لقد أدلى العديد من الفلاسفة وعلماء الجمال في هذا المضمار ومنهم دني هويمان الذي يرى بأن الجمالية بمعناها الدقيق تكمن في المعرفة المنشودة لمجرّد اللّذة التي يتيحها لنا حدوث المعرفة..فالهدف ليس جمال الشيء نفسه، بل ما يعكسه من قبحٍ أو روعةٍ..فالجمال ما يستثير إعجابنا، ويشعرنا باللذة في أيّ عملٍ فنّيٍّ.

في هذا الشأن يطرح المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود عدةَ أسئلة حول فهْم الناس للجمال، فإذا هم اتّفقوا حول الفهم وربّما حتى التعريف، فإنهم تأكيدا سيختلفون في التفسير والتعليل، وما هو المقياس الذي يجعل ذلك الشيء قبيحا وهذا جميلا:

« … قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدؤون في التفسير والتعليل، فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا؟ أهو ـ في نهاية التحليل ـ ما به ممّا ينفع الناس في حياتهم الكاملة؟ أم هو صورةُ بنائه وتكوينه، بغضّ النظر عمّا ينفع وما لا ينفع، أم هو شيء غير هذا وذاك؟ » ـ هموم المثقفين ص 249

ويربط المرحوم الدكتور نجيب محمود تذوّقنا للجمال بالجانب الروحي المتأصّل فينا والمستمد من عالم الروح، وما نصفه بالقبح يتنافر مع ذلك؛ فيرى أن الجمال في الأشياء الجميلة ما هي إلاّ صفةٌ ندركها، فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شيئا من حيث الجوهر؛ وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا، فالأشياء الجميلة تُذكّر الروح فينا بطبيعتها الروحانية، وذلك لأن هذه الأشياء الجميلة كلها تشترك في " الصورة " المستمَدَّة من عالم الروح، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحا.

للجمال مقاييس عدّة

ومن الخطإ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها، تلك التي تقع عليها العين، أو تسمعها الأذن، أو يشمها الأنف، أو يتذوقها اللسان، أو تتحرك بها لمسات الأطراف العصبية … فالجمال مادة وروح، وإحساس وشعورٌ، وعقل ووجدان، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب، أو العناصر، فستظل هناك في عالم الجمال مناطقُ يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها، والوصول إلى أبعادها. فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه، ولحكمة يقول الله تعالى في كتابه العزيز (…فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.)(الحج: من الآية46)

وقد كان هناك شبه اتفاق بين الفلاسفة والمفكرين على عناصرَ إذا ما توافرت في الشيء يمكن أن نطلق عليه ( صفة الجميل ) وهي:

1 ـ السلامة من العيوب: كلّ ما هو جميلٌ، يُدرك جمالُه وحسْنهُ بسلامته من العيوب، وخلوّه من أيّ خلل ونقصٍ.. وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى التأكّد من وجود هذه السِّمةَ في الجمال، وذلك بعد تسجيله بعض مظاهر الجمال في الكون، ففي الحديث عن جمال السماء، قال الله تعالى: ( أفلمْ ينظروا إلى السماءِ فوقهمْ كيف بنيْناها وزيّناها ومَالها من فروجٍ.)، فقد نصّت الآية على جمال السماء وزينتها، وأنها سالِمةٌ من الشقوق، وما ذلك إلاّ نفْيٌ للعيوب عنها، وتأكيدٌ على جمالها.

2 ـ التناسق والتنظيم: وهو سِمةٌ أخرى للجمال تقوم أساسا على التقدير والضبط، والإحْكام، وتحديد نِسب الأشياء بعضها إلى بعض في الحجم والشكل، واللون، والحركة، والصوت؛ وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه السِّمة مقرّرا اعتبارها في أصل الخِلْقة والتكوين، قال الله تعالى: ( وخلقَ كلّ شيْءٍ فقدّرهُ تقْـدِيرًا.) سواء كان صغيرا أو كبيرا، ناطقا، أو صامتا، متحرّكا أو ساكنا..إننا لو ألْقيْنا نظرة فاحصة على الإنسان، لأدركنا التناسق الذي يتجمّل به هذا المخلوق الصغير، ولعلّ قوله تعالى: ( يا أيها الإنسان ما غرّكَ بربّكَ الكريم، الذي خلقك فسوّاكَ فعدّلكَ في أيّ صورة ما شاء ركّبكَ.)إضافة إلى دلالته على الإحْكام والتقدير، والتسوية والتعديل، فإنه يُشير إلى دقّة التناسق بين عقْل الإنسان، وروحه وجسده، والتناسق بين أعضاء جسمه وبين الأعضاء الأخرى، والتناسق بين أجهزة عُضْوٍ من أعضائه، وبين سائر الأجهزة.

3 ـ النصّ والتعيين: ليس كلُّ جمالٍ في هذا الكون الفسيح ممّا في مقدور الإنسان أن يدركه دون أن يساعده وحْيٌ من السماء، أو دون الاستعانة بآلات التِّـقانة الحديثة، وتكنولوجيا الكشْف والاتصالات..إن الكون أوسع من أن يُحيطه الإنسان بعقله المحدود، وقد يخفى عليه وجْهُ الجمال في شيء من الأشياء، لا لِخللٍ يرجع إلى الشيء نفسه، أو كوْنه فاقدا للتناسق والتنظيم؛ ولكن لكوْن الإنسان عاجزا عن إدراكه، وقاصرا عن الإحاطة به.

جمالٌ معنويٌّ وجمالٌ حسّيٌّ

الجمال في هذا الكون الفسيح أكبر وأكثر من إدراك الإنسان الفاني، الضعيف، العاجز عن الإلمام بكل شيء، فالكون أوسع من أن يحيطه الإنسان بعقله المحدود.. والأشياء التي تنتظم هذا الكون الفسيح، إمّا أن تكون أجساما لها طولٌ، وعرضٌ، وعمق، كالإنسان والحيوان، والسماء والأرض، والشمس والقمر ونحوهما، وإمّا أن تكون معانٍ، كالأقوال والأفعال والأسماء، والصفات ونحوها، واستنادا إلى ذلك يمكن تقسيم
الجمال إلى قسميْن:

جمالٌ حسّـيٌّ: وهو الذي يّدرك بالحسّ كجمال الطبيعة في سمائها وأرضها، وشمسها وقمرها، وليلها ونهارها،وبرّها وبحرها، وكجمال الإنسان من حيث تكوينه … وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من مظاهر الجمال، مُشيرا إلى جماله الحسّي كي ينتفع به الإنسان، ويشكر ربّه الذي سخّر له الكون وما فيه..قال الله تعالى: ( والأنعامَ خلقها لكمَ فيها دفْءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون، ولكُمْ فيها جمالٌ حين تُريحون وحين تسرحون، وتحملُ أثقالكمْ إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفسِ إن ربّكم لرؤوفٌ رحيمٌ، والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً ويخلقُ ما لا تعلمون.)

وقال الله تعالــى عن الإنسان: ( لقد خلقْنا الإنسان في أحْسن تقويمٍ. ) ثم فسّر العلماء قوله:

" أحْسن تقويم " بقوله تعالى: ( يا أيها الإنسانُ ما غرّكَ بربّـِكَ الكريمِ الذي خلقكَ فسوّاكَ فعدّلكَ في أيّ صورةٍ ما شاءَ ركّبكَ. )، فهذه الآية وتلك تعبّران عن الهيكل الجمالي الذي بُـنِي عليه الإنسان، فالجمال سمةٌ بارزةٌ في الإنسان مثلما هو مبثوثٌ في غيره من الموجودات.

جمالٌ معْنويٌّ: ويشتمل على أمورٍ كثيرة لا تُدركُ بالحسّ والمشاهدة، ولكنها تُدرك بالعقل الواعي، والبصيرة النافدة..من هذه الأمور الجمالية المعنوية:

1 ــ الأقوال: فالجمال المعنوي موجودٌ في الأقوال الحسنة، والألفاظ الطيّبة، قال الله تعالى: ( ومَنْ أحْسنُ قولاً ممّنْ دعا إلى اللهِ وعمِلَ صالحا وقال إنني منَ المُـسلمين. ) فقد جعل الله الدعوة إلى الإسلام، والنطق بكلمة الشهادة مِن أحسن الأقوال وأجملها، فدلّ ذلك على أن الجمال موجودٌ في الأقوال التي يقولها الناس، وفي الألفاظ التي ينطقونها، لا من حيث تركيبها اللفظي وصياغتها البلاغية، ولكن بالنظر إلى ما تحمله من المعاني والمدلولات.

2 ــ الأفعـال: والفعل قرينُ القول، بل إن القول إذا لم يقترن بالفعل لا يبلغ الكمالَ في الحُسْن والجمال، ولذا ذكر الله تعالى في الآية السابقة قوله: ( وعمِل صالحا )، إذ القول وحده مهما كان جميلا لا يكفي صاحبه ما لم ينضمّ إليه فعلٌ … فالجمال يوجد في الفعل كما يوجد في القول.

من خلال تقسيم الجمال إلى جمال حسّي، وجمال معنوي، يمكن استعراضُ ميادين الجمال، ومجالاته التي هي:

3 ــ الطبيعة: بكل ما تحتويه من أرضٍ وسماءٍ، وإنسانٍ وحيوانٍ، ونبات وجمادٍ..هي كلها مواطن فسيحة للجمال الطبيعي، والقرآن الكريم حين تناول الطبيعة، لفت نظر الإنسان إلى كثيرٍ من دقائقها؛ على سبيل المثال يقول الله تعالى: إنّ في خلْقِ السّمواتِ والأرضِ واخْتلافِ اللّيلِ والنهارِ والفُلْـكِ الّتي تجري في البحرِ بما ينْـفعُ الناسَ وما أنزلَ اللهُ من السماءِ منْ ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح والسَّحاب المُسخّر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومِ يعلمون.

إن هذا المشهد العظيم لوحةٌ رائعة ٌ من الطبيعة، التي لا تحدّها الأبعادُ والأنظارُ، يسْرح فيها العقل، والبصر يتملّيان السّحْـرَ والجمال. ويقول تعالى في هذه الآية الكريمة، مُرشدا إلى الجمال: ( أفلمْ ينظروا إلى السماءِ فوقَهمْ كيف بنيناها وزيّناها ومالها من فروجِ. )

4 ــ الإنسان: إن الإنسان ميدانٌ آخرُ للجمال، يتخلّله الجمالُ منذ مرحلة تكوينه، ونشأته إلى مرحلة نُضْجه وتكامله؛ بل إن الجمال من أبرز سمات الإنسان التي نوّه بها القرآن الكريم في أكثر من آية للدلالة على قدرة الله تعالى وإبداعه.

5 ــ الفـنّ: والفن نتاجٌ إنسانيٌّ عكس الجمال الذي هو إبداعٌ ربّاني..الفن استفاده الإنسان من الطبيعة التي سخرها الله له، ومن عقله الذي وهبه إياه..والفنّ مجالٌ خصبٌ للجمال لا ينضب، ما دام الإنسان موجودا في هذه المعمورة، وقد تمثّل الجمال في مجالات عدّة، نذكرها بإيجاز

* ــ النقش والزخرفة: عُـرِف المسلمون منذ القديم بهذا الفن الجمالي، حتى قيل: إن الفنّ الإسلامي فنٌّ زخرفي، ذلك أنه لا يكاد يخلو أثرٌ إسلامي بدءأً بالخاتم ومرورا بالأواني، وانتهاء بالبناءات الضخمة، وقامت الزخرفة على نمطيْن: نمط نباتي أو ورقي وهو الذي أُبْرِز بأساليب متعدّدة، من إفراد ومزاوجة، وتقابل، وتعانق، وفي مجالات متنوّعة من جدران وقباب، وتُحفٍ نحاسية زجاجية، وصفحات الكتب وأغلفتها، ونحْو ذلك. ونمطٌ هندسي باستعمال الخطوط الهندسية وصياغتها في أشكال فنية رائعة، على شكل نجوم أو دوائر متداخلة وغيرها من الأشكال..وزُيّنت بهذا النوع من الزخرفة المباني، والتُحف الخشبية والنحاسية، والأبواب، والسقوف وغيرها.

* ــ الكتابة والخطّ: كانت " الكلمة " ولا زالت وستبقى ميدانا رحْبا للجمال الفنّي سواء كانت نثرا أو شعرا، ولقد حظي الخطّ والكتابة بمكانة عظيمة منذ القدم، وعظُمتْ هذه الحظوة منذ بدْءِ الوحي على رسولنا الكريم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم..حظي الخط العربي بمكانة عظيمة ولا يزال كوسيلة للكتابة وكتحفة فنية لم يبلغها أيّ خط آخر، إذ حظي بعناية فائقة، وتفنَّـنَ الناسُ فيه ولا يزالون، فأكْسبُـوه ألوانا وأشكالا؛ فوُجد الخط الكوفي، والخط الفارسي، والخط النسخي، والخط الرقعي، والخط المغربي، والخط الديواني وفرّعوا من هذه أنواعا أخرى من الخطوط خاصة في أيامنا هذه أصبحت تتماشى وتقنيات الحاسوب الحديثة.

* ــ العمارة والتخطيط: إن العمارة قديمة قِدَمَ الإنسان، وتطوّرت بمرور الزمان تبعا لتطوّر الأفكار، والمفاهيم، وانتشار المعرفة، وتقدُّمِ وسائل الإنجاز؛ إلاّ أن العمارة في الإسلام أُحدث فيها ما لم يكن موجودا من قبل، حيث بالإضافة إلى تأدية وظائفها المعهودة، فإنها تؤديها بطريقة جمالية راقية، وتركّز هذا الفنّ الجمالي على أمريْن إثنيْن:

* ــ المساجد ودُور العبادة: تطوّرت العمارة الإسلامية منذ القديم ولا تزال، وقطع الفنُّ المعماري أشواطا بعيدة حقّق فيها التنوّعَ والإبداعَ الرائعيْن، والانسجامَ الجميلَ، وظل المسجد ذا طابع خاصٍّ، وشكل مميّز..روعة في العمارة، وتحفة في الزخرفة والتنميق، وآية لعرض الآيات القرآنية بالخطوط العربية الجميلة.

* ــ المساكن والبيوت: ما يميز البيت المسلم عن بيوت غيره، لارتباطه بالكثير من الشؤون الاجتماعية التي أمر بها الدين الإسلامي، ونظّمها تنظيما رائعا..والعمارة الحديثة تفنّن فيها الناس من حيث الشكل الخارجي، ومن حيث التكوين الداخلي..

* ــ المرافق العامّة: في أيّامنا هذه تخصّص العديدُ من الشباب في النقش على الجبس الذي تُلبّس به جدران المرافق العامة، والمؤسسات الخدماتية كقاعات المطارات، وقاعات الاجتماعات والمؤتمرات في المؤسسات الحكومية، والفنادق، والزوايا، والمساجد المُنْجزة حديثا، والبناءات العتيقة التي أُعيد ترميمها، وكذلك أقواس مداخل المدن التاريخية العتيقة..نقْـشٌ عن طريق الحفْر في مادة الجبس المِطْـواعة، تضمّنَ إبداعات رائعة جادت بها العمارة الإسلامية عبْر عصورها الذهبية، وإبداعات فنية وهندسية حديثة من ابتكار هؤلاء الشباب، ومن الاستعانة أيضا بالأشكال المتولّدة بالحاسوب.. ممّا شجّع وزارة التكوين المهني على إنشاء تخصصات هذا النوع من الزخرفة خاصّة في مناطق الجنوب.

ومن الإنصاف القول بأن منطقة الوادي هي الرائدة الآن في هذا الفن، فما أُنجز ويُنجز حاليا في أكثر من مكان بالجزائر هو من طرف شباب هذه الولاية..وتاريخيا فإن مدينة قمار هي التي تركت بصماتها ولا تزال؛ فإن المرحوم " عمر قاقة " هو الذي أنجز وقبل الثورة زخرفةَ ونقوشَ القاعة الكبرى بالبريد المركزي بالجزائر العاصمة، وكذلك قاعات قصر الشعب، وبزّ في ذلك أشْهر المهندسين الذين أتت بهم فرنسا الاستعمارية، وتفوّق عليهم، وأزاحهم من طريقه.

ليس تزكية من طرفنا ولكنه الواقع عندما نقول: إن ذلك الفنّ الراقي حُوفظ عليه أيام الاستعمار من خلال أعمال زخرفية، ونقشية بسيطة ما تعدّت مجال المنطقة المحلّية، ليتوسّع بعد الاستقلال، وليزدهر حاليا ويكثر مُمارسوه..حتّى أن أحد أبناء المنطقة ممّن يقيمون في دُول الخليج سمعنا بأنه يخطّط لجلْب البعض من هؤلاء الشباب إلى هناك حيث الحاجة شديدة لأمثالهم، وقد احتكر الساحة ويحتكرها " المغاربة " وحدهم دون منافس.

وتدليلا على إبداعات هؤلاء الشباب الرائعة، فإن من يزور ولاية الوادي سينبهر بما أنجزه هؤلاء الشباب من فنون راقية..بدءا بمطار الولاية، والزاوية التجانية، ومساجد الولاية الحديثة، وحتّى المنازل الخاصّة.

أينما نحن..ثمّة البهاء والجمال!!

إن الإنسان العادي السويّ مثلما يشاهد الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها، ويلْحظُـه في الإبداع الفني الذي يصنعه كالعمارة التي يبدع فيها المهندسون، والطرق الفسيحة التي تحاذيها من الجانبين مساحات نظيفةٌ ظللتها أشجارٌ وارفةٌ، وزيّنتها زهور، وورود تفوح عطرا..مساجدُ تألقت بعمارتها الإسلامية المميزة، كما أن الإنسان السويَّ يشاهد الجمال، وينعم به في اللوحة الفنية،في الملابس الزاهية، في ترتيب غُرف المنزل، في الكُتب المزخرفة،في الخط، في ترتيل القرآن الكريم،في زخارف ونقوش الأواني، والأبنية، والفُرُش، والزرابي، في الإيقاع الموسيقي الأصيل والصوت الشجي، في الوزن الشعري العذب، في الكلام الحسن، في الحوار الهادئ، في الاحترام المتبادل، في فنّ الإصغاء للغير، في حُسْن التعامل مع الجار، مع الأقارب، مع الزملاء في العمل، في آداب الأكل، في سلوك النظافة في داخل المنزل وخارجه، في الحفاظ على البيئة.

وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في الطبيعة أفسحُ، وأجملُ، وأكثر جاذبية؛ حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار والطيور وسفوح الجبال، وجداول الأنهار، وشلالات المياه المنحدرة، وكثبان الرمال الذهبية، ومغيب الشمس، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً) (الاسراء:70) وقال أيضا: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)..

كما نسعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية، وفي النجوم المتلألئة ليلا، وفي القمر يغْـمرُ الكون بضيائه..نتذوّق الجمال في الغيمة، في قوس قزح، في الضباب وهو يدثر ما حولنا بغلالة شفافة منعشة، نتذوقه في نزول الغيث، وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة..الجمال نتذوّقه في عيون الضِّباء، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال، في ألوان الأسماك، وشاطئ البحر، ورماله الذهبية، وأمواجه..في حقول الزرع المترامية، في السنابل الناضجة وهي متمايلة بما حملت من ثمار الخير..في الخضار بألوانها المختلفة..في الأشجار المثمرة، وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها اليانعة الشهية، في عراجين النخلة وهي مدلاّة، مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف..وفي الأزهار بألوانها وأريجها.. وفي ملكها الورد بدون منازع.

عموما، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أو الصخور، أو الجبال، أو البحار، أو السماء، أو حتى السحب وتشكيلاتها، تهاطل الأمطار، تساقط الثلوج، أو التعبير الإنساني خاصة في الفنون المختلفة، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي، أو الحسّي، وقد يكون متعلقا بالجانب العقلي أو المعرفي، أو التأمّلي.. قد يتمثّل في حالات صامتة، أو حالات متحرّكة، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة، وقد يكون في وجْهٍ جميل، أو جسد جميل، أو مسرحية جميلة، أو مقطوعة موسيقية جميلة، أو فيلم جميل، أو لوحة فنية جميلة، أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيادي البشر، أو حديقة تولاّها الإنسان بالرعاية والاهتمام

اختلافات هائلة بين تكوينات وحالات الجمال وتنويعاته، فوصفُـنا العام لها بالجميلة إلاّ لكونها تثيرنا وتبعث المتعة والراحة في نفوسنا؛ حيث يوجد الجمال في جميع مظاهر الحياة، في الطبيعة، والمباني، والبشر، والفنون واللغة … كما يوجد في العلوم؛ فالفيزيائي ريتشارد فينمان يرى بأن:« المرْء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها » ويعلن فيزيائي آخر بقوله: « إن الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهمّ مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح ».

كلٌّ تلك موضوعات تجسّد الجمال، بل الطبيعة بأسرها لوحة فنية تفيض بالحسن والجمال، والنفوس السوية تثير لديها الإعجاب، وتتفاعل معها روحيا، إذْ تتحوّل لديها شعرا، أنشودة، عبادة وإجلالا وتسبيحا وتعظيما لمبدع هذه الطبيعة وخالقها.

الجمال الطبيعي نعمة

إن الجمال الطبيعي، وحلاوة أيام الشباب يعتبران ثروة لهما قيمتهما لدى جيل الشباب، والمرء عندما يبلغ هذه المرحلة يكتسب جسمه القوة والنشاط، وتتفتح عواطفه ومشاعره، ويصبح جماله وعظمته بمثابة جوهرة ثمينة تضفي على صاحبها روعة وإبداعاً لهما وقعهما في قلوب الناس. إن عهد الشباب هو أحد المظاهر المهمة للجمال الطبيعي الذي يمتاز به جيل اليوم، فالإنسان إذا هرم فقد القدرة التي كان يتمتع بها في شبابه، وزال عنه جمال الشباب، وفقد وجهه بريقه ونعومته، لذا فإن الشباب هو مرحلة لها عظمتها، وجمالها، ولها الأثر البالغ في تكامل حياة الإنسان ومستقبله. إن الأمم والشعوب تفتخر بنسبة الشباب من بين مجموع سكانها..فقوتها وحيويتها من قوة وحيوية الشباب، وجمالها من جمالهم.

عطاءٌ من فيْضٍ إلهيٍّ..

أين نحن من هذا العطاء الربّاني؟ هل نحسّ بهذا الجمال الفياض في سلوكنا اليومي؟ هل نتذوق القليل أو الكثير في يومياتنا وليالينا؟...هي أسئلة مطروحة علينا أفرادا وجماعات، ولا أعتقد أننا نجهل واقعنا وسلوكنا الذي يجهل ويتجاهل في أغلب الحالات كُنه الجمال ومفهومه، ومعاداتنا لكل ما هو جميل؛ وإنْ جَـهِلْنا التذوقَ الجماليَّ فإننا في نفس الوقت نترفع عن تعلّم التذوق الجمالي، ونرى بأنه من الصغائر التي من العيب أن ننزل إليها، والبعض يراه أنه من الضعف والدونية.. نحن أغلبنا معطوبٌ من الداخل. لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا العطب؟؟

صُور الجمال في الكون والحياة، دليل على قدرة الله تعالى وعظمته وحكمته، والقيم العليا في الديانات السماوية، سيّـما في الدين الإسلامي الحنيف، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية المتمثلة في الحق والخير والجمال، للبشر في كل زمان ومكان، فالخير والفضيلة، والحب والصدق، والعدل والرحمة، والتآخي والبرّ، والطهر والعفاف، وغيرها من الصفات والسُـلوكات الإنسانية الحميدة التي تبعث في النفس الطمأنينة والأمن والأمان..جميعها ينابيع للخير والوفاق وجمال النفس والكون في شموليته الواسعة، والبيئة المحيطة بالإنسان.

1 ـ القرآن الكريم.

2 ـ د. نجيب محمود / هموم المثقفين ص: 249 دار الشروق.ط1 / 1981

3 ـ أ. أحمد الشامي/ الفن الإسلامي ص: 27 دار القلم دمشق ط1 / 1990

4 ـ أ. محمد العرابي/ مجلة عمّان ص: 44 العدد 164 فيفري 2009


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى