الثلاثاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم ياسمين مجدي

اكتشاف صوت الكتابة في أعماقك

لحظات تجلي

نحن جميعًا كبشر مندوهون، جئنا الحياة لنقوم بأشياء محددة، ثم نتركها ونمضي، نحن لا نعرف مسبقًا ما علينا فعله، لكن في اللحظة المناسبة يلهمنا الله سر وجودنا. الأدباء، أبناء الإلهام والحلم، يصيبهم ذلك، أيضًا، فيكتشفوا في لحظات تجلي عجيبة أنهم خلقوا ليكونوا أدباءً، يقتنصوا الحكايات، ويضعوها في دفاتر الإرث الإنساني، ولكل كاتب قصة عجيبة تروى، لنعرف كيف اكتشفوا موهبتهم وأي لحظة استنارة تلك التي صنعتهم.

لحظة عجائبية

هناك لحظات مدهشة بدأت طريق الأدباء، كتلك التي عاشها الشاب المصري معاذ شهاب، الذي لايزال ينتظر صدور مجموعته القصصية الأولى للنشر "معلهش مخدتش بالي"، "حين قالت له إحدي قريباته: أنت لازم تكتب، شكلك بتعرف تكتب، فأمسك القلم، وأخبرها حاضر هاكتب، لكنه نظر للورقة ولم يعرف ماذا يخط، منذ تلك اللحظة بدأ الحلم يكبر بداخله، وشرع في كتابة قصصه.

حنا مينة، أيضًا، روائي سوري كبير "لم يقرر في بداية حياته ولا بأية صورة أو داعي أن يكون أديبًا أو روائيًا... وذات يوم جاءهم رجل يدعى الكوزي، وكان مصابًا بالوسواس القهري، وقد كتب حنا على قفا باكيتة سجائر عبارة...وقرأها، فصرخ الكوزي، ملوحًا بيديه إلى السماء بوجه والد حنا، قائلاً: يلعن أبوك يامينة، ابنك كلّم الورق"، ومنذ ذلك المساء الذي بكت فيه أمي من الفرح – يقول الكاتب – صرت أكلّم الورقة وما زلت اقترف هذه الخطيئة إلى يومنا هذا"

لحظات عجيبة أخرى، لكنها مؤلمة حدثت للكاتبة اللبنانية فينوس خوري غاتا، التي شاهدت انكسار أخيها الشاعر البالغ 18 عامًا، حين ذهب إلى فرنسا، متأكدًا أنها سترحب بأشعاره، لكنه عاد إلى لبنان بدون حلمه مريضًا بالمستشفى، فولِدت الكتابة بداخل فينوس، كما تروي: "يوم اللي عرفت إنه ما راح بحياته يكتب شعر كتبت محله، كتبت على دفتره، كتبت مع ستايله تبعه بقلمه، ومن وقتها ما توقفت حتى خبَّرت قصة أخي بكتاب اسمه بيت على حافة الدموع. يمكن لو أخي كان كفى يكتب يمكن ما كتبت، كان واضح إنه هو ما عاد يكتب لازم حدا يكتب محله".

لحظة انكسار أخ فينوس، كانت لحظة ميلادها، وفقًا لكلامها: "الصفحة البيضاء هذه صارت وطني، لازم أعبئها أشخاص جايين من بلدي، أموات بلدي، لأنه مئتان ألف شخص ماتوا بالحرب... بيكفيني إنه أفتح الكتاب لحتى ألاقيهم بيتركوا الصفحة البيضاء، بيتركوا الصفحة، وبينزلوا على الشارع، وبيمشوا كأنهم أحياء". تلك هي فينوس، التي كتبت:
"النهر الذي طاف بحقلها ترك لها قفصا بدون كناري
ووردة قديمة يستخف بها النحل
الكناري الذي لها لم يكن عصفورًا ولا بشرًا
وإنما أغنية تنشدها حين يصغر قلبها ويأخذ حجم جوزة
تنطوي على نفسها، رأسها بين الركبتين، عندما يطرق الخبب مرآتها الغيوم التي أصبحت مجنونة تعتبر نفسها أحصنة".

لحظة ألم أخرى تلد كتابة، حينما يسخر الأصدقاء من الطفل الصغير فؤاد مرسي، لأنه لديه مشاكل في النطق، يعاني من اللثغة في لسانه، ينطوي، ويحزن، فتتفجر الكتابة، التي هي الحل الوحيد لينتصر، ويعيش، ويحب على الورق، حين يلونه بحكاياته الوهمية، فيكتب الروائي المصري فؤاد مرسي ليثأر لوجوده، ويصبح أحد الأصوات، التي ترصد لتاريخ مدينة "بنها".

البنجلاديشي غلام خير، بائع ورد بسيط، تتحول جروح الغربة عنده إلى كتابة، كما يقول: "قدمت إلى ألمانيا، هربًا من الملاحقة السياسية... وعند محاولتي الاتصال بأسرتي رفضوا الحديث معي...وقالوا أنك تعيش عيشة الملوك، وتربح من المال الشيء الكثير...فما كان مني إلا أن أعقد العزم على شرح ما أنا فيه، وهذا لم يكن ممكنًا عبر الهاتف، فبدأت بكتابة رسالة. اصطحبني ابن صاحب مسكني.. في حلقة أدبية...وعندما سُئلت عما إذا كتبت شيئًا أشرت إلى الرسالة، التي اخذتها معي، وعندما قرأت المشرفة على الحلقة صفحتين منها أبدت إعجابها". وصدر كتاب غلام خير "بائع الورود" ولاقي نجاحًَا كبيرًا، وعلى الرغم من ذلك مازال خير يحمل باقات الزهور في الحي الطلابي بمدينة دورتموند"

لحظة الحب

لحظة الاكتشاف قد تكون هي لحظة الحب، كما حدث، مع الروائي المصري مكاوي سعيد، فبقراءة رواياته تتكرر فتاة بعينها وهي حبيبة البطل، وزميلته في الجامعة، التي كانت المحرك والدافع له ليكتب، وهذا النموذج حقيقي في حياة الكاتب مكاوي سعيد، حين أحب زميلته في الجامعة، فأصرت على أن تتابع يومًا بيوم ما يكتب وتحرضه على النشر، وترسل من وراءه ما يكتب للمجلات. ولولا تلك القصة الأولى في حياة مكاوي سعيد ربما لم يكن ليكتب ويدرك أن وراءه مشوارًا أدبيًا مهمًا عليه إنجازه، وتمضي تلك المرأة الأولى من حياته، ويبقى ألق الوهج الذي أشعلته في حياته. وربما هذا ما يجعلك ترى مكاوي سعيد الآن يستقبل في المقهى كتابًأ شبان يسعون للنشر، وينفرد بالخجولين منهم، حين يدسون في يده مخطوطاتهم الأولى في كيس من النايلون.

اللحظة الفارقة الثانية في حياة مكاوي سعيد حينما رحلت الحبيبة، وظل يكتب القصص ويذهب للندوات، وفجأة، في أحد الندوات قرأ قصة، فأخبره الكاتب توفيق حنا أنه موهوب وأن أسلوبه يشبه تشيخوف. فآمن مكاوي في نفسه، بسبب تلك النصيحة، واستمر في الكتابة، كما استمر حتى اليوم بعد نجاحه في البحث عن الكاتب توفيق حنا ليشكره، لكنه لا يستطيع الوصول إليه أبدًا، بعد هجرة حنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

يتكرر المثال لدى الكاتبة الإيطالية أوريانا فالاتشي، التي حينما قابلت البطل اليوناني أليكسندروس بناجوليس كانت تلك اللحظة فارقة في حياتها والبوابة لتدخل عالم الأدب. مجرد حوار صحفي مع هذا البطل، جعلها تحبه، وتكتب عند اغتياله أولى رواياتها "إنسان"، فـ"الرجل الذي صنع الكاتبة أوريانا هو نفسه الذي تحدثت عنه في كتابتها "إنسان"، الذي نشرته عام 1983... ولم تكن أوريانا فنانة، لكن التجربة الإنسانية فجرَّت، فجأة، فيها كل إبداع وعطاء العالم". فلربما حينما قابلت أوريانا ألكسندروس رأت في عينيه مهمتها الحقيقية وأنه قد آن لها كصحفية أن تلعب دورًا مختلفًا، وتضع بعض الحكايات في التاريخ، تتركها للناس ليحصلوا على أرث الحكايات. لأنهما حينما تقابلا لأول مرة قال لها ألكسندروس: "هاك!! ها قد جئت!" "إنني كنت في انتظارك" كان صوتًا له رنين خاص ما كدت أسمعه حتى أحسست أني فقدت سكينة النفس إلى الأبد!.

لحظة مواجهة نادرة

بدون أي توقع قد تكتشف أنك كاتب، كما حدث مع الروائي المصري الشاب محمد صلاح العزب، الذي يجد نفسه وحيدًا في البيت، بعد خروج أهله جميعًا من المنزل، فيمسك بالورقة والقلم، ويقرر القدر له أن يبدأ روايته الأولى "ممر ضيق يجبرك سقفه على الإنحناء"، وللمرة الثانية يعدِّل القدر من مسار العزب، لأنه أراد أن يكتب قصة عن عائلة ممسوخة تعيش منفصلة عن الناس، لكن العزب لا يعرف كيف أصبحت قصة روايته عن شاب عدو الشمس يحاول أن يكافح قبح صورته وسطوة أبيه.

ربما تكون هي النداهة التي تترصد للكتاب فجأة، فالقاص المصري زكريا صبح لا يعرف حتى الآن سر ما حدث في طفولته، عندما وجد أصدقاءه يقفون عند بائع الجرائد ويشترون كتب. شيئًا بداخله أصر أن يحصل على الكتب مثلهم، فذهب لأمه لتعطيه خمسين قرشًا، لكنه لم يكن معها. لماذا أصر لحظتها لا أحد يعرف سوى أن قدرًا ما كان يختبئ له في الكتب. وستظل الصدفة تحمل صبح إلى الكتابة، فيأخذ صديقه مجموعة من قصص صبح، ويقدمها في مسابقة الجامعة، فتفوز. ولا ينسى بعدها صبح أبدًا هذا الصديق، الذي يسكن في باب الشعرية، والذي ساعده على بدأ حلم لم يكن يتوقعه.

مثل تلك اللحظات صنعت حياة البريطانية Jk roling، صاحبة كتاب هاري بوتر، حين منيت بفشل كتبها، وفجأة، "كانت عائدة بالقطار من إجازة من "مانشستر"، وبينما كانت تنظر عبر النافذة، تخيلت صبيًا يكتشف أنه ساحر من دون أن يعرف ذلك، وهكذا ولد هاري بوتر في مخيلتها ومن لحظة حلم ولدت حياة رولنج كلها.

الصدفة الملهمة صنعت، أيضًا، أجاثا كريتسي، "التي كانت تحب قراءة الروايات البوليسية، وقد حملها حبها هذا إلى مناقشة أختها ومجادلتها أعنف المجادلات، فقد أدَّعت الأخيرة بأن قارئ الروايات البوليسية يخمن القاتل، ويعرف شخصيته، بمجرد أن يقرأ الصفحات الأولى من أي رواية، ولكن مسز كريستي أجابتها بأنها تعتقد أنها تستطيع أن تفعل عكس ذلك، ورفضت أختها أن تصدقها، ومن هذا الرهان العجيبب تولدت رواية قضية قصر ستابلس الغامضة".

وليام شكسبير نفسه يعتقد بعض المؤرخون "أنه امتهن حراسة خيول رواد المسرح الأثرياء، والذين كانوا يتركونها خارج المسرح، ومنهم من يقول أنه عمل كخادم في المسرح. ولكن الأرجح أنه عمل كمساعد ملقن مستعينًا في ذلك بمحصول دراسته الأدبية في الأدب الإنجليزي". وهذا يؤدي إلى نتيجة واحدة أن شكسبير حين رأى المسرح برقت عينيه، ونبت حلمه، ليصبح أكبر الكتاب المسرحيين عبر التاريخ.

ستبرق الفكرة، فجأة، لدى الكاتبة الشابة المصرية شيماء زاهر، التي وجدت نفسها محاطة بأبناء أخيها، فحكت لهم قصص جعلتها تشعر أن بداخلها حكايات كثيرة تريد روايتها، فكانت مجموعتها الطفولية الأولى "البلياتشو" 2005، "كنت أريد الهرب من العالم المظلم بالكلام عن عالم الأطفال عبر البلياتشو، وعسكري المرور، وحكايات الجدة".

شخصيات

هنك لحظات ألهمت الكتاب بأبطال لرواياتهم، فنجد ذلك مثلاً مع أحد الروائيين، الذي عاش تجربة صعبة في طفولته، حين تحرش به خادمه، ومن تلك اللحظة المؤلمة يبني عالمًا رائعًا في روايته، لأنه جاء ليرصد التاريخ الإنساني بقبحه وحلاوته، حتى ولو من جروحه الخاصة.

والروائي الكندي يان مارتل، أيضًا، يراوده الشك حيال إكماله لمسيرة الكتابة بعد فشل إصداراته السابقة، "فقال لنفسه: أول ما فعلت ذلك، فكرت إلى أين أنت ذاهب؟ أين تذهب بعد تجربة تحطيم الروح تلك؟ كيف تعيش مع الشر؟. فذهب مارتل إلى الهند. وهنا يكتب مارتل رواية حياة باي2001، التي غيرت مسار حياته الأدبية. وعن اللحظة التي ألهمته بكتابة الرواية، يقول: منذ عشر سنوات قرأت مراجعة نقدية لكتاب في جريدة النيويورك تايمز كتبها جون أبديك. وكان الكتاب عن يهودي انتهى به الأمر في مركب في البحر مع رفيق أسود. وبعدها وجدت نفسي في رحلتي بالهند أبحث عن قصة، كان عمري وقتها 34 عامًا، كتبت كتابين لم يباعا، وحققت لا شيء في حياتي. ووسط هذا اليأس في الهند تذكرت تلك القصة، وفجأة جزء كبير من القصة تجمع بداخلي بسرعة"، "لتحصد رواية حياة باي جائزة البوكر الأدبية 2002... وتم نقلها لأربعين لغة مختلفة"

بعد أن قرأت كل تلك البدايات ولحظات الاستنارة التي ولد منها الكتاب، فتشت في ذاكرتي عن تلك اللحظة في حياتي، فأدركت أنني كنت تلك الطفلة الوحيدة، التي تراقب الناس من نافذة بيتنا في الدور الخامس وبعض ضيوف نادرين يأتون البيت، وكلما ضاقت دائرة الواقع حولك، وقل الناس، اتسع خيالي، لأنني سأشاهد حكايات الحياة من النافذة بإعجاب واندهاش، أتفرج على الحياة من الخارج، لاكتشف في أحد اللحظات أن كل ذلك يتحول إلى حكايات عبر الورق، وهؤلاء الناس الذين لم يلتفتوا لي في الحياة العادية أمسكت بهم في قصصي المدفونة في دفتري الأحمر. بالنسبة لي لحظة التجلي تشكلت عبر لحظات من التألم والصمت الطويلة، في طفولة راقبت فيها الناس، دون أن يرونني أو يعرفوا حتى بوجودي. وفي لحظة ملل في الإجازة الصيفية أُخرج ورقة، وأجدني، فجأة، أكتب قصة وأنا في التاسعة من عمري، بعنوان "يوم مثير"، وأخيرًا تتحول ذكرياتي من نافذة بيتنا في الدور الخامس إلى حكايات. لأدرك أن كل كاتب مر بلحظة تشبه البرق غيَّرت مجرى حياته، فتجلت له الحقيقة، ووصل لما هو مندوه لفعله، لينقل تلك الحياة البديعة المتوحشة إلي الورق.

 [1]


[1

ندوة "الندوة الأولى.. الإصدار الأول"، في آرت اللواء بالقاهرة، 4/3/2009.
محمد عاطف، الروائي حنا مينة كنورس فوق السطوح يراقب أخبار البحر المتألق، http://www.almannarah.com/NewsDetails.aspx?CatID=11&NewsID=5409، 5/6/2009.
برنامج موعد في المهجر، قناة الجزيرة، 2/8/2007.
المصدر نفسه.
فينوس خوري غاتا،ديوان رأفة الحجارة، 2003.
لقاء مع فؤاد مرسي، في مجلة "الثقافة الجديدة"، القاهرة، 2008.
أحمد فاضل، جريدة المنارة العراق، العدد588، 10/6/2009، ص9.
لقاء مع مكاوي سعيد، في مقهى البستان، القاهرة، 2006.
أوريانا فالاتشيي، رواية إنسان، ت. محمود مسعود،القاهرة، دار الهلال، 1990، ص7
المصدر نفسه، ص171.
لقاء مع محمد صلاح العزب، في السيدة زينب، القاهرة، 2008.
لقاء مع زكريا صبح، في فيصل، القاهرة، 2009.
جيني ويزلي، جي كي رولنج وقصة النجاح الطويلة، http://www.ar-hp.com/vb/showthread.php?t=5376، 6/6/2009
أجاثا كريستي، رواية الليل الطويل، ت. محمد عبد المنعم جلال، القاهرة، دار الهلال، 1982، ص7
وليام شكسبير، رواية تاجر البندقية، حمدي السعداوي، القاهرة، مكتبة معروف، د.ت.، ص4.
ندوة "الندوة الأولى.. الإصدار الأول"، في آرت اللواء، القاهرة، 4/3/2009
رواية: حياة باي - يان مارتل، http://www.alsakher.com/vb2/showthread.php?t=112200، 4/6/2009.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى