السبت ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

اعترافاتُ حيوانٍ منَويّ

أنتَ يا من وُلِدْتَ في الظلام، في الخصى، في كيس الصفن المتدلّي عنوةً كالمشنوق، هناك حيث الأعضاء المخبّأة خلْقياً لتكون مخفيّة ومستورة وذليلة ومثيرة للاستحياء، لأنها عوراتٌ مُخجِلة، ويجب سترُها، وحتى عند بني حيوان تكون مستترة، ومحجوبة عند أولئك الذين لا يعقِلون.

فكيف بنا عند الذين يعقلون؟

ويسمّونك ـ أيها الحيوان المنويّ ـ بذرة الحياة، ولذا يجب دفنك كالبذور، كي تنتش وتعشّش وتطلق جذورك، قبل أن تطلق سيقانك للريح وتنتأ فروعك المشتقّة من أفخاذٍ وبطون.

وما أنت ـ على كبريائك الموهوم ـ إلا كائنٌ مجهريّ برأسٍ لا عيون له، وسوطٍ يسوقك كالأفعى في مجاهل المسالك البولية النتنة، ليتمّ إفراغك كالصّديد اللزج، كالقيح الوبيل، كالقشع ينفثه السّعال، كالمخاط يعتصرونك بعد العطاس، ويغتسلون من دنسك.

ما أنتَ إلا نتيجة لاحتلامٍ ليليّ أواستمناءٍ مُستقبَح، في فراشٍ مرذول هاربٍ عن العيون أو مرحاضٍ شيطانيّ سكنَتْه الأرواح الشريرة.

ما أنت؟

وما أخطأ من وأدَكَ قبل ولادتك بربط الخصى!

انظر ما أجمل الخصيان في بلاط الخليفة، رجالٌ ناعمون كالنساء، بقوّة الرجال العضلية لكنّهم مأمونو الجانب، بلا أذى ولا ضير، لأنك أنت مصدر الأذى، وأنت السُّمُّ الذي يبللون به رؤوس الرماح، فبدونك لا قيمة لطعناتها، وتشفى جروحها بلا عقابيل.

ما أشبهكَ بذكور النحل يربّونها للتلقيح فقط، وتخرج النحلات الذكور بالآلاف في سباقٍ محموم نحو الملكة الطائرة أمامَهم، وواحدٌ محظوظٌ فقط مَن يفوز بتلقيحها، والباقون لا دور لهم، يبترهم الإعياء وقد تأكلهم العناكب وكبار الدبابير.

قل لي عن رحلتك، وأنت تخرج مع رفاقك بالملايين، تتزاحمون في سراديب الأنفاق المظلمة الرّطبة، وواحدٌ منكم فقط سيفوز بتلقيح تلك البيضة القابعة في رحم الدفء، والباقون يبقَون خارجاً أو يعودون أدراجهم في مسالك الخيبة والإتلاف والجفاف.

وفجأة تقمّص ذاك الكائن المجهري شخصية شابٍ عشرينيّ معتدٍّ بنفسه، كماردٍ خرج من قمقمه، وقال حين تكامَلَتْ صورته واكتملت هيئته:

 أبخسْتَني حقّي يا هذا، وتناسيت علوّ مقامي وسموّ مرتبتي على صغري، كالمال أنا أصبحتُ مخزّناً في البنوك، ثميناً كالجواهر النادرة، فأنا ماء الحياة، ولن أتطرّق لحنين العاقر إليّ ولا لشوق المحروم من نعمتي يدفعون الكثير لاحتضاني بالأنابيب المخبرية.

لستُ شبحاً أو جنّياً أتظاهر لك، ولكني أتراءى لك الآن لأدافع عن دفقاتٍ عبثيّة من بني جنسي تنفر أنت منها الآن، وتتفاخر بإراقتها وإهراقها كيفما اتّفق.

اسمع قصّتي، قبل أن تتسرّع وتحكم عليّ بطيش كلماتك على ما فيها من قذفٍ وذم.

يومَها،أحسَسْتُ ورفاقي بالرّعدة في كيان ذاك العاشق المسكين، وتسرَّعَ منه النبض وزاد خفقان قلبه، واندفع الدم من عروقه ساخناً إلى الحويصل المنوي حيث كان يختزننا كالسهام في جعبته، وتحرّكَتْ ساعتَها منّا السياط متلاطمة على الزحام الذي كنا نقبع فيه، تكاد تخنقنا، وكنّا على أهبة الاستعداد للانطلاق نحو الهدف.

وكنت أتساءل ورفاقي إلى أين سيرمي بنا هذه المرّة؟

وكم رمى بأمثالنا إلى اللاهدف، كبصاقٍ يتفله، لمجرّد شهوةٍ ذهنيّة، أو رغبة تبقى فرديّة إذ لم تلقَ استجابةً من شريك.

لكننا هذه المرّة كنّا نحسّ معه بإحساس الصياد الذي كان واثقاً من وقوع الغزالة في الشرَك، وانتظرْنا مثله، وشعرْنا بها تقترب وقد راقت لها التجربة، وكانت الأحابيل منصوبة لها أو له، وما أحيلى أن تقع في فخ الحبّ، واستسَغْنا نحن حميم اللقاء، وتحرّكت منا السياط استعداداً للانطلاق العذب. وترضّبت من الشريكين الأفواه وتبللت الثغور، يحدوهما الشبق المتّقد على وقْعِ الإيقاع المتسارع الذي كنا نتخيّله ونتراقص عليه، وكأنه النفير ولحظة تقرير المصير.

لم يبقَ إلا أن يمتشقَ كنانته، ويشدَّ منها الوتر المرتخي لتنطلق النبال.

وهذا ما جرى!

كالزناد الذي أطلق حمَمه نحو المقتل، والمقتول فاتحٌ لك صدره يتشهّى الموت.

صدّقني، ساعتَها كم تمنّيت أن تكون لي عيون لأرى معشوقته، أتراها سمراء أم شقراء؟ طويلة أم قصيرة؟ وما لون عيونها يا ترى؟

لكنّها ومن صوتها الذي كنّا نسمعه، وتنهّداتها اللذيذة، ورائحة عسيلتها الجذّابة، كل ذلك جعلَنا نبدأ سباقَنا المجنون الذي سبق أن انتقدتَه.

وأنا الذي فزت بالبيضة التي تلقّفَتْني واحتضنتني، طبعاً أنا الفائز لأني ما زلت حياً ولذلك أكلّمك، أما رفاقي المتقاعسين فقد اندثروا في المتاهات المظلمة كشهداءَ لا اسم لهم يلفظون أنفاسهم على النجيع.

أي صديقي، لقد كنتُ حيواناً منوياً، بلا اسم ولا هويّة، كنت نطفة سابقاً كباقي النطاف،وما أكثرها.

أما الآن فباتحادي مع نصفي المتلقّي صرْتُ مضغةً، ومن ثم جنيناً، ثم مولوداً، ورضيعاً شاركتُ العاشقَ في نهود حبيبته، لا بل اعتصَرَتْ منهما النسغ لي لتبقيني حياً، صارت أمّاً بفضلي وكنتُ لها ابناً.

وصار لي اسمٌ مثلك يا ابن آدم، ولي ميراثٌ لم أشقَ بتحصيله.

لكنّي ـ مع ذلك ـ أوافقك الرأي بأنّ رحلتي الجميلة تلك ستنتهي بشقائي أسوة ببني البشر، لأجوع وأبرد وأتلقّى الظلم وأناضل للكفاح ضدّه.

وورثتُ فيما ورثت أمراضاً لا ذنبَ لي فيها

وورثتُ تاريخاً أرضعوني إيّاه مع لبن أمي، ومطلوبٌ مني تبييض صفحاته الملطّخة، أنا الحيوان المنوي صار لي تاريخٌ ومستقبل، وسلالة تنتسخ عني.

قد لا تصدّقني إن قلت لك، بأني كإنسانٍ كامل الآن أنصح بربط خصيتيّ، فلا تنطلق مني نطفة تتعذّب مثلي
وأكثر ما يعذّبني أنني سأحبّ مثل باقي البشر، وسأعشق، وسأبحث عن نصفي الثاني، وسأرمي عليها سهامي، وسيعود تمثيل المشهد بنتيجته وإن اختلَفَتْ تفاصيلُه بعضَ الشيء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى